إخفاء الفضائل
الذي لا يحب المديح، تراه يخفي فضائله عن الناس، حتى لا ينال مديحًا منهم بسببها. فهو بكل الوسائل، وبصدق نية، يعمل الخير في الخفاء حسب وصيه الرب (مت6) وحسبما كان يفعل القديس الأنبا صرابامون أبو طرحة..
حقًا إن كنت تعمل الخير من أجل الله، لا من أجل الناس، فماذا يهمك إن كان الناس يرون هذا الخير أو لا يرون؟! تحضرني هنا قصة حدثت مع القديس الأنبا بموا. جاءت إليه في أحد الأيام القديسة ميلانيا -قبل رهبنتها- وكانت من الأثرياء وأعطته صرة فيها كمية كبيرة من الذهب، وطلبت إليه أن ينفقها على الرهبان الذين في البرية الجوانية. فنادي القديس بموا على تلميذه، وسلمه الصرة دون أن يفتحها وطلب إليه أن يوزعها على الرهبان المحتاجين في البرية الجوانية. وهنا قالت له ميلانيا: [ولكنك لم تفتحها يا أبي. لتعرف مقدار ما فيها كم هو؟] فنظر إليها القديس في عمق وقال لها:
[إن كنت يا ابنتي قد قدمت هذا لمال لله، فهو ولا شك يعرف مقداره كم هو]..!
وأخذت ميلانيا درسًا وحيًا، ينقذها من المجد الباطل الذي يريد أن يظهر كثرة ما قدمته من مال، أمام القديس، وأمام نفسها..
وهنا نذكر قول السيد الرب:
"وأما أنت فمتى صنعت صدقة، فلا تعرف شمالك ما تفعله يمينك" (مت6: 3)..
فما معني هذه الوصية الإلهية؟ وما عمقها؟ معناها أنه لا يكفي فقط أن الناس لا يعرفون ما تفعله أنت من الخير إنما أكثر من هذا..
لا تجعل فضائلك تعرفها نفسك أيضًا أخفها عن نفسك. لا تذكرها ولا تتذكرها ولا تتأملها.
بعض الناس يقدمون للفقراء، بدون عد حتى لا يعرفوا ما أعطوه. وهكذا ينفذون الوصية حرفيًا، والبعض يعطي ولا يحاول أن يتذكر تفاصيل ما أعطاه، ولا يجلس في آخر كل فترة ليجمع حصيلة كل ما قدمه خلال تلك الفترة.
إن الله لا يحاسبك فيما أعطاه لك فلا تحاسبه أنت في ما أعطيته له:
إنس كل ما فعلته من خير. لا تعد تتذكره. لا تتحدث عنه أمام الناس، ولا تفكر فيه فيما بينك وبين نفسك. ولا يكن هدفك في العطاء، أو في عمل الخير عمومًا، أن يراك الناس، أو أن يمدحوا عملك.
وليس معني هذا أنك لا تعمل الخير، خوفًا من أن يراك الناس:
إنك في هذه الحالة تعتبر مقصرًا في حياتك الروحية، إنما افعل الخير حبًا في الخير، وحبًا للناس الذين تعمل معهم الخير، وحبًا له الذي أعطاك الخير الذي تفعله. ولا تبال بعد ذلك أن يراك الناس أو لم يروك...
أحيانًا نظر الناس، يعطي حماسًا لعمل الخير ولكنه ليس حماسًا روحيًا إنما هو حماس لكسب المديح!
وفي هذا الأم نذكر أن راهبًا سوريًا سكن في برية شهيت. وفي أحد الأيام أتي إلى القديس مقاريوس الكبير، وقال له: [لماذا يا أبي حينما كنت في بلدي، كنت أطوي الأيام صومًا، وهنا في البرية أشعر بالجوع الشديد قبل أن أصل إلى الغروب؟!] فأجابه القديس مقاريوس: [حينما كنت في بلدك، كان الناس يرونك، فكنت في صومك تتغذي على المجد الباطل. أما هنا في البرية، فإذ لا يراك أحد تشعر بالجوع!]
وفي إخفاء الفضائل، قد يحارب المؤمن بأن يكون قدوة..
ولكن الإنسان المتضع، لا يضع نفسه قدوة لأنه لا يري في نفسه شيئًا يقتدي به الآخرون.
إنه يقول لله في صلاته: [ أنت تعرف يا رب حياتي، كم هي خاطئة. فهل لأنك سترتني ولم تشأ أن تكشفني أمام الناس، استغل أنا هذا الستر، وأتمادى لأجعل نفسي قدوة! من أنا حتى أكون قدوة!؟!].
لذلك لا يجوز لنا أن نجعل هدفنا أن نكون قدوة، حتى لو صرنا قدوة بدون إرادتنا بترتيب من الله..
إن الذي يهدف أن يصير قدوة، ما أسهل أن يقع في الكبرياء وفي الرياء، ويظهر للناس بغير حقيقته! يخفي أخطاءه، ويظهر فضائل له!
أما المتواضع الهارب من القدوة، فإنه قد يظهر للناس نقائصه وضعفاته.
أتي بعض رهبان من الإسقيط إلى ألأم سارة، وحكوا لها نقائصهم. فقالت لهم:
[بالحقيقة أنكم أسقيطيون لأن ما عنكم من الفضائل تخفونه. وما ليس فيكم من الرذائل إلى أنفسكم].
وكان القديس الأنبا بيشوي، إذا عرف عنه تدبير روحي معين، يتركه وينشغل بتدبير آخر لا يعرفه أحد، ولكن ليس معني هذا، أن تترك كل تدبير حسن تسير فيه.
فقد يضرك هذا. إنما اثبت في كل تدبير صالح من أجل نموك الروحي، وليس لكي ينظرك الناس. وليكن إخفاؤك لفضائلك بحكمة..
ومع ذلك نقول إن بعض الأشخاص -بحكم وضعهم- من المفروض أن يكونوا قدوة، لئلا يعثروا غيرهم. مثل رجال الاكليروس والقادة والمسئولين على أن يكون ذلك بطبيعة حياتهم، وليس اصطناعًا أو رياء...
وحتى هؤلاء أيضًا، يمكن أن تكون لهم فضائل كثيرة مخفاة. والمهم أن لا تكون اهتماماتهم بنموهم الروحي يقولون مع الرسول: "أنسي ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام" (في3: 13).