رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
سيكلوجية الشهداء | صلواتهم وأدعيتهم لحظة استشهادهم لقد احتفظت لنا الكنيسة في ذاكِرتها بأعمال الشُهداء وأقوالِهِم وبطولاتِهِم واعترافِهِم حتى سفكوا دمائِهِم بفرح، ومن هذه الصلوات والأقوال نتعرَّف على روحهم ومعنوياتهم وسيكولوچياتهم، تلك التي كانوا يعيشونها لحظات تعذيبهم وقبيل ذبحهُم في ميادين الاستشهاد وساحاته، إنَّ هذه الصلوات والأدعية تفصِح عن غِنَى وعُمق النَّفْس الداخلية بتعبيرات تفوق كل أدب وبيان إنشائي.. إنها تكشِف لنا عن معدن هؤلاء البواسِل المُجاهدين، وتربيتهُم وسيكولوچياتهُم، وإيمانهم وسلامِة نياتهُم، وثبات مقصِدهم في تلك الساعة الحاسِمة.. إنها أدعية وصلوات قصيرة سهميَّة مُوجهة إلى الثالوث القدوس، لأنَّ الشهيد، بينما يُعذَّب، كان يُصلِّي ويتضرع ويشكُر ويُناجي الرب الذي عشقه ومن أجله تألَّم، طالِبًا المعونة الإلهية والثبات، طالِبًا الصفح والغُفران، بروح خشوعية تشعُر بعدم الاستحقاق، وكذا الصلاة من أجل المُعذبين، كما فعل إستفانوس رئيس الشمامِسة العظيم أوِّل الشُّهداء مُتمثِلًا أيضًا بدوره بالرب.. ولا يغيب عن بالنا أنَّ سِيَر الشُّهداء منذ العصور المُبكرة للكنيسة قد دخلت ضِمن العبادة الليتورچية، فلا يمكن أن نحتفِل بعيد شهيد إلاَّ من خلال القداس الإلهي. وهذه الصلوات والأدعية التي ردَّدها شُهداء الكنيسة وهم في القيود والسلاسل مُحاطين بالنيران والأُسود الضارية، والسيوف المسنونة والوحوش الجائِعة، والجنود والحرَّاس مع الغوغاء والسوقة من الجموع الهائِجة الثائِرة إنما هي ترجمة تعبيرية حياتية عن خبرة واختبار طالما عاشوه ومارسوه وتذوقوه ثم أتوا لكي يُختم عليه بالبركة الإلهية، بنوال نعمة إكليل الشهادة.. إنها أدعية تلقائية، وهي أول شهادة على الصلاة الشخصية النابِعة من صميم الحياة الباطنية الأصيلة والمُعبِرة بأقصى ما يمكن من الوضوح عن روح الشهيد المعنوية ونفسيته وهو في طريق الشهادة. وامتزجت هذه الصلوات بالاعتراف بالإيمان في لحظات العذاب والألم وقبل الموت مباشرةً، ولا شئ يمتحِن النَّفْس ويختبِرها أكثر من الموت والعذاب، ولا شيء أعظم من الاستشهاد الذي تنبُع عظمته من الدم والنار والعذاب، والذين سجَّلوا لنا هذه الصلوات كانوا من الشهود الذين عاينوا الأحداث نفسها، وتُعد هذه النصوص من أقدم الصلوات، التي دوَّنها أُناس كانوا قريبين من النار والسيف ثم أسلموا أرواحهم لله. ولم تترُك الكنيسة هؤلاء في السجون بدون زيارة بل حتى في ساحات الاستشهاد وميادين العذابات كانت تقِف لتُشجِع الذين يُلقون في النيران والذين يُصلبون والذين يُلقون للوحوش والذين تتقطَّع أعضاءهم أو رِقابهم بالسيف، ومع فظاعِة العذاب كان المُشجِعون من الكنيسة في سلام تام، وكان المؤمنون يقِفون حول مواقِع التعذيب بعضهم يُصلِّي وبعضهم يُرتِل وبعضهم يكتُب ما تفوَّه به هؤلاء الأبطال من رجال ونِساء، ولعلَّ هذه الصلوات هي أصل قراءِة سِيَر الشُّهداء في الاحتفالات. وهذه الصلوات وإن كانت قد خرجت من قلوبِهِم غير مُرتبة وغير محفوظة إلاَّ أنها كانت تلقائية تُقدَّم لاسم يسوع الاسم الحُلو المملوء مجدًا، الاسم المُبارك والكريم الذي كل من يدعو به يخلُص.. ومن الناحية اللاهوتية هناك عبارات كثيرة تُعبِّر عن الإيمان بالثالوث وبآلام المسيح وفدائِهِ وعمله الخلاصي، مع الإشارة إلى فاعلية وبركات السرائِر المُقدسة. ومن الناحية الروحية هناك اهتمام بسلام الكنيسة وبطلب الغُفران للذين عذَّبوهم..يجتازون العذابات بلا شكوى ولا اعتراض، ومع كل ألم يذوقون مجد المسيح عيانًا برؤيا منظورة ومحسوسة، ويسمعون تشجيع سماوي من طغمات الشُهداء السابقين، بل والمسيح نفسه ترآى لكثيرين ليُعينهم ويسنِد بشريتهُم، لذلك تقدَّموا للشهادة بنفسية هادِئة مُتهلِلة، بعيدة عن التذمُر وروح الانتقام.. وكل الذين شهدوا موت الشُهداء عن قُرب، رأوا سيكولوچيات واثِقة شجاعة، ولمسوا معونة السماء، واطَّلعوا على جمال الأبدية والأصوات الملائكية ورائِحة عِطر دِماء الغالبين التي هي أجمل من رائِحة البخور، فكانت الروائِح السماوية تفوح منهم قبل وبعد الاستشهاد بحسب شهادِة يوسابيوس المُؤرِخ الشهير. لقد تعلَّم الشُهداء أنَّ بدايِة الصِراع مع التنين (الشيطان) هي في المعمودية، لأنَّ المسيح مُخلِّصنا صرع التنين، وكل صلوات المعمودية القديمة تحتوي على اقتباس من (مز 74: 13) ”أنت شققت البحر بقُوَّتك وكسرت رُؤوس التنانين على المياه“. ويتوقع الإنسان المسيحي ديمومة الحرب مع التنين (الشيطان) لكي ينتصِر المسيحي عليه بقُوَّة المسيح، وتُؤكِد هذه الصلوات وقِدَمِها على الأصالة والقُوَّة، في وصف سيكولوچية شُهداء الكنيسة الأمجاد. فعندما يبلُغ الشهيد لحظِة الاستشهاد، بعد العد التنازُلي، تأتي لحظِة الحُب المُشبَّع بالإيمان والرجاء الحي، فيتكلم الشهيد بما ليس من عنده، لأنَّ روح الله يُعطيه ما يتكلَّم به. لذلك كان المسيحيون يتقاطرون حول الشُهداء في لحظاتِهِم الأخيرة يتنسمون رائِحتهِم ويتلمسُّون بركَتِهِم ويتقبلُّون نصائِحهِم ويتزاحمون على لمس أجسادِهِم ويأخذون بَرَكِة دمائِهِم. قد يظن البعض أنَّ الشهيد حينما يُواجِه حكم الموت، يفقِد فلسفته في الحياة ودُعابتها المُقدسة، كأن يكتئِب ويتجهَّم مثلًا ويصِر بأسنانه ويضيق ذراعًا بمُضطهديه... لكن هذه الصلوات والطِلبات والزفرات الروحية إنما تكشِف عن فلسفة الموت عند شُهداء الكنيسة، ويذكُر الأدب الاستشهادي، نماذِج من صلوات أُولئِك الذين واجهوا الموت إكرامًا لاسم الفادي. |
|