طبيعي أن الذي لا يستطيع الاستغناء عن أكله، يكون من الصعب عليه أن يستغني عن الحياة كلها.
أما النفوس القوية التي تتدرب علي احتمال الجوع والعطش، والتي تستطيع أن تخضع أجسادها وتقهر رغباتها وشهواتها، هذه بتوالي التداريب، وبعدم الاهتمام بالجسد واحتياجاته، يمكنها في وقت الاستشهاد أن تحتمل متاعب السجون وآلام العذاب، وتستطيع بنعمة الله أن تقدم أجسادها للموت.
لهذا كان الصوم مدرسة روحية تدرب فيها الشهداء.
ليس من جهة الجسد فقط، وإنما أيضًا من جهة روحانيه الصوم: لأنه إذ تكون أيام الصوم مجالًا للعمل الروحي والتوبة والاقتراب إلي الله، تساعد هذه المشاعر علي محبة الأبدية و عشرة الله، و بالتالي لا يخاف الإنسان من التقدم إلي الموت، إذ يكون مستعدا للقائه، بل أنه يكون فرحًا بالتخلص من الجسد للالتقاء بالله، ويقول "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، فذاك أفضل جدًا" (في 1: 23).
بالصوم كانت الكنيسة تدرب أولادها علي الزهد. وبالزهد كانت تدربهم علي ترك الدنيا والاستشهاد. فالذين استشهدوا كانوا في غالبيتهم أهل صوم وصلاة وزهد في العالم. وكما قال القديس بولس الرسول "يكون الذين يستعملون العالم، كأنهم لا يستعملونه، لأن هيئة هذا العالم تزول" (1 كو 7: 31).