رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
«فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَٱلتِّلْمِيذَ ٱلَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا ٱمْرَأَةُ، هُوَذَا ٱبْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ» (يوحنا ١٩: ٢٦ و٢٧) هلموا انظروا ابناً باراً، في عنفوان الشباب وربيع العمر، يموت مصلوباً على مرأى ومسمع من أمه الحزينة، وهي تسكب أقدس مشاعر الأمومة المتألمة. هجرت النوم وجفت الرقاد، لأن اليهود قبضوا على ابنها وجرّوه للمحاكمة دون أن يجني ذنباً أو يأتي إثماً. وسارت وراءه بخطى واسعة، ولكن ازدحام الجماهير الهائجة المائجة حال دون أن تراه أو تلحق به! ولما وصلت مكان تنفيذ الحكم الظالم، تحيط بها بعض النساء المخلصات، يزاملهن يوحنا الحبيب، وقفت من بعيد! هناك سمعت الأم دقات المسامير في جسد ابنها العزيز! وسمعت تعييرات المعيّرين وهزء الساخرين، ورأت ابنها يُعلَّق عرياناً على خشبة، فوق رابية عالية في الشمس المحرقة، ورأت أربعة حراسٍ يقتسمون ثيابه ثم يلقون قُرعةً على قميصه! فدفعتها العاطفة إلى الأمام، فشقَّت مع زميلاتها صفوف الأعداء، يتبعهن يوحنا،ووقف الجميع بجوار الصليب! هناك وقعت العين على العين وقعاً يفطر القلوب، والتقت النظرات بالنظرات لقاءً يشق الأفئدة! وفي صمتٍ رهيب تبادلا بتبادل اللحظات مأساة الحب ولوعة الألم، فكانت دموعها المنهمرة تزيد لجّة آلامه، وكانت دماؤه الجارية تعج في بحر آلامها! صمتوا لأنهم عاجزون. أما هو فحتى في أوجاع موته لم ينسَ مواساة الغير، فالتفت يوصي والدته بيوحنا، ثم ليوصي يوحنا بوالدته. فجاءت تلك الوصية مرآة جلية تُظهر لنا الموصي في عظمة طبيعته الفائقة، والموصَى والموصَى بها في أجمل خُلُقهما وأكرم فضلهما. ( 1 ) الموصِي: المسيح له المجد عاطفته: هذا هو الإنسان الكامل في أنبل عواطف الإنسانية، فآلامه المريرة لم تحجز محبته الفائقة، وإذ رأى والدته تبكي نسي آلامه في بحر دموعها. ومع أنه كان يجوز أعظم أزمة في تاريخ الكون، وقد تصدّى لها بحمل أشد الألم ليكفّر عن خطايا البشر، إلا أنه لم يهمل واجباته البنويّة، ولم يؤجل وصيته إلى ما بعد القيامة، بل أكرم والدته علانيةً من فوق الصليب، حيث جاءت في غير خجلٍ من ابنها المصلوب. لقد عرف صعوبة وقوف أمه بجوار الصليب، ولم يُرِد أن يُجهدها أكثر أو يثير عواطفها، فلم ينادها: «يا أماه» حرصاً على شعورها عند سماع هذه الكلمة المقدسة، التي لا بدّ ستُعيد إلى بالها ذكريات الميلاد في بيت لحم، وزيارة المجوس الخ... ولأنه أراد تعزيتها في وحدتها، وأن يعوّضها ابناً آخر عن نفسه. وهو على وشك الفراق، خاطبها خطاباً أرق من النسيم موصياً يوحنا بها قائلاً: «يا امرأة، هوذا ابنكِ». وهكذا نرى أنه دبّر راحة والدته في مستقبلها بوصية إلى صديقٍ له. ولم يدبّر أمورها بمعجزة، مع أنه صانع العجائب، بل أراد هذه المرة أن ينفّذ رغبات عواطفه الشفوقة عن طريق سير الأمور الطبيعي، كابن البشر. وقد قام بذلك ليس كمن يفعل إحساناً بل كمن يوفي ديناً، كابنٍ بار بوالدته. وهو في ذلك كله يتجلى لنا إنساناً وابن إنسان ممثّلاً للإنسانية في أوج كمالها. فاتَّعِظوا إذاً يا بني الإنسان، ولا تتَّصفوا بنكران الجميل، ولا تعتذروا عن إهمالكم لذوي قرباكم بانشغالكم في خدمة الدين أو خدمة الوطن، ولا تتستَّروا وراء الظروف والأزمات، وأقيموا الواجب المحتوم، واضرموا المحبة متمثّلين بصاحب أنبل عواطف الإنسانية المتأجّجة على صليب الجلجثة. كفارته: شرب المسيح كأس الألم صِرفاً ليسقينا كأس السرور صافيةً، فكان على الصليب يتألم ويرحب بكل أنواع الألم، في سبيل التكفير عن خطايانا. وكان منشأ هذا الترحيب بالألم رغبته العميقة غير المحدودة ليقدّم الفداء كاملاً ومملوءاً وفائضاً. ومن عادة الذين يموتون شنقاً وسط الخجل والعار أن يهتموا كي لا يحضُرهم أحد من أهلهم؟ ولكن المسيح سمح لأمه وتلميذه المحبوب أن يكونا بقرب صليبه، دون أن يبالي بما في ذلك من مضاعفة آلامه. فكان المسيح ذبيحةً مُلتهَمَة، وسكيباً مسكوباً بمقدار ما كانت جراح المسامير تستنزف دماءه، ودموع الأحباء تمزق أحشاءه! فخُذي إذاً يا نفسي من السلام أكثره، بمقدار ما أخذ المسيح من الألم أوفره! بل خذي من النِّعم أغزرها كما أخذ المسيح من الفقر أدقعه. ألم يعش من أجلك فقيراً وهو الغني؟ ألم يقل ، إن للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه (متى ٨: ٣٠)؟ ألم يمُت فقيراً فجرّده العسكر حتى من ثيابه واقتسموها بينهم، فلم يبقَ له ما يمكن أن يتركه لوالدته. وحتى أمين الصندوق الذي كان يحمل حسنات الشعب شنق نفسه. يا لها من أزمة! أمه امرأة ثكلى، وليس لديه شيء من المال يوصي به لها من بعده؟ من هنا نتعلّم نعمة ربنا يسوع المسيح، أنه وهو الغني افتقر لكي يغنينا بفقره (٢ كورنثوس ٨: ٩) ! ووضع في أفواهنا أنشودةً دهرية نردّدها في أوقات الشدة قائلين: «لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلا خَطِيَّةٍ» (عبرانيين ٤: ١٥) وهو «يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ ٱلْمُجَرَّبِينَ» (عبرانيين ٢: ١٨). مجده الإلهي: إن كان خطاب المسيح لأمه يُرينا كماله الإنساني، فهو من جهةٍ أخرى يرينا مجده الإلهي، لأنه أراد بقوله «يا امرأة» وليس «يا أمي» أن يوجّه نظرنا أن صلتها به كمخلِّص أهم من صلتها به كأم. وقد علمت هي من خطابه إليها من على الصليب أن علاقته البشرية بها في هذه الحياة الحاضرة قد انتهت. ( 2 ) الموصَى: يوحنا الحبيب شجاعته: كان لمبادئ المسيح التأثير العجيب على نفس يوحنا، لذلك نرى فيه الشجاعة ممثّلة والجراءة مجسّمة. صحيح أنه رأى كتائب الرومان وغوغاء اليهود يقبضون على معلِّمه فتركه مع باقي التلاميذ وهرب. ولكن ضميره استيقظ، فعاد ليقف إلى جوار سيده وهم ينفّذون فيه حكم الصلب، ولم يعد يخشى بأسهم، بل ذهب ووقف بجوار الصليب وقفة الشهيد الباسل، فنال بوقفته في ذلك الموقف الحرج شرف البطولة دون بقية التلاميذ الذين تركوا سيدهم وهربوا، واستمروا في هروبهم! وإن كنا اليوم نمجد البطولة في شخص يوحنا، فأين اليوم مَن يقفون وقفته بجوار الصليب إزاء جحود الجاحدين؟ وأين الذين يحملون عار المسيح، ويحسبون ذلك أفضل من خزائن الدنيا ؟ وأين الذين يعترفون به على جبل الجلجثة كما يعترفون به على جبل التجلي؟ وأين الذين يشهدون لدينه لو جرَّت عليهم تلك الشهادة العار والهوان، كما يشهدون له إذا نالوا من ورائه الخير والمديح؟ إن الوقوف بجوار الصليب وسط العار هو المحك الحقيقي للدين، وشجاعة المسيحي لا تتبرهن إلا بالمخاطرة بنفسه كل ساعة في سبيل الخير العام. وإن كانت تلك الآلام لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فيه، لكنها الطريق السلطاني لذلك المجد (رومية ٨: ١٨). ولهذا كتب يوحنا للمسيحيين المضطهَدين - وهو في منفاه - مغتبطاً مفتخراً - أنه أخوهم وشريكهم في الضيقة العظيمة وفي ملكوت المسيح وصبره (رؤيا ١: ٩). محبته وصداقته: إن سرّ شجاعة يوحنا هو المحبة التي صيّرته أخاً للمسيح، فوقف بجواره وقام لأمه بالواجب عوضاً عنه. لقد وجد ابن الإنسان في يوحنا صديقاً وفياً لم يتركه وقت الشدائد، فأين اليوم الأصدقاء الذين لا يخونون أصدقاءهم ويحافظون على علاقات الصداقة؟ وما أبعد الفرق بين أمانة يوحنا وخيانة يهوذا! لقد سمع يوحنا قول المسيح للقابضين عليه، عن تلاميذه: «دعوا هؤلاء يذهبون» فلماذا يخاطر يوحنا بنفسه ويجيء للجلجثة؟ سِرّ ذلك كامن في المحبة التي هي أقوى من الموت! فما هو برهاننا نحن على أننا أصدقاء من هذا الطراز؟ لنسمع صدى اختبار يوحنا في قوله: «مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ ٱلْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِيهِ؟» (١ يوحنا ٣: ١٧). ولنرَ أساس هذا الاختبار في قوله: «ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ ٱلإِخْوَةِ» (١ يوحنا ٣: ١٦). وبعد أن مات المسيح لأجل الإخوة، فهل كثير أن نموت نحن من أجلهم؟ حقاً إن الصداقة الصحيحة هي التي تهون لديها الأموال والأعمار! طاعته: عندما سمع يوحنا المسيح يوصيه بأمه أخذها من تلك الساعة إلى خاصته، وبقيت عنده إلى يوم وفاتها. لقد أطاع توجيهات المسيح بسرعة وبلا تردد أو تذمر. لم يعمل للنفقات حساباً، بل قبلها كأحسن ميراث تركه المسيح على الأرض. وإن بيتاً يضمّ يوحنا الحبيب ومريم العذراء هو السماء على الأرض، ففيه الخدمة متبادلةً: هو يخدمها مادياً بماله، وهي تخدمه روحياً بمعلوماتها عن ابنها المبارك. وكما أوصى المسيح يوحنا بأمه فأطاع، كذلك لا زال المسيح يوصينا نحن بالفقراء لإعالتهم، وبالكنيسة لبنيانها، وبالعالم لتبشيره. فهل مَن يطيع، ويبادر بذلك من هذه الساعة؟ وإن كان الجندي في الحرب على أتمّ استعداد لتنفيذ الأوامر بغاية الدقة وبكل سرعة، أفليس الأَولى أن نكون مستعدين لتنفيذ أوامر المسيح؟ ألا ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس؟ ألم يقدم المسيح نفسه مثالاً للطاعة حتى الموت؟ فلماذا لا نطيع تعليمه من القلب، ونلبّي نداء العالم المحتاج؟ «لا تَمْنَعِ ٱلْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهِ حِينَ يَكُونُ فِي طَاقَةِ يَدِكَ أَنْ تَفْعَلَهُ» (أمثال ٣: ٢٧). ( 3 ) الموصَى بها: مريم العذراء همومها: إن أماً ترى فلذة كبدها معلَّقاً على صليب، والجنود الأشدّاء يذيقونه أقسى الآلام حتى يموت، لا يمكن أن نتصوّرها إلاّ وهي تتمزق بالأسى. وما أثقل السيف الذي يجوز في نفسها؟! هي التي حملته وأرضعته، وتجشّمت في سبيله الأخطار وجابت الأمصار. أما الآن فإنها تقف لترى بعينيها ابنها الوحيد يموت، لا موت الأبطال بل موت المجرمين، وليس بين الأصحاب بل بين الأعداء والخصوم. فما أثقل همومها! عزاؤها: كانت مغمورة بإحساس الألم، لكن لم يتسرب اليأس إلى نفسها، بل شعرت كأم، وتصرفت كمسيحية. لقد أطاعت إرادة الله الذي سمح أن يتمم أسرار فدائها وفداء العالم، فآمنت أن ابنها يُقدَّم ضحيةً لخلاص البشر جميعاً، بمن فيهم هي، فكان إيمانها علاجاً لآلامها. إنها لم تعتذر أبداً عن القيام بأي واجبٍ مهما كلفها من ثمن. والآن ها هي تتحمل الألم بصدر رحب، يصفها بالقول: «وكانت واقفة!» فهي كانت ولا زالت أَمَةَ الرب! وقد أرسل المسيح بلسماً لحزنها وأطفأ حر كبدها، فانقشعت ظلمة غيوم الفراق تحت أشعة وصيته المباركة، فنالت العذراء المباركة مع التجربة المنفذ، وواجهت المستقبل في نور تلك الوصية. وكان إيمانها في قدرة ابنها ورجاؤها في قيامته نوراً يضيء نفسها وباعثاً لصبرها وعزائها. نذكر ذلك عظةً للمتألمين وعبرةً خاصة للنساء، فيقفن في أحزانهن موقف العذراء، موقف التسليم والصبر الجميل والرجاء العامر بالأمل. مقامها: والحق يقال أن مجيء العذراء لتحمُّل العار مع المسيح وصبرها على الألم بجوار صليبه هو أكبر شرفٍ للأنوثة وأعظم رفعةٍ لمقام المرأة، وهو الدليل على قدرتها على القيام بأكبر الخِدم والتوشُّح بأسمى الفضائل . وإذا استوعبنا كل ما سلف، خليقٌ بنا أن ننزع عن الأنانية وننزل إلى ميدان الإيثار. وفي هذا الميدان ليعمل العاملون، وليتسابق المتسابقون. أشكرك أحبك كثيراً الرب يسوع المسيح يحبكم جميعاً فتعال...هو ينتظرك |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
يسوع يقع تحت الصليب للمرّة الثالثة |
الكلمة الثانية على الصليب... |
الكلمة الأولى على الصليب...2 |
الكلمة الأولى على الصليب... |
سرّ الكلمة وقوة الصليب |