فحصتني يا ربّ فعرفتني المزمور المئة والتاسع والثلاثون
. اعتبر الشراح المزمور المئة والتاسع والثلاثون من أجمل نصوص العهد القديم، فرأى فيه بعضهم نشيد شكر لله (آ 1- 18) يتبعه توسّل وتشكٍّ (آ 19- 24). ورأى فيه آخرون تسليمًا مطلقًا للمؤمن بين يدي الله، واستعدادًا للسير في ركابه، كما كان يفعل الامراء مع الملوك العظام. والشاهد على صدق كلام المرتّل هو الله ذاته الذي يعرف كل شيء، لأنه موجود حيث يكون عبيده، وقد جبل قلوبهم وجعلها في يده فلا يخافون شيئًا.
2. الله يعرف قلب أحبائه.
آ 1- 6: الله يعرف كل شيء: عرفت جلوسي وقيامي...
آ 7- 12: الله حاضر في كل مكان: إن صعدتُ إلى السماء فأنت هناك.
آ 13- 18: الله يعرف الخلائق لأنه بيده جبلها.
آ 19- 24: صلاة إلى الرب لينجّي العالم من شرّ الأشرار.
أ- معرفة الله الشاملة: إن أول أمر تيقنه المرتّل هو أن الله يعلم كل شيء. يعلم علمًا دقيقًا، لا علمًا بعيدًا وغامضًا، وقد تفحّص حياة البشر ونزل إلى أعماق قلب المرتّل. الله يعلم أن المرتّل بريء وأن أعداءه يتّهمونه زورًا، ولذلك فهو لا يخاف شيئًا. علمُ الله أساس علم الانسان ويقينه. ثم يصوّر المرتّل علم الله بالتفاصيل: الجلوس، القيام، السفر... الله يعلم كل هذا، يعلم حتى "شعر رأس" المرتّل، فكيف لا يعلم سلوكه وأخطاءه وكلامه حتى قبل أن يقوله. ولهذا فهو يستطيع أن يكون شاهدًا لأقوال وأفعال المرتّل الذي يتهمه أعداؤه. الله بجانب خلائقه، هو أمامها ووراءها، وله ماضيها وحاضرها، وهو من لا يحّده الزمان والمحكان. شعر المرتّل أن ما قاله أقصر من أن يصل إلى الحقيقة فقال: "علم جيب فوق طاقتي، أرفع من أدركه". وكان أيوب (42: 3) قد قال: "إني قد نطقت بما لا أدرك، بمعجزات تفوقني ولا أعلمها". وسيقول بولس في رسالته إلى الرومانيين (11: 33): "ما أبعد غور غنى الله وحكمته وعلمه! وما أعسر إدراك أحكامه وتبيُّن طرقه!".
ب- حضور الله الشامل. لا يكتفي الله بأن يعلم كل شيء، بل يقدر ويريد أن يكون في كل مكان، ويكون خاصة بجانب صفيّه، حتى لو تركه الناس كلهم واتهمه بعضهم. لا يستطيع المرتّل أن يفلت من حضور الله (يون 1: 1 ي). هذا ما يهدئ باله ويقلقه في الوقت نفسه. في الهيكل يرى المؤمنون وجه الرب (آ 7) وفي حضرة الرب يقف المرتّل ومتهموه.
صعد المرتّل إلى السماء، ولكن هناك مقام الله (تث 7: 12). نزل إلى الجحيم، مقر الموتى "الممنوع" على الله، ولكنه وجد أن الله قد سبقه إلى هناك. الله يدخل عالم الموت وسينتصر على الموت. هذا ما سنقوله عن المسيح الذي نزل إلى الجحيم (عالم الموتى) وانتصر على الموت "في عقر داره". إن ذهب المرتّل إلى الشرق حيث يطلع الصبح، أو إلى الغرب حيث البحر الواسع، فيد الرب تهديه ويمينه تمسكه رغم ما يمكن أن يكون من أخطار على الأرض أو في البحر. وإن أراد أن يختبئ في الظلمة، فنور الرب يقتحم ظلمة العالم وظلمة قلب المرتّل بما فيها من تجديف ولعنة وثورة. وهذا ما يذكرنا بكلام أيوب (3: 3- 5): "لا كان نهار وُلدت فيه. ولا ليل قيل فيه قد حُبل برجل. ليكن ذلك النهار ظلامًا.... لتستبدّ به الظلمات وظلال الموت...".
ج- أعمال الله في خلقه. يتطلع إليها المرتّل فيُؤخذ بعظمتها، ويودّ أن يسكت مثل أيوب ليكون سكوته صلاة إعجاب بالله الخالق. الله جبل كُلية الانسان، أي المكان الخفي في الانسان حيث ضميره وعواطفه البشرية. الله نسج الانسان في حشا أمه، فكانت هذه العظمة التي حدّثنا عنها المزمور 8: "ما الانسان... نقصته عن الاله قليلاً وكللته بالمجد والكرامة... أيها الرب ما أعظم اسمك...". جبل الله جسم الانسان من تراب الأرض، ونسج الانسان في حشا أمه، فنسج له أيضًا مصيره حتى لا يستطيع أن يعترض على الله ويقول لصانعه: "لماذا صنعتني هكذا" (روم 9: 20)؟ لسنا أمام قدرية تسلبنا كل إرادة حرة، بل أمام دعوة إلى الثقة بالله والتواضع أمام الرب "الذي كل شيء منه وبه وإليه، فله المجد أبد الدهور آمين " (روم 11: 36).
د- لعنة المنافقين والخطأة. يحتدّ المرتّل على المنافقين وقد خبر أعمالهم السيّئة، فيطلب إلى الرب أن يعاملهم بشريعة المثل: سن بسن، عين بعين. أرادوا موت صفي الله فليُمتهم الله. ووراء هذا الطلب نجد تساؤلاً: الله يعرف كل شيء، ويذهب إلى كل مكان، الله كوّن الانسان وصنع كل هذه المعجزات، فكيف يسمح بوجود شهود زور وقتلة وعبّاد أصنام وسحرة؟ ولكن الانسان لا يفهم كل شيء، وأعمال الله هي أرفع من أن يدركها... لو يقتل الرب جميع المنافقين... فإذا كان الله قد قطع عهدًا مع شعبه فمبغضو شعبه هم مبغضوه... ولكن المرتّل لا ينسى أنه إن كان هو صفيَّ الله، فالسبب يعود إلى نعمة من الله. فما عليه إلى أن يأخذ بطريق الطاعة وأن يطلب من الله الهداية في السبيل الذي يقود إليه.
3. قال الرب على لسان إرميا (17: 10): "أنا الرب أفحص القلوب وأمتحن الكلى فأجزي الانسان بحسب طرقه وثمر أعماله". وصلّى إرميا إلى الرب قال (إر 12: 3): "وأنا قد علمتني ورأيتني وامتحنت قلبي لديك. أفرز أعدائي كغنم للذبح وكرّسهم (قدّسهم مثل ذبيحة) ليوم القتل". ويقول أيضًا بلسان الرب (إر 23: 23- 24): "هل أنا اله عن قرب ولست الهًا عن بعد؟ أيختبئ الانسان في الخفايا وأنا لا أراه"؟ لا يستطيع أحد أن يختفي عن الله، لأنه حاضر في كل مكان ويظهر في كل مكان. أما قال عاموس (9: 2- 3): "إن دخلوا إلى الجحيم فمن هناك تأخذهم يدي، وإن صعدوا إلى السماء، فمن هناك أنزلهم، وإن اختبأوا في رأس الكرمل فهناك اكتشفهم ومن هناك آخذهم. وإن استتروا من أمام عيني في قعر البحر فمن هناك آمر الحيّة فتلسعهم"؟ هذه هي معرفة الله، وهذا هو حضوره كما ينشده المزمور. الرب يعرف كل شيء، وهو يعرف حالة صفيّه وحالة شعبه، ولا عذر له إذًا إن لم يتدخّل.