29 - 01 - 2014, 05:58 PM | رقم المشاركة : ( 11 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 69 - تفسير سفر المزامير صرخات طريديُعتبَر المزمور 22 من أكثر المزامير التي اقتبس منها العهد الجديد، يليه مباشرة هذا المزمور. لهذا كثيرًا ما يُفَسَّر كمزمور مسياني يشير إلى شخص ربنا يسوع المسيح وعمله الخلاصي. ليس من دارس يتجاهل سمة هذا المزمور كمسياني، لكن التساؤل بينهم هو: هل هذا المزمور نبوي، يسجله داود المرتل متنبئًا عما يتم بمجيء المسيح وتحقيق عمله الخلاصي، أم هو رمزي، بكون داود الكاتب كان رجل الآلام يتحدث عن نفسه كرمزٍ للسيد المسيح. اقتباسات العهد الجديد أ. مز 69: 4- يو 15: 25. ب. مز 69: 9- يو 2: 17؛ رو 15: 3. ج. مز 69: 21- مت 27: 34، 48؛ مر 15: 23؛ يو 19: 28-29. د. مز 69: 25- أع 1: 16، 20 يقول ثيؤدورت أسقف كورش: [إنه نبوة عن آلام المسيح، والدمار النهائي لليهود بسبب ذلك.] سماته 1. يرى كثير من الدارسين نوعًا من الشبه بينه وبين المزمور 22. 2. في النص العبري يتسم المزمور بروعة الأسلوب وإبداع في الشعر. 3. يمثل المزمور مرثاة شخصية لنفسٍ مرة بسبب كثرة المقاومين وعنفهم، لكنه كأغلب المزامير التي تمثل مراثي تنتهي بتسبحة شكر لله وفرح عظيم بخلاصه. ابتداء من الآية 30 تتحول المرثاة هنا إلى تسبحة شكر. 4. غالبًا ما كان يُسبَّح بهذا المزمور في العبادة الجماعية، ليهب تعزية للنفوس المُتألِّمة. إنه يلهب القلوب نحو الغيرة على بيت الله [9]، واحتمال الألم من أجل الله [7، 9]. أقسامه 1. مرثاة تنبع من القلب 1-12. 2. صرخة لأجل الخلاص 13-21. 3. مجازاة الأشرار المقاومين 22-28. 4. تسبحة نصرة 29-35. من وحي مز 69 العنوان لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. عَلَى السَّوْسَنِّ. لِدَاوُدَ ذِكْرُ "على السوسن" وُرِدَ في عناوين المزامير 45 و69، 80. يدعو القديس أغسطينوس المزمور 45 مزمور حجال الملك، إذ هو مزمور حفل الزواج السماوي بين السيد المسيح وعروسه الكنيسة، الملك والملكة الجالسة عن يمينه، المخلص وشعبه المفديين بدمه. والمزمور 69 هو مزمور الصليب، حيث يحتمل السيد المسيح الموت من أجل عروسه. والمزمور 80 خاص بالكرمة التي نقلها الرب من مصر- أرض العبودية- إلى أرض الموعد، هذه التي غرستها يمينه. فالمزامير الثلاثة تخص الكنيسة العروس، الملكة، التي قدَّم لها عريسها مهرها دمه الثمين، والتي غرسها بنفسه ويتعهدها. هذه العروس التي يقول عنها العريس: "كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات" (نش 1: 2). إنه مزمور خاص بالمهر الذي يُقَدِّمه المُخلِّص عن عروسه المحبوبة لديه! 1. مرثاة تنبع من القلب خَلِّصْنِي يَا اللهُ لأَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي [1]. يبدأ المرتل وصف حاله كمن هو في وسط بحر من الضيقات والمتاعب. يبدو كأنه إنسان في حالة غرق، تبتلعه الدوامات وأمواج البحر الثائرة ضده. هذه هي مشاعر يونان النبي وهو في جوف الحوت: "لأنك طرحتني في العمق، في قلب البحار... جازت فوقي جميع تياراتك ولُججك" (يون 2: 3). في موضع آخر يقول المرتل: "نشلني من مياه كثيرة" (مز 18: 16). يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح وحده بإرادته قبل الموت، أما نحن وإن كنا لا نَقْبَله بإرادتنا، إلا أننا نحتمله بصبرٍ، لأنه هو الطريق الوحيد للالتصاق به. يليق بنا أن نشرب المَرَّ الذي قدَّمه اليهود للسيد المسيح في وقت آلامه. حقًا إن الملذات الزمنية لذيذة، والتجارب المؤقتة مُرَّة، لكننا نستخف بملذات العالم من أجل عذوبة الحياة الأبدية. * يقول إن المياه دخلت إلى نفسه، لأن تلك الجموع التي أشار إليها تحت اسم المياه قادرة أن تحقق قتل المسيح... لهذا هل هو يصرخ كمن يتألم بغير إرادته، إلا لأن الرأس هنا يمثل الأعضاء (المتألمة). لأنه هو تألم لأنه أراد، أما الشهداء فلم يريدوا ذلك. فقد سبق فأنبأ لبطرس عن آلامه، قائلًا: "متى شخت فإنك تمد يديك، وآخر يمنطقك، ويحملك حيث لا تشاء" (يو 21: 18). فمع أننا نرغب في الاقتراب من المسيح إلا أننا لسنا نريد الموت. ولذلك بإرادتنا أو بالصبر نتألم لأنه لا يوجد طريق آخر يُعطَى لنا (سوى الألم) لكي نلتصق بالمسيح. القديس أغسطينوس * لا تأتمن نفسك في أشياء تفيض دومًا، حتى تستطيع أن تقف ثابتًا. ليس من يستطيع أن يقف على الماء، إنما يجد الكل أمانًا عن الوقوف على صخرة الأمور الأرضية مثل الماء، مثل سيل جارف يعبر. يقول: "المياه قد دخلت إلى نفسي" [1]. الأمور الروحية صخرة، إذ يقول: "أقام على صخرةٍ رجليَّ" (مز 40: 2). الأمور الزمنية مثل وحلٍ وطينٍ، ليتنا نتخلص منها. فإننا هكذا يمكننا أن نبلغ إلى ظهور المسيح[88]. القديس يوحنا الذهبي الفم لم يكن داود النبي بالشخص الذي يضعف أمام التجارب والضيقات، لكن هذا المزمور يكشف مدى ما لحقه من متاعب، حتى كاد يشعر بأن نفسه قد أوشكت على الغرق. أما عن السيد المسيح، فلا يمكن أن ننكر حقيقة تأنسه، وبالتالي فإنه من جهة الناسوت يعلن أنه تألم حقيقة. فبحبه وتواضعه تأنس ليحمل آلامنا، ويشاركنا أتعابنا. لم يتجاهل العهد الجديد آلامه، بل أبرزها ليؤكد حقيقة تأنسه. "كان يُصلِّي قائلًا: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (مت 26: 39). "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة" (يو 12: 27). "الذي في أيام جسده، إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرعات للقادر أن يخلِّصه من الموت، وسُمِعَ له من أجل تقواه" (عب 5: 7). غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي [2]. يصوِّر المرتل موقفه أنه كإنسان في دوامة نهر أو بحر مملوء وحلًا، عاجز عن أن يتصرف، فقد صار ألعوبة في يد الدوامة وسط الوحل، وليس من مقر، إنما ينحدر على الدوام. شعر كأنه في أعماق بعيدة وسط المياه، وليس من منقذ، أو كمن يجرفه سيل شديد، وليس من نهاية! ليس من شيءٍ جامد يمكن أن يضع عليه قدميه ليتحرك في اتجاه معين، أو يجلس عليه حتى ليفكر كيف يَخلُص، وليس من عمق معين يبلغه... إنه في حاجة إلى عون من الخارج. يرى القديس أغسطينوس أن المُضطهَد والمضطهِد كليهما من الوحل. الثاني بسبب فقدانه البرّ صار وحلًا عميقًا يود أن يبتلع المُضطهَد الذي هو أيضًا مخلوق من الطين. لكن ماذا يفعل الضيق بالمُضطَهد؟ إنه يصير صورة الله وعلى مثاله. أي يصير ذهبًا! يَعبُر من التراب إلى الذهب! * ما هو الذي يُدعَى حمأة؟ هل هم ذات الأشخاص الذين يُضطهَدون؟ لأنه من الطين خُلِقَ الإنسان (تك 2: 7). لكن هؤلاء البشر الذين سقطوا من البرِّ صاروا وحلًا عميقًا، ومن لا يوافقهم يضطهدونه، ويريدون أن يسحبوه إلى الإثم فيخرجون من طينه ذهبًا. لأن الطين الذي لهم مثلهم يتأهل أن يتحوَّل إلى شكل سماوي. * شكرًا لرحمته ذاك الذي جاء إلى عمق البحر، ومنحنا أن يُبتلع بواسطة حوت البحر، لكنه لفظه في اليوم الثالث (مت 12: 40). جاء إلى عمق البحر، في ذاك العمق الذي أُلقينا فيه، ذاك العمق الذي حدث فيه دمارنا. جاء إلى هناك بنفسه، والعاصف جعله يغطس إلى أسفل، إذ عانى من الأمواج التي هي أصوات البشر القائلين: "اصلبه، اصلبه". تزايدت العاصفة حتى غطس في أعماق البحر. احتمل الرب الألم من أيدي اليهود، الذي لم يعانِ منه حين سار على المياه (مت 14: 25)، الأمر الذي لم يعانِ منه هو ولا سمح حتى لبطرس أن يعاني منه. القديس أغسطينوس تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي. يَبِسَ حَلْقِي. كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنِ انْتِظَارِ إِلَهِي [3]. يُعْلِنُ المرتل أنه قد طالت صلواته جدًا وعَلت صرخاته واشتدت جدًا انفعالاته أمام الخطر الذي يلاحقه مع الحزن الشديد الذي خيَّم على نفسه، فيبس حلقه وصار في حالة خوار وإنهاك لكل قواه الجسمية والنفسية. لقد بُحَّ صوتُه وصار أجش، وكلَّت عيناه وذلك بسبب تركيز النظر لمدة طويلة في اتجاه معين انتظارًا لمجيء من ينقذ ويخلِّص. هذا ما يحدث مع العينين كما مع الجسد ككل، بل ومع القلب والفكر والنفس. في موضع آخر يقول داود المرتل: "خسفت من الغم عيني، نفسي وبطني. الآن حياتي قد فنيت بالحزن، وسنيني بالتنهد، ضعفت بشقاوتي قوتي، وبليت عظامي" (مز 31: 9). يرى القديس أغسطينوس أن السيد نفسه التزم الصمت أثناء محاكمته كما جاء في مزمور آخر: "وأكون مثل إنسانٍ لا يسمع، وليس في فمه حجة" (مز 38: 14)، وما جاء في إشعياء: "ظُلِم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاةٍ تُساقُ إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (إش 53: 7)، فكيف يقول هنا: "تعبت من صراخي، يبس حلقي" (مز 69: 3)؟ لقد قال: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مز 22: 1). ولكن ما هو مدى شدة صوته، وإلى أي مدى زمني، حتى يجف حلقه؟ لقد طال وقت صراخه، إذ قال: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون" (مت 23: 13) إلى قوله: "ويل للعالم من العثرات" (مت 18: 7). لقد طال صراخه، حتى قال كثيرون من تلاميذه: "إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يفهمه؟" (يو 6: 60). إننا لا نعرف ما يقوله، قال كل هذه الكلمات؛ لكن حلقه يبس بالنسبة للذين لم يفهمونه. بخصوص قوله: "كلت عيناي من انتظار (الرجاء) في إلهي" [3]، لا يُقصَد بهما العينين اللتين في رأسه، فقد جاء خصيصًا لكي يصالح العالم مع الآب، فكيف كلت عيناه من الرجاء في الآب. إنما الحديث هنا عن عينيه اللتين في جسده، أي في أعضائه. إنه صوت أعضائه، لا صوت الرأس، كما يقول القديس أغسطينوس. * إن لم تصر عبدًا فالزم النوح على نفسك وأنت تقول: "تعبتُ من صراخي، يبس حلقي" (مز 69: 3). لكي لا يُقال لك كما قيل إن "العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته يُضرَب كثيرًا... ومَنْ يودعونه كثيرًا يُطالبونه بأكثر" (لو 47:12-48). لأنه كما أخذنا معرفة عظيمة فإننا بالمثل نصير في خطر عظيم. القديس إسطفانوس الطيبي أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْمًا. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ [4]. جاء المزمور كله يصوِّر ما حل بداود النبي من آلام ليس بسبب جريمة ارتكبها، وإنما بسبب حسد الأشرار له. فما حلّ به كان من أجل الله، إذ سلك في طريق مستقيم. هكذا السيد المسيح حمل الآلام ظلمًا، عوض ما كان يجب أن يحتمله آدم ونسله عدلًا! في حديث السيد المسيح الوداعي يقول لتلاميذه: "لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالًا لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية. وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني بلا سبب" (يو 15: 24-25). من جهة العدد فيبدو كأن أعداءه بلا عدد، أكثر من شعر رأسه، ومن جهة الإمكانيات فإنهم يعتزون بقدرتهم وإمكانياتهم. مما أحزن قلبه أن ما حلَّ به كان بلا سبب، ظلمًا. لو أنه ارتكب خطأ ما، لاعتذر عنه أو عوَّضهم عنه، لكنه ليس من سبب حقيقي سوى البغضة الدفينة في قلوبهم من جهته وروح العداوة والحسد. إنهم يقابلون حبه بالعداوة، وكما قال في موضع آخر: "يجازوني عن الخير شرًا ثكلًا لنفسي. أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا" (مز 35: 12-13). لقد اُتهم داود ظلمًا، حين خرج شمعي بن جيرا يَسِبَّه ويرشقه بالحجارة، وكان يقول له: "اخرج، اخرج، يا رجل الدماء ورجل بليعال. قد ردَّ الربُ عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضًا عنه، وقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك، وها أنت واقع بشرِّك، لأنك رجل دماء" (2 صم 16: 7-8). بالأكثر احتمل السيد المسيح الآلام عنا ظلمًا. وكما يقول إشعياء النبي: "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمَّلها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحُبره شُفينا" (إش 53: 4-5). ويقول القديس بطرس: "فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يُقَرِّبنا إلى الله، مماتًا في الجسد، ولكن مُحْيىً في الروح" (1 بط 3: 18). بإرادته قَبِلَ كلمة الله المتجسد أن يحقق العدل الإلهي فيه، عن خطايا ومعاصٍ وأخطاء لم يرتكبها، إنما ارتكبها آدم الأول وبنوه. لقد تُمم فيه الناموس، وحمل عقوبته عنا، هذا لم يكسر الناموس قط، لكي يردَّ الضالين إلى البرّ الذي هو مصدره. إن كان داود قد تألم بلا سبب، بسبب حسد البعض له، فإن ابن داود تألم عن البشرية كلها لكي يسدد دينها ويقدِّم لها بره وقداسته. يقول المرتل عن السيد المسيح إن أعداءه أكثر من شعر رأسه، وقد صُلِبَ السيد على جبل الجلجثة أي الجمجمة حيث نُزعَ الشعر عن الرأس، هؤلاء الذين أبغضوه بلا سبب، ونحن كأعضاء جسده لنترك العالم يبغضنا، ولكن بلا سبب، حيث لا نرد بغضة بالبغضة. * قارن أعداءه بشعر رأسه. لهذا فإنهم جُزوا عندما صُلب في موضع الجلجثة (الجمجمة) (مت 27: 33). والآن أيها المسيحي إن كان يلزم أن يبغضك العالم، لماذا لا تسمح له أن يبغضك بلا سبب؟ القديس أغسطينوس * "رددت الذي لم أخطفه" [4]. لهذا فإن المسيح باحتماله الموت ظلمًا دفع ما كان يجب أن يقدمه آدم عدلًا. بسط الأخير يده لثمارٍ حلوة، والأول بسط يديه للصليب المُر. واحد يشير نحو شجرة الموت، والآخر نحو شجرة الخلاص. ارتفع واحد ضد الله وسقط، وتواضع المسيح لكي يرفع كل البشر. جلب آدم الموت لكل أحد، واسترد المسيح الحياة لهم جميعًا[89]. الأب قيصريوس أسقف آرل * المجد لذاك العالي الذي مزج عقولنا بملحه (مت 49:9)، ونفوسنا بخميرته. جسده صار خبزًا ليحي موتنا...! المجد للديان الذي دين، وجعل تلاميذه الاثنى عشر يَدينون الأسباط، والجهلة يلومون كتبة الأمم![90] * اجتمعت الأمم وجاءت لتسمع ضيقاته! المجد لابن الصالح الوحيد، الذي رذله أبناء الطالح! المجد لابن البار وحده، الذي صلبه أبناء الشرير! المجد للذي حلّ رباطاتنا، ورُبط من أجل جميعنا! المجد لذاك الجميل الذي أعادنا إلى صورته! المجد لذاك الحسن الذي لم ينظر إلي قُبحنا! المجد لذاك الذي زرع نوره (مز11:97) في الظلمة، فصار باختفائه موضع تعبير، فكشف أسراره، ونزع عنا ثوب قذارتنا (زك 3:3)! المجد لذاك العالي الذي مزج عقولنا بملحه (مت 49:9)، ونفوسنا بخميرته. جسده صار خبزًا ليحي موتنا! السبح للغني الذي دفع عنا ما لم يقترضه (مز 4:69 ، لو 6:16)، وكتب على نفسه صكًا وصار مدينًا![91] * المجد للذي حل رباطتنا، ورُبط من أجل جميعنا! السُبح للغني الذي دفع عنا ما لم يقترضه (مز 69: 4)، وكتب على نفسه صكًا وصار مدينًا! بحمله نيره كسر عنا قيود ذاك الذي أسرنا! المجد لكرَّام عقولنا الخفي! بذاره سقطت على أرضنا فأغنت عقولنا! ثمره جاء بمئة ضعف في كنز نفوسنا! مبارك هو "الراعي" الذي صار حملًا لأجل مصالحتنا! مبارك هو "الغصن" الذي صار كأسًا لأجل خلاصنا! مبارك هو "العنقود" الذي هو دواء الحياة! مبارك هو "الفلاح" الذي صار "قمحًا" لكي يزرع، و"حِزْمة" لكي تقطع! لنُسَبِّحه، فهو الذي أحيانا بتقليمه! لنُسَبِّحه، فهو الذي حمل اللعنة عنا بإكليل شوكه! لنُسَبِّحه، فهو الذي أمات الموت بموته! لنُسَبِّحه، فهو الذي زجر الموت الذي تغلب علينا! القديس مار أفرام السرياني * من جانب آخر، فإن السيد المسيح لم ينطق بغش من فمه (1 بط 2: 22، إش 53: 9).فالذي أظهر كل برّ وتواضع ليس فقط لم يتعرض لهذا النوع من الألم عن استحقاقه، بل وفُرِضَ عليه لتتحقق فيه نبوات الأنبياء، التي أعلنت أنها ستتم فيه، كما جاء في المزامير إذ سبق روح المسيح فتغنَّى قائلًا: "يجازونني عن الخير شرًا" (مز 35: 12). "حينئذ رددت الذي لم أخطفه" (مز 69: 4). "ثقبوا يديَّ ورجليَّ، أحصوا كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ" (مز 22: 16-17). "ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يسقونني ماء" (مز 69: 21). "يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 17). لقد احتمل هذا كله لا عن شر ارتكبه، لكن لكي يتم فيه كلام الأنبياء... العلامة ترتليان * واضح أن الشَعْرَ أحيانًا يشير إلى الفضائل وأحيانًا أخرى إلى الخطايا. فعندما تكلم النبي عن خطاياه قال: "هذا الشَعْرُ الذي بلا عدد لرأسي[92]". الأب قيصريوس أسقف آرل وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ [5]. ربما يتساءل البعض: كيف يحسب داود النبي ما حلّ به كان ظلمًا، وطُلب منه أن يرد ما لم يخطفه [4]، بينما يعترف هنا بحماقته وذنوبه؟ أ. إن كان ما حلّ به من أعدائه لم يكن بسبب خطية أو شر أو خطأ ارتكبه ضدهم، لكن داود لا يقدر أن يتبرر أمام الله، فقد يكون هذا تأديبًا من قبل الله عن خطايا ارتكبها خفية. ب. بالنسبة للسيد المسيح الذي بلا لوم ولا خطية، فإن ما احتمله من آلامٍ وصلبٍ وموتٍ ليس عن خطية ارتكبها، وإنما تكفيرًا عن خطايانا، فينسب ما نفعله نحن إليه، لكي يدفع الثمن في جسده بالصليب. لقد قدم نفسه ذبيحة خطية عنا. وكما يقول الرسول: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية (أو ذبيحة خطية) لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو 5: 21). ج. يرى البعض أن المزمور كغيره من المزامير أو الأسفار النبوية تتنبأ عن السيد المسيح في عبارات معينة، لكن ليس كل المزمور أو أي أصحاح من الأنبياء يشير بكامله عن السيد المسيح. يقول القديس أغسطينوس ليس في السيد المسيح، قوة الله وحكمته، شيئًا من الحماقة والذنوب، إنما هنا صوت أعضاء جسده التي هي نحن. صوت اعترافنا بجهالاتنا وخطايانا ليغفر لنا خطايانا. لاَ يَخْزَ بِي مُنْتَظِرُوك، يَا سَيِّدُ رَبَّ الْجُنُودِ. لاَ يَخْجَلْ بِي مُلْتَمِسُوك، يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ [6]. يطلب المرتل من إله السمائيين الإله القدير رب القوات، وإله شعبه المحبوب لديه، أن يسند منتظريه الذين يتكلون عليه، وأن يعطيه نعمة أمام قديسيه. في رأي القديس أغسطينوس إن هذا هو صوت السيد المسيح الرأس الذي يقول: "أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي" (يو 14: 1). وهو أيضًا صوت الكنيسة كلها التي بحق تقول: "لا يخزَ بي منتظروك يا رب، إله القوات" [6]. لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ احْتَمَلْتُ الْعَارَ. غطَّى الْخَجَلُ وَجْهِي [7]. يؤكد المرتل أن ما حلّ به ليس بسبب خطأ ارتكبه أو شر مارسه ضد أحدٍ، وإنما من أجل الله نفسه. هذا حق بالنسبة لداود، كما بالنسبة للسيد المسيح، وللمؤمنين به. * ليس بالأمر العظيم ما قيل هنا: "احتملت"، فإن ما قيل هنا هو "لأجلك احتملت". أما إن كنت تحتمل لأنك تخطيء، فإنك تحتمل لأجل نفسك، لا من أجل الله. يقول بطرس: "لأنه أي مجد هو إن كنتم تُلطَمون مخطئين فتصبرون؟ بل إن كنتم تحتملون لأنكم تحفظون وصية الله فبالحق تحتملون لأجل الله، وتبقى مكافأتكم إلى الأبد." (1بط 2: 20) * يليق بالمسيحي أن يكون له عدم الخجل هذا، عندما يأتي بين أناس يكون لهم المسيح عثرة. إن كان يستحي من المسيح، فسيُمحى من كتاب الحياة. يليق بك ألا تخزى عندما تُهان من أجل المسيح. عندما يقولون لك: يا عابد المصلوب، يا متعبد لمن مات موتًا شريرًا، يا من تكرم المذبوح! هنا إن كنت تستحي فأنت ميت! انظر العبارة التي لا تخدع أحدًا. "من ينكرني قدام الناس، أنكره أنا أيضًا قدام أبي الذي في السموات" (مت 10: 33؛ لو 9: 26). القديس أغسطينوس صِرْتُ أَجْنَبِيًّا عِنْدَ إِخْوَتِي، وَغَرِيبًا عِنْدَ بَنِي أُمِّي [8]. ما يحزن قلب المرتل أن إخوته، أي بني جنسه، تجاهلوه وحسبوه غريبًا عنهم. أما ما هو أمَرّ من ذلك فإن بني أمه أي أقربائه جدًا الذين يحبهم أيضًا يتجاهلونه. "تجلس تتكلم على أخيك، لابن أمك تضع معثرة" (مز 50: 20). بلغ بالنبي أنه شعر بأن أقرب من له، أباه وأمه قد تركاه. إن أبي وأمي قد تركاني، والرب يضمني" (مز 27: 10). كما عانى من أحبائه وأقربائه: "أحبائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي، وأقربائي وقفوا بعيدًا" (مز 38: 11). * صار غريبًا عن بني المجمع... لماذا لم يعرفوه؟ لماذا دعوه أجنبيًا؟ لماذا تجاسروا قائلين: لا نعرف من أين هو؟ "لأن غيرة بيتك أكلتني" [8]، بمعنى أنني أضطهد فيهم آثامهم؛ لأنني أحتمل بصبرٍ الذين أنتهرهم؛ لأنني طلبت مجد بيتك، لأنني ضربت بالسوط الذين سلكوا في هيكلك بدون لياقة (يو 2: 15). القديس أغسطينوس وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ [9]. كان المرتل مملوءًا غيرة على بيت الرب، كما على الوصية الإلهية، وعلى خلاص كل نفس وقدسية الحياة. "أهلكتني غيرتي، لأن أعدائي نسوا كلامك" (مز 119: 39). * لاحظوا وجود نوعين من الغيرة، نوع مملوء حبًا والآخر مملوء بغضة. أشير إلى الأول في الكلمات: "غيرة بيتك أكلتني" (مز 69: 9)، والآخر في الكلمات: "أمسكت الغيرة بالشعب الجامد، والآن تلتهم النار أعداءك" (راجع إش 26: 11)[93]. القديس أغسطينوس * إن السيد له المجد قد طَرد الباعة من الهيكل مرتين. الأولى في بدء كرازته (يو 2: 12-17)، والثانية قبل آلامه (مت 21: 12). وقد تم المكتوب في سفر المزامير: "غيرة بيتك أكلتني" (مز 69: 9). * لكن كيف يمكننا أن نصير مقتدين بالمسيح؟ بممارسة كل شيء من أجل المصلحة العامة وليس لمجرد نفعنا الخاص. يقول بولس: "لأن المسيح أيضًا لم يُرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليَّ" (رو 15: 3). ليته لا يطلب أحد شيئًا لنفسه. بالحق يطلب الإنسان ما هو لخيره، عندما يتطلع إلى خير قريبه. ما هو لخير الأقرباء هو خيرنا نحن، فنحن جسد واحد، وأعضاء لبعضنا البعض[94]. القديس يوحنا الذهبي الفم * في المزمور الثامن والستين (LXX) يقول المخلص إنه لم يأتِ لأجل مسرته بل لأجل مسرة الله الآب. إذ يقول: "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني". (يو 6: 38) اعترض اليهود وحكموا عليه بالموت كخاطئ. لذا يضع المرتل نفسه في موضع المسيح ويقول: "تعييرات معيريك وقعت عليَّ" (مز 69:9)[95] الأب أمبروسياستر وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي، فَصَارَ ذَلِكَ عَارًا عَلَيَّ [10]. إذ بكى المرتل في تذلل أمام الله رافق البكاء بالصوم. يقول في موضع آخر: "أذللت بالصوم نفسي" (مز 35: 13). يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كان صائمًا، أي جائعًا وعطشانًا عندما تركه الذين آمنوا به. * إنه جوعه أن يؤمن الناس به، وعطشه عندما قال للمرأة: أنا عطشان، أعطيني لأشرب (يو 4: 7)، نعم كان عطشانًا إلى إيمان أولئك الذين قال عنهم: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). ولكن ماذا قدَّم له هؤلاء الذين كان يعطش إليهم؟ قدموا خلًا. الخل Vetus يُدعى أيضًا قديمًا old. لقد أعطوه الإنسان القديم ليشرب، ولم يريدوا أن يتجددوا... لقد قبل أن يصوم عن أن يقبل المرارة... وخلال هذا الصوم قبل العار، فصار موبخًا لأنه لم يقبل الشر. القديس أغسطينوس * من لا يصوم ينفضح ويتعرى ويتعرض للجراحات. لو أن آدم ستر نفسه بالصوم لما صار عريانا (تك 3: 7). تحررت نينوى من الموت بالصوم. والرب نفسه قال: "هذا الجنس من الشيطان لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" (راجع مت 17: 21؛ مر 9: 29)[96]. القديس أمبروسيوس * بعد أن أعطيتِ اهتمامًا عظيمًا لأفكاركِ، يلزمكِ أن تلبسي سلاح الصوم، مترنمة مع داود: "أدَّبتُ بالصوم نفسي" (راجع مز 69: 10). "أكلتُ الرماد مثل خبزٍ" (مز 102: 5). "أما أنا فعندما أقلقتموني كانت ثيابي مُسحًا" (مز 35: 13 الفولجاتا) طُرِدَتْ حواء من الفردوس، لأنها أكلت من الثمرة الممنوعة، وإيليا من الجانب الآخر بعد أربعين يومًا من الصوم حُمِلَ على مركبة نارية إلى السماء[97]. القديس جيروم جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحًا، وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلًا [11]. كانت علامات الحزن عند اليهود هي البكاء، والصوم، ولبس المسوح؛ وأحيانًا وضع التراب والرماد. يقول المرتل: "حوَّلت نوحي إلى رقصٍ لي؛ حللت مُسحي، ومنطقتني فرحًا" (مز 30: 11). أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا؛ أذللت بالصوم نفسي" (مز 35: 13). * جعلت لباسي مسحًا، بمعنى وضعت ضدهم جسدي لكي ينفسوا عن غضبهم، أخفيت عنهم لاهوتي. إنه "مسح"، لأن جسدي كان قابلًا للموت، لكي يدين الخطية في الجسد. القديس أغسطينوس يَتَكَلَّمُ فِيَّ الْجَالِسُونَ فِي الْبَاب،ِ وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي الْمُسْكِرِ [12]. كانت مجالس القضاء عادة تقام عند أبواب المدينة (أي 29: 7-17؛ تث 25: 7؛ يش 20: 4؛ را 4: 1-2؛ 1 مل 22: 20؛ مرا 5: 14). وكان الهدف منها أنه إن أراد مُتَّهم أن يدخل المدينة يلزم دراسة حالته، فلا يُسمَح للظلم أن يُمارَس داخل المدينة. داود النبي الملك والقاضي صار كمن هو تحت محاكمة ظالمة، أو تحت سخرية من الذين أقاموا أنفسهم قضاة يحكمون عليه. وجاءت محاكمة ابن داود سواء في مجامع دينية أو دور قضاء مدينة تمثل فضيحة للطبيعة البشرية التي تود أن تحكم على ديان المسكونة كلها. وَجَدَ السكارى الذين يسلكون بلا تعقل في منظر المحاكمة مجالًا للسخرية، يرون في داود مثلًا وهزءًا وأضحوكة. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المُسكِر هو "عرقي بلح" المستخرج من البلح. * إخوتي، من يخاف الله يذكر كلمات الرسول بطرس "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (١ بط ٥: ٨). فإن لم يستطع أن يبتلعه عن طريق الانحراف به نحو الشر، يحاول أن يفسد حياته - إن كان ممكنًا - عن طريق انتهاره للناس وقبوله وشايات الألسنة المفترسة، وبهذا يسقط في فخ إبليس. فمتى عجز الشيطان عن إفساد حياة شخص بريء، حاول إهلاكه بإسقاطه في الشك القاسي من جهة أخيه، والحُكْم عليه بتسرُّع، ممَّا يُسقطه في فخاخه وبهذا يسهل افتراسه. ومن يستطيع أن يعرف أو يتكلَّم عن كل حيل إبليس وشباكه؟! ومع هذا أشير إلى ثلاث طرق من حيله حَذَّرنا الله ضِدَّها على فم الرسول. أولًا: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنَّه أية خُلطة للبرّ والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14) ثانيًا: أن لا نقبل وشاية الألسن المفتريَّة... ثالثًا: ألاَّ نكون في أدنى شك مُضِر، لا أساس له، من جهة أي خادم من خدَّام الله، متذكرين كلمات الرسول: "لا تحكموا في شيء قبل الوقت، حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام، ويظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحدٍ من الله" (١ كو ٤: ٥). كما قيل أيضًا أن الأمور التي من الخارج تخصُّكم أمَّا خفايا الأمور فتخص الرب إلهكم. إنه من الواضح أن مثل هذه الأمور لا تحدث في الكنيسة دون أن يحزن القدِّيسون والمؤمنون بسببها. ليت الله ذاته يكون عزاءنا هذا الذي أمرنا بأن نحزن وأوصانا ألاَّ نكون فاترين في الحب بسبب هذه الشرور، إنَّما نصبر إلى النهاية حتى نخلص. فلا تضيفوا إلى آلامي شيئًا بشكوككم التي لا أساس لها، من جهة أي إنسان. أتوسَّل إليكم ألاَّ تفعلوا هذا، حتى لا أقول لكم إنكم قد زدتم آلام جروحي. لأنَّه من السهل عليَّ احتمال تعييرات من هم يتلذَّذون بشرورهم، هؤلاء الذين قيل عنهم بخصوص المسيح نفسه "صرت لهم مثلًا. يتكلَّمون فيّ. الجالسون في الباب. (وصرت) أغاني شرابي المسكر" (مز ٦٩: ١٢). هذه التعييرات منهم أسهل عليَّ من أن تصدر من أولئك الذين تعلَّموا الصلاة وطلبوا السعادة. لأنَّه لماذا يجلس مثل هؤلاء عن الباب ويراقبون الساقطين ولو كان الساقط أسقفًا أو كاهنًا أو راهبًا أو راهبة. هؤلاء الذين لهم رجاء للإيمان والقيام؟! إن لم يكن وقت لكثرة رحمتك، ماذا نفعل من أجل كثرة آثامنا...؟ لماذا الرحمة؟ في غفران الخطايا! ولماذا الحق؟ في تحقيق الوعود! القديس أغسطينوس 2. صرخة لأجل الخلاص أَمَّا أَنَا فَلَكَ صَلاَتِي يَا رَبُّ فِي وَقْتِ رِضًى. يَا اللهُ بِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ اسْتَجِبْ لِي بِحَقِّ خَلاَصِكَ [13]. لم يجد المرتل من يرفع إليه شكواه، فقد تكتَّلت كل القوى ضده، وسخر الجميع به، لذا لم يعد أمامه سوى أن يرفع شكواه إلى العرش الإلهي. فإن الطغاة والظالمين لا يقدرون أن يغلقوا هذا الباب أمام المظلومين. يبقى باب العرش الإلهي مفتوحًا، والوقت دائمًا هو وقت رضى، فالله لا يغلق أبواب مراحمه في أوقات معينة. فإن هذه هي مسرته أن يستمع إلى صرخات المظلومين والمضطهدين. الله يود أن يسمع، ليس من أجل استحقاقات الصارخين، ولا من أجل لجاجتهم، وإنما من أجل كثرة رحمته، واهتمامه بخلاص الجميع، وتمتع الكل بالحق الإلهي. "هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك" (إش 49: 8). "اطلبوا الرب مادام يوجد، ادعوه وهو قريب" (إش 55: 6). "هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص" (2 كو 6: 2). نَجِّنِي مِنَ الطِّينِ فَلاَ أَغْرَقَ. نَجِّنِي مِنْ مُبْغِضِيَّ، وَمِنْ أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ [14]. سبق أن رأينا أن الطين يشير هنا إلى الأشرار، فإن كان الأشرار يضغطون بالاضطهادات على الصديقين لكي يغرقوا، فإن الصديقين من جانبهم يطلبون من الله أن يُحَرِّر نفوسهم حتى لا تسقط تحت قيود الطين، فتتسخ نفسه بالشرور. يقدم الأشرار اتهامات ظالمة، لكي يشوهوا صورته، فيكون كمن هو غارق في الطين، وتحوطه البغضة من كل جانب، فلا يقبل الأشرار أقل من موته والخلاص منه. "ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًا فصارت شباكهم تتخرَّق" (لو 5: 7). شباكهم امتلأت سمكًا عن طريق المعجزة، لكي يثق التلاميذ بأن عملهم التبشيري لا يضيع سُدى، وهم يلقون شباكهم على جمهور الوثنيِّين والضالِّين. لكن لاحظوا عجز سمعان ورفاقه عن جذب الشبكة، فقد وقفوا مبهورين صامتين، وأشاروا بأيديهم إلى إخوانهم على الشاطئ ليمدُّوا إليهم يد المساعدة. معنى ذلك أن كثيرين ساعدوا الرسل القدِّيسين في ميدان عملهم التبشيري، ولا زالوا يعملون بجد ونشاط... لازالت الشبكة مطروحة، والمسيح يملؤها بمن يخدمونه من أولئك الناس الغارقين في بحار العالم العاصفة والثائرة، كما ورد في المزامير: "نجِّني من الطين فلا أغرق. نجِّني من مبغضيَّ، ومن أعماق نفسي" (مز 69: 14). البابا كيرلس الكبير لاَ يَغْمُرَنِّي سَيْلُ الْمِيَاهِ، وَلاَ يَبْتَلِعَنِّي الْعُمْق،ُ وَلاَ تُطْبِقِ الْهَاوِيَةُ عَلَيَّ فَاهَا [15]. سبق فأعلن أن جسده قد بلغ إلى أعماق المياه؛ ها هو يطلب ألا تنحدر نفسه إلى أعماق المياه، أي لا تسقط تحت سلطان الأشرار، فيشاركهم شرورهم. يرى المرتل أن الأحزان والمضايقات والاضطهادات قد تكتلت ضده. ليس من يقدر أن ينقذه منها سواء ساكن السماء، فقد انهارت عليه سيول مياه جارفة، وفتحت الأعماق فاهها لتبتلعه، وأبواب الهاوية تتلقفه. *دعونا نفحص خدود العريس ونستمع للعروس التي تتكلم عنها "خداه كخميلة الطيب وأتلام رياحين ذكية" يعني النص أن خديه يشبهان كوبًا للشرب أو آنية ليست عميقة ولا عالية ويعتبر هذا التشبيه مدحًا. فإذا مدح أي شخص نوع من التعليم المفتوح البسيط النقي مثل هذه الآنية فإن عمقه لا يمكن أن نخطئه. كما يقول النبي: "لا يغمرني سيل المياه ولا يبتلعني العمق ولا تطبق الهاوية عليَّ فاها" (مز 15:69)[98]. القديس غريغوريوس النيسي * "لا تطبق الهاوية عليَّ فاهها" [15]، لأنها عندما تستقبل الخطاة البائسين دون نوالهم دواء التوبة، تُغلق من فوق وتُفتح من تحت. فيكون في الهاوية طريقًا متسعًا، ولكن لا يوجد تنفّس حُر بعد، حينما تضغط الأبواب من فوق إلى أسفل[99]. الأب قيصريوس أسقف آرل * "إذًا، مَنْ يظن أنه قائمٌ فلينظر أن لا يسقط"، لأنّ الذي سقط له فكرٌ واحدٌ فقط، هو أن يقوم مرةً ثانيةً، أمّا الذي هو قائمٌ ثابتٌ فعليه أن يكون متيقِّظًا حتى لا يسقط. والسقطات لها أنواعٌ مختلفة. والذين سقطوا فقدوا بلا شكٍّ رسوخ أقدامهم. أما الذي احتفظ برسوخ قدميه فينبغي ألاّ يحكم على الذي سقط بأنه أدنى منه، بل عليه أن يخاف على نفسه لئلاّ يسقط ويهلك ويذهب إلى هوّةٍ أعمق. لأنه حيث إنّ صراخه لأجل النجدة يكون مكتومًا بسبب عمق الهوّة، فربما لا يستطيع أن يطلب معونةً، لأنّ الإنسان البار يقول:" (لعل) العمق لا يبتلعني ولا تُطبِق الهاوية عليَّ فاها" (مز 69: 15). القديسة الأم سنكليتيكي اسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ لأَنَّ رَحْمَتَكَ صَالِحَةٌ. كَكَِثْرَةِ مَرَاحِمِكَ الْتَفِتْ إِلَيَّ [16]. صار ملجأ المرتل الوحيد هو مراحم الله الصالحة والفيَّاضة. "التفت إليَّ وارحمني، لأني وَحْدٌ ومسكين أنا" (مز 25: 16). * "استجب لي يا رب، لأن رحمتك عذبة". إنه يقدِّم هذا سببًا لضرورة أن يُستجاب له؛ لأنه عذبة هي رحمة الله... من يسقط في ضيق يلزم أن تكون رحمة الله له عذبة. بخصوص حلاوة رحمة الله، انظروا ما يقوله الكتاب في موضع آخر: "مثل مطر في وقت جفاف، هكذا حسنة هي رحمة الله في الضيق" (سي 17: 28). ما يقوله هناك حسنة (جميلة) يقول عنها عذبة. حتى الخبز لا يكون حلوًا ما لم يسبقه جوع. لهذا فإنه إن كان الرب يسمح لنا بتعب فهو رحوم. فإنه لا ينزع المعونة بل يلهب فينا الشوق إليها. القديس أغسطينوس وَلاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنْ عَبْدِكَ لأَنَّ لِي ضِيقًا. اسْتَجِبْ لِي سَرِيعًا [17]. حَجْب وجه الله يحطم النفس، لأن الله هو مصدر حياتها، تحتاج دومًا إلى عنايته الإلهية، والتمتع بالشركة معه. حَجْب الوجه هو موت للنفس لذا يصرخ طالبًا النجدة، لا بإزالة الاتهامات الظالمة والضيقات وإنما بظهور وجهه الإلهي عليه. * إنني في ضيق، حزني قد تقدَّم، فلتتبعه رحمتك. القديس أغسطينوس اقْتَرِبْ إِلَى نَفْسِي. فُكَّهَا. بِسَبَبِ أَعْدَائِي افْدِنِي [18]. غالبًا ما يشعر الإنسان في لحظات الضيق كأن الله قد ابتعد عنه، وسلَّمه لمضايقيه، أو للضيقات. هنا يصرخ المرتل إلى الله لكي يقترب من نفسه ويفكها، أي يخلِّصها. يشعر المرتل كأن الأعداء قد وضعوا نفسه في موقف لا يمكن لإمكانيات البشرية أن تحلها، فمن أجل هؤلاء الأعداء القساة يتدخل الله بكونه المخلص الوحيد. تدَّخُل الله بمراحمه ونعمته هو الدرس العملي ليدرك الأعداء أن حكمتهم وقدرتهم وسلطانهم كلا شيء أمام الله. في موضع آخر يصرخ داود النبي: "إلى متى تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟ إلى متى أجعل همومًا في نفسي، وحزنًا في قلبي كل يوم؟ إلى متى يرتفع عدوي عليَّ؟ انظر واستجب لي يا رب إلهي... لئلا يقول عدوي قد قويت عليه، لئلا يهتف مضايقي بأني تزعزعت" (مز 13: 1-4). يطلب المرتل من الله أن يقترب من نفسه ليحلها من رباطاتها، ويخلصها بسبب أعدائها. هنا يرى القديس أغسطينوس أن هذه الطلبة عجيبة، وأن الخلاص إما أن يكون خفية أو علنًا فالله لم ينقذ أجساد الإخوة المذكورين في سفر المكابيين (2 مك 7) من نار المُضطهِدين، بينما أنقذ أجساد الثلاثة فتية المذكورين في سفر دانيال (دا 3: 26). أنقذ نفوس المجموعة الأولى سرًا، وأنقذ أجساد المجموعة علانية. يرى القديس أغسطينوس إنه لو طبقنا هذا على شخص السيد المسيح، فإنه سمح له أن يخلِّص نفسه سرًا، حيث نزل إلى جحيم وتمم رسالته من جهة الذين كانوا مسبيين، ولكن من أجل الأعداء المقاومين خلص جسده أيضًا حيث قام من الأموات وصعد إلى السماوات، فلم يرَ جسده فسادًا. أَنْتَ عَرَفْتَ عَارِي وَخِزْيِي وَخَجَلِي. قُدَّامَكَ جَمِيعُ مُضَايِقِيَّ [19]. كثيرًا ما يشير الكتاب المقدس إلى عار الصليب الذي في حقيقته هو قوة الله للخلاص. وإذ يرتبط المؤمنون- كجسد المسيح- بالمصلوب، يضايقهم العالم، متهمًا إياهم بالعار والخزي والخجل. يُميِّز القديس أغسطينوس بين هؤلاء الثلاثة، متطلعًا إلى العار بكلمات الاستخفاف التي تصدر ضدهم. والخزي هو اتهامهم أنهم بلا ضمير، أو تصرفاتهم تنخر في الضمير، وأما الخجل فهو أن تصرفاتهم تسبب احمرارًا لوجه. ما هي جريمة المسيحيين- أعضاء جسد المسيح- التي تسبب عارًا وخزيًا وخجلًا؟ يقول القديس أغسطينوس: [يُوَجَّه الاتهام ضد المسيحيين، والجريمة الحقيقية هي أنهم مسيحيون.] عانى داود النبي الكثير من شاول الملك، كما من ابنه أبشالوم المتمرد. أما بخصوص ما لحق بالسيد المسيح من إهاناتٍ وعارٍ وخزيٍ فقد قيل عنه: "أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر، ومحتقر الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه، وينغضون الرأس، قائلين اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سُرّ به" (مز 22: 6-8). "من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب، مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). "قدامك جميع مضايقي" [19]. ما أشتكي منه ليس افتراءً، فأنت يا الله العالم بكل شيء، وما يفعله الأعداء الأشرار في الخفاء منظور بالنسبة لك. كان داود يشعر أنه يشبه حَمَلًا لا حول له، وقد التف حوله ذئاب لا عدد لها. الْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ [20]. حتى النساء عندما بكين لما رأين آلام السيد المسيح، قال لهن: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن" (لو 23: 28). بلا شك أن الضيق والشعور بالظلم يسبب انكسارًا للقلب، ويؤدي إلى إصابة الجسد بالمرض. فالدواء أو العلاج هو وجود معزٍ رقيق المشاعر، يشاركه آلامه. لكن من يستطيع أن يدخل قلب المتألم ويواسيه مثل الله الكلي الحب والحنو؟ يظن بعض الدارسين أن موت السيد المسيح السريع كان بسبب شدة الحزن والضيق، الأمر الذي سبب انكسارًا لقلبه. لكن حقيقة موته- مهما تكن الأسباب- فهي بناء على سلطانه أن يضع نفسه وأن يأخذها، فقد قبل العار والخزي كما قبل الآلام الجسمانية بإرادته من قبل حبه للبشرية، ولأجل خلاص العالم. إذ تأنس قبل الآلام جاء عنه: "فصرخ يسوع أيضًا بصوتٍ عظيم، وأسلم الروح" (مت 27: 50؛ راجع مر 15: 37؛ لو 23: 46). "وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوتٍ عظيمٍ، قائلًا: ألوي، ألوي، لما شبقتني. الذي تفسيره: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مر 15: 34). "ومعزين لم أجد"، بقدر ما تكاتلت كل القوى المعادية ضده، لم يكن حوله أحد من المعزين. فقد خانه أحد تلاميذه، وأنكره آخر، وتركه الكل في اللحظات المُرَّة. حتى في البستان لم يستطع التلاميذ أن يسهروا معه ساعة واحدة. يقول في إشعياء النبي: "قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب، لم يكن معي أحد" (إش 63: 3). على الصليب، إذ حمل خطايانا، شعر كلمة الله المتجسد كأن الآب قد حجب وجهه عنه. هذه الصورة من التخلي عنه من الجميع فريدة، داود النبي لم يعانِ منها هكذا. * تطلع النبي بعينيّ النبوة إلى يسوع المتألم فرآه آتيًا من آدوم بثياب حُمر فسأله: "ما بال لباسك مُحمرّ وثيابك كدائس معصرة" (إش 63: 2). رأى لباسه قد أغرق بالدماء، وثيابه كمن قد اِجتاز معصرة، فانسكبت دماؤه كلها. وقد صور يسوع نفسه حاله على لسان أنبيائه فقال: "قد دُستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3). "اِنتظرتُ رقَّة فلم تكن، ومعزِّين فلم أجد" (مز 69: 20). "أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اِكتنفتني. فغروا علي أفواههم كأسد مفترس مزمجر. لقد أحاطت بي كلاب جماعة من الأشرار اِكتنفتني" (مز 22: 12، 13، 16). "فنظرت ولم يكن معين وتحيرت إذ لم يكن عاضد" (إش 63: 5). ربي... لقد اِجتزتَ المعصرة وحدك... أُهرق دمك الزكي وليس من يدافع ولا من يترفق! القديس مار يعقوب السروجي * الذين يقابلوننا في الطريق - الآتون إلينا من الشرق أو من أرمينيا أو من أية بقعة في الأرض - تنساب دموعهم كالنهر كلما رأونا، كانوا ينوحون وهم يرافقوننا في الطريق في أنينٍ! أقول هذا لكي تعرفي أن لي أحباء كثيرين، يشاركوننا عذابنا، وهذه تعزية كبيرة لنا. فلو أن الأمر على خلاف ذلك لكان الوضع ثقيلًا يصعب احتماله، وهذا ما يشتكي منه النبي قائلًا: "انتظرت إنسانًا يشاركني آلامي فلم يكن، ومعزِّين فلم أجد" (مز 69: 20). يا لها من تعزية عظيمة أن يجد الإنسان العالم كله يشاركه أحزانه...! إننا نجد أيضًا في ذكرى الآلام مصدرًا للفرح المستمر. إذ تفكرين في هذا انزعي عنكِ غيم الحزن، واكتبي لي باستمرار عن صحتك. تأملي هذا أن الأمور المفرحة والمحزنة في الحياة الحاضرة تعبر جميعها. فإن كان الباب ضيقًا والطريق كربًا، فإنه مهما يكن الأمر فهو طريق! اذكري هذه العبارة التي كررتها لك كثيرًا: "إن كان الباب واسعًا والطريق رحبًا فإنه هو أيضًا مجرد طريق" (راجع مت 7: 13). عندما تتركين الأرض وتنحلين عن الجسد، ابسطي جناح الحكمة، حتى لا يهلكك سواد الدخان. إنها أمور أرضية، لا تنسحبي إلى الأرض! إن رأيتي ظلمًا كثيرًا صنعوه بنا، وقد سيطروا على العاصمة، وتمتعوا بكرامات، وساروا في مواكب الحرس، رددي هذه العبارة "واسع هو الباب ورحب هو الطريق الذي يؤدى إلى الهلاك". بالأحرى أبكي عليهم. ونوحي من أجلهم! إنهم يصنعون آثامًا في العالم، وعوض تفكيرهم في خطاياهم يتمتعون باحترامات الناس. سيذهبون ومعهم احترامات الناس بكونها جزاءًا قد نالوه! [100] القديس يوحنا الذهبي الفم * إذا أذابت الحرارة الشمع فإنّ البرودة تكون سببًا في صلابته. فإذا جعل المديح النفس تفقد عافيتها، إذًا فمن المؤكَّد أنّ التوبيخ والإهانة يقودان النفس بكل تأكيد إلى قمم الفضيلة. يقول الكتاب: "اِفرحوا وتهللوا... إذا قالوا عليكم كل كلمةٍ شريرةٍ من أجلي كاذبين" (مت 5: 12-11)، وفي مكانٍ آخر: "في الشدّة فرّجتَ عني" (مز4: 1 حسب السبعينية)، وأيضًا: "انتظرَت نفسي انتهارًا وإذلالًا" (مز 68: 20 حسب النص). وتوجد أيضًا آيات لا حصر لها مثل هذه في الكتاب المقدس نافعة للنفس. القديسة الأم سنكليتيكي وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًا [21]. هذا لم يحدث مع داود النبي، لكنه حدث حرفيًا مع السيد المسيح عند صلبه، كما ورد في الإنجيل المقدس. يرى البعض أنه قُدم له على دفعتين أو ربما على ثلاث دفعات. أ. قدموا له خلًا ممزوجًا بالمر (مت 27: 34). ب. قدموا له خلًا غير مضاف إليه مُرّ (مت 27: 48). ج. ربما قدم له خمر ممزوج بمرٍ. كان شرب الخل شائعًا بين الجنود الرومان، أما الخمر الممزوج بالمُر فبين اليهود. وهذا كله كان يُقدَّم من أجل التخفيف عن الآلام التي للصلب غير المحتملة، لكن هنا في المزمور ورد ذلك كنوعٍ من الاستخفاف والسخرية، وليس كنوعٍ من الشفقة على المصلوب. ورد في لو 23: 36، أنه قُدم له كنوعٍ من السخرية. ورد المُر gall في النسخة العبرية للكتاب المقدس 11 مرة، 8 مرات جاءت بمعنى المُر، ومرة بمعنى السم، ومرة بمعنى حقد venom، ومرة بمعنى الشوكران hemlock، وهو نبات يُستخرج من ثمره شراب سام. هذا المر غير مستخرج من كبد حيوانات، وإنما من نباتات أو من جذورها (تث 29: 18). رأينا في حديثنا عن صوم السيد المسيح، أنه كان جائعًا وعطشانًا لإيمان الناس به لأجل خلاصهم. لقد عطش، فقدموا له خلًا، الذي معناه "قديم". يطلب للبشرية التجديد المستمر ليحملوا بالإيمان صورته، لكنهم مصرون على تقديم الخل، أي الحياة القديمة. * كنت عطشانًا، فقدموا لي خلًا، بمعنى كنت مشتاقًا لإيمانهم، ولكنني وجدت فيهم القدم (الإنسان القديم لا الجديد). القديس أغسطينوس * هكذا تكلم أيضًا داود النبي مشيرًا إلى الصليب قائلًا: "ثقبوا يديَّ ورجليَّ" (مز 22). لم يقل "سيثقبون"، بل "ثقبوا"، و"أُحصي كل عظامي" (مز 22: 17). ويصف أيضًا ما يحدث بين الجنود قائلًا: "مقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 18). وأشار أيضًا إلى تقديمهم المر إليه ليأكل، وخلًا ليشرب فقال: "ويجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21). القديس يوحنا الذهبي الفم * بالرغم من احتمال كل هذه الآلام إذ جاء لخلاص الجميع إلاّ أن الشعب (اليهودي) جازاه مجازاة شريرة. قال يسوع "أنا عطشان". هذا الذي أخرج لهم الماء من الصخرة الصماء، يطلب ثمر كرمته التي زرعها، فماذا فعلت كرمته؟ هذه الكرمة التي بحسب الطبيعة هي من الآباء القديسين، لكنها بحسب قلبها مثل سدوم. "لأن جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة" (تث 32: 32). قدمت هذه الكرمة لسيدها إسفنجًا مغموسًا خل فوق قصبة. "ويجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21). ها أنت ترى وضوح النبوة وصفاءها! لكن أي نوع من العلقم وضعوا في فمه؟ "أعطوه خمرًا ممزوجًا بمرّ" هذا المر طعمه كالعلقم شديد المرارة. أبهذا تجازي الرب أيتها الكرمة؟! أهذه تقدمتك له؟! بالحقيقة قال إشعياء في القديم مولولًا عليك: "كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة. فنقبّه ونقّىّ حجارته وغرسه كرم سورق... فانتظر أن يصنع عنبًا (إذ عطش طالبًا عنبًا) فصنع شوكًا" (راجع إش 5: 1-2). هل رأيت الإكليل التي تزينت به؟! لكن ماذا أفعل؟ "سأوصي السحب أن لا تمطر عليه مطرًا" (راجع إش 50: 6). لأن السحب هي الأنبياء الذين نُزعوا من بينهم وصاروا للكنيسة...[101] القديس كيرلس الأورشليمي * لقد قبَّل يهوذا ليس لأن المسيح يعلمنا أن نتظاهر، وإنما يعلمنا أنه لم يرد أن يهرب من الخائن. لهذا لم يحرم يهوذا من تقديم التزام الحب له. مكتوب: "كنت رجل سلام مع الذين يبغضون السلام" (مز 69: 21 LXX)[102]. القديس أمبروسيوس * من بين الأمور الأخرى التي تنبأوا بها عنه، مكتوب: "يجعلون في طعامي علقمًا (سمًا)، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21). نحن نعرف في الإنجيل كيف حدثت هذه الأمور. أولًا قدموا علقمًا. أخذه وذاقه وتفله. فيما بعد وهو على الصليب معلقًا فلكي تتحقق هذه النبوات قال: "أنا عطشان" (يو 19: 28). أخذوا إسفنجة مملوءة خلًا ووضعوها على قصبة، وقدموها له حيث كان معلقًا. أخذها وقال: "قد أكمل" (يو 19: 30). ماذا يعني: "قد أكمل"؟ كل ما قد تنبئ له قبل آلامي قد تحقق[103]. القديس أغسطينوس 3. مجازاة الأشرار المقاومين لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ قُدَّامَهُمْ فَخًّا، وَلِلآمِنِينَ شَرَكًا [22]. ترتبط هذه العبارة بالعبارات الثلاث التالية [23-25]. وكما يقول القديس أغسطينوس لم يكن هذا القول إلا نبوة قيلت في أسلوب يبدو كمن يشتهي للأعداء هذا. فالسيد المسيح لم يُصَلِّ ضد أعدائه، وإنما من أجلهم (لو 23: 34). لقد صار طعامهم ليس موضوع لذةٍ وسرورٍ، وإنما كفخٍ يصطادهم، كما يحدث مع الحيوانات عند اصطيادهم بوضع طُعم لها. فما يظنونه طعامًا يقوتهم، يصير لهم فخًا لهلاكهم. وما يحسبونه لسلامهم، إذا به يكون لسقوطهم. فيما هم يظنون أنهم قد صاروا في أمان بعد صلب السيد المسيح، إذا بهم في فخٍ لا يعرفون كيف يهربون منه. في جوعه وعطشه إلى إيمانهم وحبهم يود أن يهبهم ذاته حياة أبدية، فقدموا له عوض الطعام والشراب علقمًا وخلًا. جحدوا الإيمان به ونصبوا فخًا خفيًا للخلاص منه. أما هو فحزين عليهم، لأنهم في طعامهم يُنصب لهم الفخ. طعامهم أن يبتلعوه هو ومؤمنيه وهم أحياء. يقول المرتل: إذًا لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا" (مز 124: 3). بقوله "قدامهم" يُعلن أنه يود أن يكتشفوا الخطر الذي حلّ بهم، فيعترفوا بخطئهم ويهربوا من الفخ الذي نصبوه لأنفسهم. * قد يبدو لقليلي الفهم أن بعض النصوص الكتابية مناقضة لشريعة السيد المسيح الآمر بمحبة الأعداء. فلقد جاء في العهد القديم كثير من الأدعية ضد الأعداء، مثال ذلك "لتَصِر مائدتهم... فخًّا" (مز 22:69)، "ليكن بنوهُ أيتامًا وامرأته أرملة" (مز 9:109) وغيرها من تلك العبارات التي جاءت في نفس المزمور متنبئة عن يهوذا. أما في العهد الجديد فلقد جاءت بعض النصوص التي يبدو فيها شيء من التعارض مع وصية الرب ووصية الرسول "باركوا لاعنيكم". مثال ذلك ما قاله رب المجد عندما لعن المدن التي لم تقبل كلمته (مت 20:11-25)، وما جاء على لسان الرسول عن شخص معين ليجازه الرب حسب أعماله" (2 تي 14:4)[104]. القديس أغسطينوس لِتُظْلِمْ عُيُونُهُمْ عَنِ الْبَصَرِ، وَقَلْقِلْ مُتُونَهُمْ دَائِمًا [23]. "الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله" (2 كو 4: 4). اقتبس الرسول بولس هذا النص في حديثه عن اليهود الذين رفضوا الإنجيل (رو 11: 10). الذين قاوموا السيد المسيح وكنيسته يفقدون روح الفهم والمعرفة ويصيرون عميان روحيًا. جاءت كلمة "متون" في الترجمة السبعينية: "ظهور"، فإن قوة الإنسان في حقويه، فإن كان ظهر الإنسان (أو حقويه) ضعيفًا لا يقدر أن يمارس عملًا ما، بل غالبًا ما يكون ظهر محنيًا أو في حالة شبه فالج. * هذا يعني أنه ليت تعزياتهم وخيراتهم تتحول إلى هلاكهم، وأن يكونوا مفتوحين لكي يهاجمهم كل أحدٍ[105]. القديس يوحنا الذهبي الفم * لما ضُرب إخوة يوسف بالحسد قدَّموا ظهورهم لا وجوههم للحب الأخوي، هكذا أيضًا اليهود التعساء فضَّلوا الحسد عن الحب لمصدر الخلاص، الذي جاء إليهم. مثل هؤلاء قيل عنهم في المزمور: "لتظلم عيونهم عن البصر، ولتكن ظهورهم واهية دائمًا" [23]. الأب قيصريوس أسقف آرل * كانت هذه (الظلمة أثناء الصلب) علامة واضحة لليهود أن أذهان صالبيه قد التحفت بالظلمة الروحيَّة، إذ حدث عَمَى جزئي لإسرائيل (رو ١١: ٢٥)، وقد لعنهم داود في محبَّته لله، قائلًا: "لتَظلمّ عيونهم فلا ينظروا" (مز 69: ٢٣). انتحبت الخليقة ذاتها ربَّها، إذ أظلمت الشمس، وتشقَّقت الصخور، وبدا الهيكل نفسه كمن اكتسى بالحزن، إذ انشقَّ الحجاب من أعلى إلى أسفل. وهذا ما عناه الله على لسان إشعياء: "أَُلبس السماوات ظلامًا، وأَجعل المُسح غطاءها" (إش ٥٠: ٣)[106]. القديس كيرلس الكبير * عدم استحقاق الراعي غالبًا ما يكون متلازمًا مع عدم استحقاق الرعية، فإذا كان الرعاة لا يملكون نور المعرفة نتيجة لخطيئتهم الشخصية فإنه تبعا لذلك تعثر الرعية بسبب جهلها حسب قصاص القضاء. من أجل ذلك قال رب المجد يسوع: "إن كان أعمى يقود أعمي يسقطان كلاهما في حفرة." (مت 15: 14؛ لو 6: 39) وفي هذا قال صاحب المزامير متنبئًا: "لتظلم عيونهم عن البصر وقلقل متونهم دائمًا." (مز 69: 23). إن القادة هم بالحقيقة عيون، إذ أنهم في واجهة أعلى الرتب وقد أخذوا على عاتقهم توضيح الطريق، أما الذين يتبعونهم فقد ارتبطوا بهم وعليه فهم يدعون "بالمتون". وهكذا عندما تظلم العيون، تنحني المتون أيضًا، لأنه عندما يفقد القادة نور المعرفة، ينوء الذين يتبعونهم تحت نير خطاياهم[107]. الأب غريغوريوس (الكبير) * لأننا حين نكد في عملٍ ما، وننحني بانشغال به والميل إليه، فإننا نستلقي عادة ونستريح. لكن الخطاة الذين اقترفوا آثامًا شنعاء، خاصة الأشرار منهم لا يمكن أن يستلقوا ويستريحوا. إذ قيل عنهم: "إحنِ ظهورهم دائمًا" (مز 23:69). لأن الذين لا يلتصقون بالمسيح، لا يرتفعون بأنفسهم إلى السماويات، من ثم لا يرتفع معه الذين موتهم شرير جدًا، كما هو مكتوب "موت الأشرار شرير للغاية" (مز 21:34)، لكن الإنسان الذي يموت مع المسيح، ويدفن مع المسيح، لا يجد راحةً فقط بل وقيامة أيضًا (راجع رو 4:6). وعن هذا الإنسان قيل بحق "شفيتَ كلَ ضعفاته في مرضه" (مز3:41)، خاصة إذا كان شهيدًا، تنكشف ضعفاته في الآلام، وموته بالقيامة[108]. القديس أمبروسيوس صُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطَكَ، وَلْيُدْرِكْهُمْ حُمُوُّ غَضَبِكَ [24]. لِتَصِرْ دَارُهُمْ خَرَابًا، وَفِي خِيَامِهِمْ لاَ يَكُنْ سَاكِنٌ [25]. هنا نبوة عن العقوبات المفجعة التي تحل عليهم من قبل الغضب الإلهي. أعلن ذلك السيد المسيح حين بكى على أورشليم ورثاها، قائلًا: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (مت 23: 37-38). اقتبس القديس بطرس هذه العبارة وطبَّقها على يهوذا الخائن: "لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصر داره خرابًا، ولا يكن فيها ساكن" (أع 1: 20). لأَنَّ الَّذِي ضَرَبْتَهُ أَنْتَ هُمْ طَرَدُوهُ، وَبِوَجَعِ الَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ [26]. من الصعب جدًا أن يُطبق هذا على داود النبي، لكنه تحقق بالنسبة للسيد المسيح حيث قيل عنه: "ونحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله، ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه" (إش 53: 3-4). "فيقول له ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول: هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي... اضرب الراعي فتشتت الغنم، وأرد يدي على الصغار" (زك 13: 6-7). لقد ضُرِبَ السيد المسيح بكونه الراعي، فتشتت الغنم[109]. ربما يتساءل أحد: لماذا يلقي باللوم عليهم إن كانوا يطردون أو يضطهدون من يضربه الله ويضيفون جراحات لمن يجرحه الله؟ بالنسبة للسيد المسيح فإن ما حلَّ به هو حسب مسرته ومسرة الآب أن يتألم ويُصلب من أجل خلاص العالم. أما هم ففعلوا هذا لا لأجل هدف صالح، وإنما بسبب حسدهم وحقدهم. أما بالنسبة للمؤمنين فيَسمَح الله أحيانًا بتأديبهم لأجل بنيانهم، أو لأجل تزكيتهم، أم هم فيستغلون هذا ليمارسوا بغضهم وكراهيتهم. * لم يرتبك التلاميذ فقط، بل بالحري الأمر كان قد أقلقهم جدًا، وكان من الصعب عليهم إدراك هذا السرّ، كيف يمكن أن يقوم من الأموات، أو كيف من يصنع آيات لا حصر لها لحساب الشعب يُسلم لموت والعار؟ لكن هذا يتفق مع ما قاله النبي: "اضرب الراعي" (زك 13: 7). يقول أيضًا داود للآب: "لأن الذي ضربته أنت هم اضطهدوه" (مز 69: 29 LXX)... لقد قبل الآب باختيار الابن أن يتألم هكذا. لقد سمح له أن يتألم مع أنه كان له السلطان أن يمنع الألم. هذا الأمر واضح من العبارة الخاصة بسلطان بيلاطس على المسيح. "لم يكن لك سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق" (يو 19: 11)، أي "لو لم يسمح لي الآب أن أتألم"[110]. القديس كيرلس الكبير اِجْعَلْ إِثْمًا عَلَى إِثْمِهِمْ، وَلاَ يَدْخُلُوا فِي بِرِّكَ [27]. إذ يسقط الإنسان في إثم يجد نفسه ينجرف إلى إثم آخر، وهكذا كل خطية تدفع الإنسان إلى خطية أخرى. أو كما يقول آباء البرية، إنه إذ يسقط الإنسان في خطية ولا يقدم توبة عنها يصير ألعوبة يتلقفه شيطان ليسلمه لآخر في سخرية. بهذا يفقد الإنسان رجاءه في الخلاص والتمتع ببرّ المسيح، إذ يجده نفسه قد سقط في كم خطير من خطايا متباينة! يرى البعض أن السقوط في خطية يولِّد خطية جديدة، فتتكاثر الخطايا، ما لم يركز الإنسان عينيه على المخلص القادر أن يقيمه ويهبه إمكانية الشركة معه. يرى القديس أغسطينوس أنهم إذ صلبوا السيد المسيح وهم يحسبونه إنسانًا عاديًا ارتكبوا إثمًا، أما وقد أعلن عن نفسه وشخصه وأصروا على مقاومته فيزداد إثمهم إثمًا، وكما يقول السيد المسيح نفسه في مثل الكرم والكرامين: "وأما الكرامون، فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه" (مت 21: 38). كما قال لهم: "لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية. ولكن الآن تقولون إننا نبصر، فخطيتكم باقية" (يو 9: 11). وأيضًا: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية. وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15: 22). لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ الأَحْيَاء،ِ وَمَعَ الصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا [28]. "سفر الحياة": أشار إليه موسى النبي بكونه رمزًا، كأن الله يسجل أسماء الصديقين الذين يتمتعون بالحياة الأبدية. عندما أخطأ الشعب خطية عظيمة وبخهم، وصعد إلى الرب ليكفر عن خطيتهم، حيث صنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب؛ وفي نفس الوقت شفع فيهم، قائلًا للرب: "والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32). يرى البعض[111] إن فكرة هذا الكتاب مصدرها الآتي: أ. ربما ما اعتاد عليه قادة الجيوش من حذف اسم الجندي الذي يهجر الجندية أو يموت من سجل الجندية. ب. وجود سجلات دقيقة لبعض المدن يُسجَّل فيها أسماء المواطنين، كحصر لهم. يحذف من هذه السجلات أسماء المرتدين عن الإيمان، والفارين والمجرمين وأيضًا الأموات. ج. ربما جاءت من فكرة قيام بعض الممالك والإمبراطوريات بعمل اكتتاب من حين إلى آخر لكل الدول التابعة لها (لو 2: 1). الله بسابق علمه يعرف الصديقين فيختارهم ويمجدهم. فمحو اسم الشرير من سفر الحياة، إنما صورة رمزية لدور الشرير نفسه في حرمانه من المجد الأبدي. عندما قاوم اليهود الرسولين بولس وسيلا، قال الرسولان: "كان يجب أن تُكلَموا أنتم أولًا بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 46). يقول الرسول بولس: "لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه... والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا. والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا. والذين بررهم، فهؤلاء مجدهم أيضًا" (رو 8: 29-30). * الذين لا يلتصقون بالمسيح لا يرتفعون إلى السماويات، وبالتالي فإن هؤلاء الذين موتهم شرير للغاية لا يقومون معه كما هو مكتوب: "موت الخطاة شر للغاية". أما الإنسان الذي يموت مع المسيح ويُدفن معه، لا يجد فقط راحة، بل وقيامة[112]. القديس أمبروسيوس * بينما كان لا يزال يصلِّي ظهر له ملاك الرب مُرعِب للغاية، وقد أمسك بيده سيفًا ناريًا استله. قال لأبينا باخوميوس: "كما أن الله محا اسمه من سفر الحياة (خر 32: 32-33؛ مز 69: 28) هكذا فلتسحبه من وسط الإخوة، فإنهم ليسو جاهلين. فإنه بالحقيقة حتى بالنسبة للجاهلين فان النجاسات التي من هذا النوع تظهر كرجاسات أمام الرب"[113]. سيرة القديس باخوميوس ربما يتساءل أحد إن كان بيلاطس بنطس الوالي قال: "ما كتبت قد كتبت" (يو 19: 22)، فكيف يمحو الله اسم شخص سجله في كتاب الحياة؟ ألا يعلم الله مسبقًا إن كان سيتمتع بالحياة الأبدية أم لا؟ للإجابة على ذلك فإن المرتل يُحدِّث أناسًا أشرار يَحسبون أنفسهم أبرارًا، فهم يظنون أنهم ببرهم قد سجلوا أسماءهم في سفر الحياة مع طغمة الصديقين. يؤكد لهم المرتل أنهم وإن ظنوا هذا فإن الله يمحو أسماءهم من سجل الصديقين. هذا ومن جانب آخر، فإن الله في محبته للبشرية كثيرًا ما يحدثهم بلغتهم البشرية حسب مفاهيمهم. فبقوله يمحو أسماءهم لا يعني المفهوم الحرفي، لأنه لا يوجد كتاب بالمفهوم المادي. 4. تسبحة نصرة أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَكَئِيبٌ. خَلاَصُكَ يَا اللهُ فَلْيُرَفِّعْنِي [29]. إن كان النبي يشكو من هؤلاء الأعداء القساة، المقاومين في تشامخ، يعترف أنه مسكين وبائس، عاجز بنفسه عن المقاومة. لا يقاوم العنف بالعنف، إنما يشعر بثقل المرارة والحزن الشديد، ليس من يقدر أن يعزيه ويرفع نفسه المنحنية غير الله. لقد حمل السيد المسيح كل خطايا العالم، وصار ذبيحة خطية عنهم، وقبل بإرادته أن ينزل عن الجحيم، لكي إذ يقوم ويصعد إلى السماء يحمل فيه أصحاب القلوب المنكسرة. صار الغني -خالق السماء والأرض- مسكينًا وحزينًا، لكي يحمل المساكين والحزانى إلى ملكوته السماوي المفرح. أُسَبِّحُ اسْمَ اللهِ بِتَسْبِيح،ٍ وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ [30]. جاء السيد المسيح إلى أرضنا يشاركنا آلامنا، لكنه وهو متألم، بل وهو حامل آلامنا كان متهللًا بالروح من أجل البسطاء والأطفال الذين يتمتعون بإعلانات إلهية يعجز الحكماء عن إدراكها (لو 10: 21). وإذ قام من الأموات لم نسمع عنه أنه بكى أو حزن بعد. إنه يود أن نشاركه الحياة المُقامة فتتحول أحزاننا إلى تسبيح لا ينقطع، وفرحٍ مجيد دائم. إنه يحملنا بصليبه إلى بهجة قيامته، وحياة النصرة على آخر عدو وهو الموت (1 كو 15: 55-57). هنا يكشف للمساكين والحزانى الغنى الحقيقي والفرح الذي لا يُنزع منهم، وهو التسبيح لاسم الله، وتقديم الحمد لعظمته. فَيُسْتَطَابُ عِنْدَ الرَّبِّ، أَكْثَرَ مِنْ ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ [31]. إذ تتحول حياتنا إلى تسبيح دائم، يتقبل هذه التسابيح كذبيحة يُسر بها أفضل من الذبائح الحيوانية. "ذابح الحمد يمجدني" (مز 50: 23). * تخرج تسبحته من فمي فتسر الله أكثر من ذبيحة ثمينة تُقدَّم على مذبح. القديس أغسطينوس يَرَى ذَلِكَ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ، وَتَحْيَا قُلُوبُكُمْ يَا طَالِبِي اللهِ [32]. ليس ما يُسر قلب المؤمن أكثر من قبول الله لذبائح الحمد والشكر والتسبيح. إنه بهذا ينعم بعربون الحياة الأبدية والشركة مع السمائيين. "يُسبِّح الرب طالبوه، تحيا قلوبكم إلى الأبد" (مز 22: 26). يرى القديس أغسطينوس أن المؤمن وهو يوجه بصيرته الداخلية لتتفرس في الله إنما تطلبه لكي تجده فتحيا نفسه. وإذ تجده تشتاق إليه لتبلغ إلى أعماق جديدة فتطلبه، وتبقى في هذا الطلب في نمو دائم لا ينقطع! * لنوجِّه نظرات عقولنا بمعونة الرب، فتطلب الله. كلمة النشيد الإلهي هي: "اطلبوا الله، فتحيا نفوسكم" (راجع مز 69: 33). لنطلب ذاك الذي يوجد، بهذا نطلب الموجود. إنه يختفي لكي نبحث عنه ونجده. إنه فوق كل قياس حتى عندما يوجد؛ وعندما يوجد يمكن أن يُبحَث عنه... لهذا لم يُقل: "اطلبوا وجهه دائمًا" كما يحدث بالنسبة لبعض البشر: "دائمًا تتعلمون ولن تبلغوا معرفة الحق"، بل بالحري يُقال عنه: "عندما يبلغ الإنسان إلى النهاية عندئذ تكون البداية"[114]. * اطلبوا الرب يا أيها المساكين، الجائعين والعطاشى، فإنه هو نفسه الخبز الحي النازل من السماء (يو 6: 33، 51). "اطلبوا الرب فتحيوا". أنتم تطلبون خبزًا لكي يحيا جسدكم، وتطلبون الرب لكي تحيا نفسكم. القديس أغسطينوس لأَنَّ الرَّبَّ سَامِعٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَلاَ يَحْتَقِرُ أَسْرَاهُ [33]. يشتاق الله أن يجيب طلبات شعبه وصلواتهم، إن حملوا روح التواضع. إذ يسمعونه يقول: "ويكون إني قبلما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع" (إش 65: 24). إنه لا يستخف بالذين سجنوا لأجله، وصاروا من أجل اسمه أسرى. ينسبهم إليه، فيدعوهم النبي "أسراه" أو المسجونين لأجله. "لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق" (إش 61: 1). "مُخرج الأسرى إلى فلاحٍ" (مز 68: 6). لا يكف الله عن أن يمل أذنيه ليسمع تنهدات المأسورين. "ليدخل قدامك أنين الأسير" (مز 79: 11). * الغِنَى الحقيقي للإنسان المسكين هو التأمل في الخليقة وتسبيح الخالق. القديس أغسطينوس تُسَبِّحُهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْبِحَارُ، وَكُلُّ مَا يَدِبُّ فِيهَا [34]. كل المسكونة تُسبِّح الله، السماء والأرض والبحر، كل المؤمنين أينما وُجدوا في اتحاد مع السمائيين يكونون جوقة رائعة للتسبيح لمخلص العالم. لأَنَّ اللهَ يُخَلِّصُ صِهْيَوْن،َ وَيَبْنِي مُدُنَ يَهُوذَا فَيَسْكُنُونَ هُنَاكَ وَيَرِثُونَهَا [35]. يبدأ المرتل بعض المزامير بصيغة الجمع وينتهي بصيغة المفرد كما في المزمور 66 حيث يبدأ بهتاف الأرض كلها لله [1-12] وينتهي بعبادته الشخصية في بيت الرب وتمتعه بمراحمه الإلهية [13-20]. وفي مزامير أخرى يبدأ بعلاقته الشخصية بالله [69: 1-31] وينتهي باشتراك سكان السماء والأرض والذين في البحار في التسبيح لله، واهتمام الله بخلاص صهيون وبناء مدن يهوذا [69: 32-36]. أحيانًا يتحدث بصيغة المفرد كل المزمور، وتارة بصيغة الجمع. ماذا يعني هذا سوى أنه ليس من عزل بين العلاقة الشخصية التي تربط المؤمن بالله، وعلاقته كعضو في الجماعة المقدسة بالله. فإذ يبني الله أورشليم الداخلية في القلب إنما يعمل في الجماعة كلها، وإذ يهتم بالجماعة فإنه يعمل في كل مؤمن كأن حبه له يعادل حبه لكل الجماعة. "فيسكنون هناك ويرثونها" [35]، من هم الذين يسكنون في مدن يهوذا سوى الودعاء وطالبو الرب والمساكين والأسرى والمُسَبحين سواء كانوا في السماء أو على الأرض أو في رحلتهم عبر البحار [32-34]. إنه يجمع الكل متى تمتعوا بعمله الخلاصي ليقيم منهم صهيون الجديدة، كنيسة الله المقدسة. * "لأن الله يخلص صهيون" [35]. إنه يجدد كنيسته، المؤمنين من الأمم المنضمين إلى ابنه الوحيد. إنه لا يخدع الذين يؤمنون به بخصوص مكافأة وعده. "لأن الله يخلص صهيون، ويبني مدن يهوذا". هذه هي الكنائس عينها. لا يقل أحد متى يبني مدن يهوذا؟ يا من تريد أن تتعرف على الصرح العظيم، كن حجرًا حيًا حتى تدخل فيه. الآن مدن يهوذا تُبنَى، لأن كلمة "يهوذا" معناها "اعتراف". بالاعتراف في تواضعٍ تُبنَى مدن يهوذا، حتى تبقى بدون المتشامخين الذين يستحون من الاعتراف. القديس أغسطينوس وَنَسْلُ عَبِيدِهِ يَمْلِكُونَهَا، وَمُحِبُّو اسْمِهِ يَسْكُنُونَ فِيهَا [36]. السِمَة العامة في كل شعب الله الحقيقي الذي يتمتع بالسكنى مع الله، أو سكنى الله في وسطهم هي الحب "محبو اسمه يسكنون فيها" [36] يتمتعون بذلك هم ونسلهم الذين يسلكون على منوالهم ويشتركون معهم في إيمانهم. من وحي مز 69 من الأعماق صرخت إليك * انهمرت سيول الأشرار عليَّ، دخلت المياه إلى نفسي، وغاصت كما في أعماق وَحْلٍ بلا حدود! ماذا يطلب الأشرار مني؟ إنهم تراب ووحل، لن يستريحوا حتى تتحول أعماقي إلى وحلٍ وفسادٍ! أصرخ إليك، فتُحوِّل مقاومتهم لبنيان نفسي. بنار الضيقات تُحوِّل ترابي إلى ذهب ثمين! وتُخرِج من الإناء الفخاري إناء للكرامة! * أنت وحدك تسمع صرخات قلبي! لقد يبس حلقي من الصراخ. وكلَّت عيناي من ترقبي لمجيئك. لتحل في داخلي، تحول مرارتي إلى عذوبة. وينفتح فمي للتسبيح والحمد، وتنفتح عيناي، لترى عظم جمالك وبهائك! * إن كان الأعداء قد كثروا أكثر من شعر رأسي، فإني أتحد بك يا رأس الكنيسة. فتتبدد كل خطط الأشرار. * هاج الملوك والرؤساء عليك بلا سبب. حكموا عليك ظلمًا. بحبك قبلت الصليب، لتدفع دينًا لم تقترضه. لأتحد بك أيها المصلوب، فتتحول كل الاضطهادات إلى شركة مجد معك! أجد في العار، عار الصليب، قوتك للخلاص. عوض الخزي والخجل أعتز بنَسَبي لك. * ليحسبني العالم غريبًا عنه وأجنبيًا. بك صرت من أهل بيت الله! صمت عن العالم وكل ما فيه، لأنك أنت شبعي وفرحي. * ليلبس جسدي المسوح، وليحسبني العالم مثلًا، وليسخر الساكرون بالعالم بي. فأنت هو لباس نفسي ومجدي، وإكليلي! أنت هو تسبحتي وفرحي. * هوذا العدو - إبليس - بكل طاقاته يود أن يغرقني. هل تقدر الهاوية أن تبتلع ما هو لك؟ هل يقدر إبليس أن يحطم من يختبر عذوبة رحمتك؟ لتكثر الضيقات، فبدونها لا أستعذب رحمتك. بدونها لن تعطش نفسي للتمتع ببهاء وجهك. بدونها لا تصرخ أعماقي لتقترب أنت إليَّ * في وسط آلامك صرخت وأسلمت الروح، يا خالق الأرواح والأجساد! تركك الجميع، ليس من يقدم رقة وحنوًا، ولا من ينطق بكلمة تعزية. حقًا إذ صرت مجرَّبًا تعين المجربين. وحين يطردنا العالم من المحلة، نحمل معك عار الصليب. * ليقدم لي العالم علقمًا وخلًا! أنت طعامي وشرابي، تحول المرارة إلى حلاوة. أنت طعام الملائكة، تشبع النفوس! * نفسي حزينة للغاية، من أجل الذين أعدوا لأنفسهم مائدة، فإذا بهم يُعدُّون فخًا لأنفسهم. أظلمت عيون قلوبهم، ففقدوا رؤية السماويات. وضعفت قوتهم، فانحنت نفوسهم كما في عبودية مرة. تحولت بيوتهم إلى خراب، لأن قلوبهم صارت خاوية لا يسكنها روحك القدوس. * في محبتك لي تسمح بتأديبي. فيجد الأشرار فرصتهم لبث سمومهم. يضيفون إلى جراحاتي جراحات جديدة. شتان بين جراحاتي التي تسمح لي بها لبنياني، وجراحات الأشرار التي تكشف عن حسدهم وكراهيتهم! * يمارسون شرورهم عن معرفةٍ وعمدٍ، فيضيفون إلى إثمهم إثمًا ويغلقون أبواب برَّك حتى لا يدخلوا إليه. في تشامخهم يظنون أنهم أبرار. يحسبون أسماءهم مسجلة مع أبرارك في كتابك! لكنهم بإصرارهم على عدم التوبة، لم تُكتب أسماؤهم في كتابك! * أخيرًا أعترف لك إني مسكين حزين. تفتح لي أبواب رحمتك، فأغتني بالتسبيح لك. وتملأ قلبي بتعزيات روحك القدوس! تنصت إلى صلاتي يا سامع للمساكين. وتشتم ذبيحة التسبيح رائحة سرور ورضى. لك المجد يا من صرت مسكينًا لتضم إليك المساكين! |
||||
|