الكآبة و الاكتئاب
هى نوع من المبالغة الشديدة يحارب بها الشيطان التائبين، أو الشاعرين بخطاياهم، أو المنسحقين بقلوبهم، لكي يجرهم إلى الضياع...
يختار لهم الشيطان من بين كل آيات الكتاب المقدس آية واحدة يضعها أمامهم باستمرار وهي "بكآبة الوجه يصلح القلب" (جا 7: 3). ويقول لهم إن الكتاب لم يذكر مطلقًا أن المسيح قد ضحك، ولكن ذكر أنه بكى مرات... وكلما يفع هذا الإنسان في خطية، أو يحارب بشدة في خطية، يظل الشيطان يزيده كآبة. ويقول له: أنت لست ابنًا لله، لأنك خاطئ، والكتاب يقول إن "المولود من الله لا يخطئ" (1يو3: 9، 5: 18).
ويقول له: وليس الله فقط، بل حتى أب اعترافك القديس لا يستحق أن تكون له ابنًا. إنك عار عليه. تسئ سمعته.
والأفضل أن تترك هذا الأب البار، حتى لا يعيره الناس قائلين: أنظر، هذه هي عينة أبنائك. وأيضًا أتركه حتى لا يأخذ دينونة بسببك، وحتى لا تحزن نفسه باستمرار، كلما يراك هكذا. وهكذا يبعده عن الله، والشعور بأبوته، ويبعده عن أب الاعتراف. وحتى إن أمسك الكتاب المقدس ليقرأ، يقول له: وهل تتجرأ لتمسك كتاب الله بيدك هذه غير الطاهرة. إن كل كلمة في هذا الكتاب دينونة عليك. لأن السيد المسيح نفسه يقول عنك وعن أمثالك "الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير" (يو12: 48). وبهذا يملأ نفسه بالكآبة، حتى يترك الكتاب بنفس مرة يائسة...
وحتى الخدمة - إن كان خادمًا - يبعده عنها كغير مستحق.
فيقول له: إن الخدمة هي عمل القديسين وليس الخطاة. وأنت خاطئ لا تستحق أن تجلس في مكان المعلمين، وإلا ستكون عثرة، كما أن الخدمة ستنسيك خطاياك التي يجب أن تضعها أمامك في كل حين، وتكتئب عليها ليلًا ونهارًا،حتى إن وقف يصلى، يمنعه قائلًا: "صلاة الأشرار مكرهة للرب" (أم 15: 8، 28: 9)... ويقول له: هوذا العشار وقف بعيدًا، لا يجرؤ أن يرفع نظره إلى فوق (لو18: 13). وأنت بكل استهتار ولا مبالاة، تتحدث مع الله، وأنت كاسر لكل وصاياه. ليتك تخجل من نفسك، وتبعد عن هذه الصلاة الأثيمة!
وهكذا يبعده بالكآبة عن كل وسائط النعمة، لينفرد به.
ينفرد به وهو وحيد، بنفس محطمة، وليس حوله إنجيل ولا صلاة، ولا أب اعتراف، ولا خدمة ولا اجتماعات كنسية، بل ربما وليس حوله أيضًا أصدقاء، إذ بعدوا عنه بسبب كآبته، أو بعد هو عنهم... وهكذا يصير فريسة سهلة للشيطان.
وما أسهل أن يقول له: أترك الوسط الديني لأنه سبب كآبتك!
أو ما أسهل أن يرسل له هذه العبارة على أفواه أقاربه، أو على فم طبيب معالج. ويجذبه بالتدريج إلى وسائل من اللهو للترفيه عنه من كآبته، ولو إلى فترة مؤقتة، يطيلها الشيطان بحيله الأخرى، إلى أن يبعده عن الله تمامًا... أو أن الشيطان يسقطه بوسيلة أخرى وهي اليأس. وتكون الكآبة ممهدة لذلك.
وحيلة الشيطان في الكآبة، أنه أبعد فريسته عن الرجاء والمغفرة.
أبعده عن وجه الله المحب، الذي استقبل ابنه الضال بكل ترحاب، وفرج به، وجعل الكل يفرحون، وألبسه الحلة الأولى (لو15: 22 - 24). بل إن الرب يقول إنه "يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب" (لو15: 10)... حقًا إن القديسين بكوا على خطاياهم، ولكن ليس بغير رجاء. بل إن الكتاب يقول:
"لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم" (1تس4: 13).
الحزن على الخطية، لا يفصلنا عن الله، بل يقربنا منه. ويزيد محبتنا له، لأنه على الرغم من خطايانا، غفر لنا. بل قال بالأكثر "لأني أصفح عن إثمهم، ولا خطيتهم بعد" (أر31: 34). والله لا يسر بموت الشرير، بل بأن يرجع ويحيا (حز18: 23).
مشكلة الذي فقد الرجاء بالكآبة، أنه أخذ مشورة الحية، الشيطان.
أما كلمة الله، فإنها مملوءة عزاء. وقلب الله باستمرار مملوء حبًا. والكآبة جعلت لكي تقود إلى التواضع والانسحاق، وليس إلى اليأس والانفصال عن الله. أما إذا استخدم الشيطان هذه الكآبة بطرقه الشريرة، فإنه لا شك يضيع صاحبها. ها هو بطرس الرسول بعد أن أنكر المسيح، ومع أنه بكى بكاء مرًا، إلا أن السيد المسيح له المجد ظهر له، "ارع غنمي. ارع خرافي" (يو21: 15، 16). أي رجاء يمكن أن يقال أكثر من هذا. لذلك فإن كآبة الوجه التي تصلح القلب، ينبغي ألا تنفصل عن الحب وعن الرجاء