مفهوم الصوم
1- تلزمنا الكنيسة الصوم فترة انقطاع عن الطعام حتى نجوع، فقد جاء السيد المسيح (مت4:2) مشبع النفوس والأجساد، وجاع الرسل في أصوامهم (أع10: 1: 2كو 11: 27). وبعد الانقطاع لا ننغمس في المشتهيات بل نلتزم بمأكولات معينة بلا دسم (1):
"لم أكل طعاما شهيا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر" دانيال 10: 3.
"خذ أنت لنفسك قمحا وشعيرا وفولا وعدسا ودخنا وجرسنة" حزقيال 4: 9.
"ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمى هزل عن سمن" مز 109: 24.
ومع هذا فالصوم ليس امتناعا عن الطعام والشراب، ولا عن المشتهيات، لكنه في جوهره تعبير عن حبنا لله الذي بذل ابنه الوحيد لأجلنا. إن كان السيد المسيح أسلم نفسه لأجلي (غل 3: 20)، بدوري أود أن أموت من أجله كل النهار (رو8: 36). لهذا يرتبط صومنا عن الطعام بصومنا عن كل شر وشبه شر، بل وبنمونا الروحي الدائم، فنقدم صوما مقدسا للرب.
هذا ما حدثنا عنه البابا أثناسيوس بشيء من التفصيل وبقوة في رسالته الفصحية الأولى، إذ جاء فيها: [حينما نصوم يلزمنا أن نقدس الصوم (ي2: 15).. نحن مطالبون بالصوم، لا بالجسد فقط بل وبالروح أيضا. فالروح يتضع حينما لا يتبع الأفكار الرديئة بل يتغذي بالشوق إلى الفضيلة.. ربنا ومخلصنا يسوع المسيح هو الخبز السماوي، لهذا فهو غذاء القديسين.. بينما الشيطان هو غذاء الدنسين، الذين لا يصنعون أعمال النور بل أعمال الظلمة.. متى حفظ الصوم مقدسًا، لا يؤدي إلى التوبة فحسب، بل يعد قديسين ويسمو بهم فوق الأرضيات].
2- خلق الله أجسادنا صالحة، تعمل مع نفوسنا تحت قيادته لتتمم إرادته الإلهية. الآن إذ خضعت نفوسنا لشهوات أجسادنا الشريرة خلال العصيان صرنا جسديين (رو7: 14). بالصوم نرجو في المسيح أن نخضع أجسادنا بالروح القدس لنحيا في الروح وليس حسب الجسد (رو8: 12 الخ). حقا كرز القديس بولس بالإنجيل لكثيرين لكنه كان يحذر من جسده، مخضعا إياه بالصوم حتى لا يكون هو نفسه مرفوضا (1 كو9: 27).
3- خلال الصوم نطلب أن نتحرر من "الأنا"، فنصوم عن حب ذواتنا كما عن الطعام: نمارس الحب لله خلال حبنا لأخوتنا أو خلال حبنا لكل كائن بشري، بفضل نعمة الله. لذا يقول القديس بولس: "وإن سلمت جسدي حتى احترق وليس لي محبة لا أنتفع شيئا" (1 كو 13: 3). لهذا يلزم أن يرتبط الصوم بالشهادة لله المحب خلال تقديمنا للصدقة وجهادنا من أجل خلاص البشر. في الكنيسة الأولي كان كثير من الموعوظين يتمتعون بالعماد في ليلة عيد القيامة أو الفصح المسيحي، إذ غالبا ما كانت الكنيسة تكسب الكثيرين بكرازتها وقت الصوم الكبير (قبل العيد). أو خلال السنة بروح الصلاة والصوم مع الشهادة العملية وكلمة الإنجيل لتهيئتهم بالأكثر في فترة الصوم لقبول العضوية في جسد المسيح.
أما من جهة البذل القلبي المترجم عمليا بالعطاء، فإلي يومنا هذا نعتبر فترة الصوم الكبير من أغني أوقات السنة التي فيها يقدم المؤمنون الكثير للفقراء والمحتاجين، متذكرين كلمات الكتاب: "أليس هذا صوما اختاره؟! أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلي بيتك؟!" (إش 58: 3-7).
في القرن الأول التحم الصوم بالصلاة (حب الله المباشر) والصدقة (حبنا له خلال إخوتنا) فجاء كتاب الراعي لهرماس يحثنا علي تقديم ما توفر خلال الصوم من مال إلى الأرملة واليتيم (2)، ويطوب العلامة أوريجانوس (3) الذين يصومون فينعشون الفقير، وأما القديس أغسطينوس (4) الذي سجل لنا كتابا كاملا عن الصوم فيشعر أن من يصوم ولا يقدم ما فضل عنه خلال الصوم للفقير يكون قد مارس "طمعًا" لا "صومًا".
4- أيام الصوم هي أيام توبة وتذلل لكنها في نفس الوقت أيام مفرحة ومبهجة خلال خبرة النصرة والغلبة التي يتذوقها المؤمنون في حياتهم الداخلية. الصوم لا يعني تعبًا وضيقًا وتبرمًا، لكنه فرح وتهليل داخلي بالله العامل فينا.. هذا ما تلمسه في الكنيسة القبطية خاصة في أسبوع الآلام فمع ممارسة المؤمنين للنسك في أشد صورة بالنسبة لبقية الأصوام، لكنك تشعر بعلامات الفرح الحقيقي وتعزيات الروح التي تملأ القلب. هذه الخبرة يسجلها لنا البابا الإسكندري القديس أثناسيوس: [ليتنا لا نترك هذه الأيام تمر علينا كمن هم في حزن، إنما إذ نتمتع بالغذاء الروحي تحمد شهواتنا الجسدية. بهذه الوسيلة نقدر أن نغلب أعدائنا (الشياطين والشهوات) كما صنعت الطوباوية يهوديت (يهوديت 13: 8)، إذ تدربت أولا علي الأصوام والصلوات، بهذا غلبت الأعداء وقتلت أليفانا] (5).
الصوم ليس مجالا لتقديم عذر لنفسك علي غضبك، وإنما هو مجال لاتساع القلب بالحب والغلبة علي روح الغضب والأنانية وكل حب للذات!