رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أنصاف الحقائق بقلم: البابا شنودة الثالث ليس في أنصاف الحقائق أي إنصاف للحقائق.. فهي علي الرغم من ظاهر صدقها, لا تعطي مفهوما كاملا للحقيقة كما هي, ولذلك حسنا أنه في الشهادة أمام المحكمة, ينص القسم الذي يقوله الشاهد علي أنه يقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق.. وعبارة( كل الحق) لها معناها بلا شك. وكمثال أنصاف الحقائق أنني في بدء رهبنتي ـ وأنا أتأمل في حياة الاتضاح ـ كتبت هذه الأبيات: يا تراب الأرض يا جـدي وجـد الناس طـرا أنت أصلي أنت يا أقدم من آدم عـمرا ومصيري أنت في القبر إذا وسـدت قبرا فلما تقدمت في حياة الروح, غيرت رأيي وقلت: ما أنا طين ولكن.. أنا في الطين سكنت لست طينا أنا روح.. من فم الله خرجت وسأمضي راجعا لله أحيا حيث كنت وفي مجموعتي الأبيات هاتين تظهر أنصاف الحقائق, فالإنسان ليس مجرد إنسان مخلوق من تراب الأرض وحده, ولا هو مجرد روح من عند الله, إنما هو مكـون من الجسد والروح كليهما معا. موضوع( أنصاف الحقائق) كما ينطبق علي الكلام, كذلك ينطبق علي الحياة العملية أيضا, وسنقدم لذلك الكثير من الأمثلة: ففي محيط الأسرة, يحدث الطلاق أحيانا, وكل من الزوج والزوجة يلقي السبب في ذلك علي الطرف الآخر. فالزوجة تقول إن سوء معاملته لي هي السبب, بينما يقول هو إن تصرفاتها الخاطئة كانت تثيرني باستمرار, علي أن هذه الاتهامات المتبادلة بين الطرفين تمثل نصف الحقيقة. أما النصف الثاني الأساسي, فهو أن المحبة المتبادلة التي كانت بينهما والتي كانت هذ الدافع إلي الزواج قد فترت ثم ظلت تقل بالتدريج إلي أن زالت وحل محلها شعور بالضيق والرغبة في الانفصال. هناك في الحياة العملية أيضا نصفان من الحقيقة يجب أن نذكرهما معا, وهما الحق والواجب, أما الذي لك والذي عليك, فأنت مثلا لك حق في الموضوع الفلاني, ولكن من الناحية الأخري عليك واجب أو واجبات.. وبالمنطق نفسه نتحدث عن الفعل وما يقابله من رد الفعل. فأنت تقول: من حقنا أن نضرب عدو وطننا.. ونجيب بأن هذا أمر لا يجادل فيه أحد, ولكن النصف الثاني من الحقيقة هو أن العدو لن يظل صامتا أمام ضربتنا, بل سيقابلها من جانبه بضربات ربما تكون أشد.. فما نتائج ذلك؟.. وهل ستكون في مصلحتنا أم ضدنا؟.. إن كل شيء ينبغي أن يحسب له حساب, والحماس للحرب ينبغي أن يوضع إلي جواره خطورة الحرب وتكاليفها ونتائجها من تخريب وتدمير وقتل. شخص يقول: لقد ضاقت بي الحياة هنا, والأصلح لي أن أهاجر لأحقق في الخارج حياة أفضل, ويقف أمام هذا الشخص النصف الآخر من الحقيقة وهو: كيف يسافر؟ وهل إجراءات الهجرة سهلة, ثم إذا سافرت إلي الخارج, هل ستجد وظيفة تليق بك, وهل شهادتك العلمية معتمدة هناك؟.. وهل ستجد سكنا؟ وهل الوسط هناك يناسبك ويناسب أولادك وتربيتهم؟ وهل إذا ضافت بك الحياة هناك أيضا وفكرت أن ترجع إلي وطنك, هل ستجد عملك ومسكنك؟ فلا يصح إذن أن يركز أحد علي نصف واحد من الحقيقة, ويتجاهل النصف الآخر وما يشمل من نتائج.. نلاحظ في المشتغلين بالصحافة أنه كثيرا ما يركز الصحفي علي حرية الكتابة والنشر, علي أن النصف الثاني من الحقيقة أن حرية التعبير ينبغي إلي جوارها نزاهة التعبير وصدقه. أما إذا تطورت حرية التعبير إلي حرية في التشهير, فهذا أمر لا يقبله أحد. وعلي العموم, ان الحرية بوجه عام هي محبوبة ولازمة, ولكن هذا هو نصف الحقيقة. أما النصف الآخر فهو لزوم انضباط الحرية, فالحرية غير المنضبطة لها خطورتها وأخطاؤها. يدعو كثيرون إلي السلوك المثالي ووجوبه, وهذا حسن جدا, ولكن النصف الآخر من الحقيقة هو العقبات والموانع التي تقف في طريق ذلك, فعلي الداعين إلي المثاليات أن يسهلوا الطريق إليها, وأن يبحثوا عن العقبات التي تعترض طريقها, ويحاولوا أن يجدوا لها حلا, فهناك فرق كبير بين التفكير النظري والتفكير العملي. يتحدثون عن الغواية, فيذكرون باستمرار أن سبب سقوط الرجل هو المرأة, وينسون النصف الآخر من الحقيقة وهو نوعية أخلاق الرجل!.. فالرجل ذو الخلق المستقيم تكون لديه حصانة داخلية ضد كل إغراءات المرأة أيا كانت, فنقاوة قلبه تمنعه من الخطيئة. أما إن فسدت أخلاق الرجل, وزادت شهوته, وضعفت إرادته, فلا يلقي سبب سقوطه علي المرأة. في الدراسة يركز غالبية الناس علي واجب التلميذ ومذاكرته واجتهاده.. أما النصف الآخر من الحقيقة, فهو أيضا المدرسة والمدرسون: فماذا عن اهتمام المدرس, ومدي كفاءته في الشرح والتفهيم؟.. وماذا عن المدرسة والفصل الدراسي فيها يضم ستين طالبا أو أكثر, مما لا يعطي فرصة للمعلم أن يهتم بكل طالب! فهل نلقي اللوم كله علي التلميذ إذا لم يفهم ولم يستوعب؟.. وبالتالي يكون عرضة للرسوب! فإذا أضفنا إلي هذا عدم اهتمام الأسرة به في الدراسة, فما ذنبه؟.. إن التركيز علي سبب واحد في رسوب التلميذ أو ضعف تحصيله, أمر غير عملي, إنما يجب الاهتمام أيضا بباقي الأسباب. هناك بعض أمثلة أخري, نذكر منها باختصار وتركيز في فقرات: محبة الوطن هي واجب مقدس من جهة جميع أبنائه, والنصف الآخر من الحقيقة هو واجب الوطن نحو أبنائه.. وهذا أمر علي الدولة أن تقوم به, بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والشعبية. النظام أمر لازم جدا ومطلوب, أما النصف الآخر من الحقيقة, فهو من الذي يرتب النظام ويشرف عليه, وأيضا شعب يؤمن بالنظام, ويرضي بالخضوع له. كل أمور الإصلاح يلزمها اقتراحات بناءة ومفيدة, ولكن من ذا الذي يضع المقترحات, ومن ينفذها؟ يري رجال الاقتصاد أن المال هو العصب الأساسي لكل مشروع, ولكن إلي جوار المال لابد من وجود اليد التي تدبره وتحسن إنفاقه بأمانة وحكمة. |
|