أرع جسدك ولا تؤلهه!
1- قبل التجسد الإلهي وُجد في العالم اتجاهان متطرفان من جهة النظرة للجسد، فقد أحتضن بعض الفلاسفة الاتجاه الغنوسي، متطلعين إلى الجسد كعنصر ظلمة، لذا نادوا بضرورة تحطيمه. آخرون أقاموا من الجسد إلهًا يتعبدون له، خاصة للأعضاء التناسلية إذ وُجدت ديانات تتعبد للأعضاء التناسلية للرجل Phallic religions يكون مصدر الحياة وأخرى ديانات نسائية تجعل من رحم المرأة وصدر الإلهة مصادر الحياة (1). لقد أُقيمت تماثيل لرجال ونساء في حالة عري، كما مارست بعض الكاهنات الزنا في المعابد باسم الآلهة.
جاء رب المجد يسوع، خالق الجسد ومخلصه، يرفع من شأن الجسد إذ لم يستنكف منه بل تأنس وتجسد. حمل ناسوتنا ككل ليخلصه، وليس ليخلص النفس وحدها. بهذا وهبنا مخلصنا نظرة قدسية لأجسادنا كما لأجساد الغير. ففي المسيح يسوع نعتني بالجسد ونربيه (أف7:5)، هذا الذي سيقوم ويشارك نفس الأمجاد السماوية. بهذه النظرة يتطلع الإنسان إلى غيره لا كأجساد جميلة تحقق له لذة مؤقتة وإنما بالأحرى هم أعضاء جسد المسيح (1كو15:6) وهيكل للروح القدس (1كو19:6؛ 16:2، 17).
2- جاء كلمة الله المتجسد، خالق الإنسان، إلى عالمنا يشفى الأجساد كما النفوس والأرواح. لقد صنع أشفية بلا حصر، واهبًا تلاميذه سلطانًا وقوة لشفاء الأمراض باسمه (مت1:10). طلب القديس يعقوب من المؤمن في مرضه أن يستدعي قسوس الكنيسة للصلاة من أجله ودهنه بالزيت المقدس لشفاء جسده، جنبًا إلى جنب مع شفاء نفسه باعترافه عن خطاياه (يع14:5-16).
القديس يعقوب الرسول
صورة رائعة تكد نظرة السيد المسيح وكنيسته للمؤمن لا كنفس تلبس جسدًا كأنه غريب عنها، وإنما الجسد يمثل جزءًا لا يتجزأ من كيان الإنسان، له دوره ومطالبه، يتفاعل مع النفس في وحدة وتناغم.
إذن، فالشاب الحيّ الذي يبغي شخصية سوية متكاملة ونامية يلزمه أن يتطلع إلى جسده كما إلى أجساد الغير في قدسية، كهيكل الرب نفسه، يهتم به ويربيه في أتزان وتقدير. لا ينظر إلى جسده كمصدر شر بل كعطية إلهية صالحة، بدونه يفقد الإنسان حياته على الأرض، من خلاله يمارس أعماله اليومية المادية والفكرية والروحية والاجتماعية والأسرية. من خلاله تعمل النفس كما الفكر والقلب في انسجام متناغم معًا، ليصدر كل عمل أو قول أو فكر أو عاطفة عن الإنسان بكليته.
إن أردت أيها العزيز أن تكون شخصية قوية، لا تحتقر جسدك، ولا تستخف بدوره، ولا تتجاهل قدراته، فإنه لا وجود لك هنا بدونه، وليس لك القدرة على التعامل حتى مع الله غير المنظور بدونه. اهتمامك به هو اهتمام بشخصك ما دمت تسلك بروح الحكمة والاتزان.
لا نعجب إن رأينا القادة الروحيين أنفسهم يهتمون بأجسادهم في الرب. ينصح القديس بولس تلميذه تيموثاوس: "الرياضة الجسدية نافعة لقليل" (1تي8:4). قيل أيضًا أن صيادًا شاهد الإنجيلي يوحنا يداعب حمامًا زاجلًا فدُهش. لكن القديس أمسك بقوس الصياد وصار يشد وتره حتى اضطر الصياد أن يطلب منه التوقف عن ذلك حتى لا ينقطع الوتر. عندئذ قال له القديس بأنه هكذا يخشى هو أيضًا من أن يشد على جسده لئلا يتحطم، إذ يليق بالإنسان الروحي ألا يتجاهل راحة جسده؛ هذا ما دفعه لمداعبة الحمام الزاجل. وفى العصر الحديث رأينا قداسة البابا كيرلس السادس -نَّيح الله نفسه- الذي عُرف بجديته في الحياة الروحية، ممارسًا التسبحة كل صباح والقداس الإلهي غالبًا كل يوم، ومع ذلك كثيرًا ما كان يذهب إلى دير القديس مارمينا العجايبى بمريوط حيث كان يخرج عند الغروب ليتمشى في الصحراء بمفرده وقتًا ليس بقليل، يَسبَح في تأملاته الروحية وصلواته، ممارسًا رياضتي الجسد (المشي) والروح.
3- إذ تتطلع الكنيسة الأرثوذكسية إلى الجسد في قدسية خاصة لا تحرمه من مشاركته الروح والنفس في العبادة،.فالإنسان الروحي وهو يعبد الله بالروح (يو24:4) يمارس هذه العبادة بكل طاقاته: بجسده وروحه وعقله وعواطفه الخ... مثل هذه العبادة ترفع من شأن الجسد ليمارس الروحيات بروح الله الساكن في الإنسان بكليته، وليس في النفس وحدها.
هذه العبادة الروحية التي يساهم فيها الجسد في تناغم مع النفس تحت قيادة روح الله لها فاعليتها حتى على سلامة الجسد نفسه. كلنا نعلم ما للأصوام والمطانيات مع بهجة القلب الداخلي أثناء العبادة من انعكاسات طيبة على الجسد نفسه. يقول الحكيم: "القلب الفرحان يطيب الجسم، والروح المنسحقة (المحطمة) تجفف العظم" (أم22:17).
4- ما دمنا نتحدث عن دور الجسد في نمو شخصية الإنسان أو تكاملها بكونه عنصرًا حيويًا في الكيان الإنساني، يلزمنا أن نشير هنا إلى ما يصيب بعض المراهقين -حتى في البلاد المتقدمة- من شعور داخلي بالذنب حين يجدون تغيرات سريعة تحدث بالنسبة لأجسادهم تصحبها عواطف جديدة ومشاعر تجاه الجنس الآخر. يشعر المراهقون أحيانًا بالخجل من مناقشة هذه الأمور في صراحة ووضوح مع والديهم أو مرشديهم. هنا يجب أن تدرك الأسرة والمدرسة كما الكنيسة دورهم في تأكيد أن هذه التغيرات هي عطية إلهية صالحة، خلالها يودع المراهقون الطفولة، وينعمون بالنمو، ويتقبلون نوعًا من النضوج أو البلوغ يتحقق على مراحل وليس دفعة واحدة. هذه التغيرات تهيئ الجنسين لإقامة عائلات جديدة وممارسة الحياة الوالدية (الأبوة والأمومة)، متى وُجهت بروح الله القدوس، الذي لا يحطم هذا النمو الجسدي والعاطفي بل يقدسه ويوجهه للبنيان.
ما أحوج أن يدرك الشباب في دور المراهقة غاية هذه التغيرات، فيتقبلونها بفكر متسع وقلب منفتح، يرون فيها علامة البدء في نمو شخصياتهم ككل وليس إشباعًا للذات الجسدية في استهتار بلا تدبير.