رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
«ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لوقا ٢٣: ٤٣) إنها كلمة تروِّع الفؤاد عجباً وتملك الحواس طرباً، فهي كلمة الملك المنتصر في الموقعة الفاصلة! لقد استضعفوه بالصليب ولكنه انتصر بالمحبة! وأحصوه مع أثمة، فأحصى الأثمة في بره! وجذبوه للموت فأحيا المائتين! وجعلوه بين اللصوص فسرق القلوب للحق! وأذاقوه الألم فصار ألمه فداءً! وقدموا له الشوك تاجاً فقدم لهم الفردوس مقاماً! وجعلوا الصليب مِعولاً لهدم دعواه فاتّخذه سُلّماً يبني عليه ملكوته! كان رؤساء اليهود حسودين سقيمي الفهم فاتهموه لدى الحكومة الرومانية أنه ثائر ينادي بنفسه ملكاً ضد قيصر، وبهذه العلة سلطوا عليه بأس انتقامهم. ولم يكفهم أن يعذبوا جسده بالصليب حتى أحضروا معه لصين ليُصلبا على جانبيه تنكيلاً به، فتتألم نفسه وتنكسر من العار. وكان المشاهدون لهذا المنظر من يهود ورومان يستهزئون بهذا الملك الذي لا يقوى على تخليص نفسه من الصليب. ودفع هذا المصلوبين الثلاثة إلى تبادل الحديث. أما اللص الأول فشاطر الجمهور آراءهم، وسأل على سبيل الاستهزاء: «إن كنت أنت المسيح، فخلِّص نفسك وإيانا». فانتهره زميله قائلاً: «أَوَلاَ أنت تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه! أما نحن فبعدلٍ ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله». ثم بإدراكٍ دقيق لمقام المسيح، وشعورٍ صادق بالندم على ما سبق، وبروحٍ تنزع عن الفناء إلى البقاء قال للمسيح بكل اتضاع: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» . فأجابه المسيح: «الحق أقول لك، إنك اليوم تكون معي في الفردوس». كان اللص الأول في طريق الموت وقلبه لا يذوب، كأنه قُدّ من صخر. أما اللص الآخر فشعر أنه في موقفٍ حرج إذ حضرته الوفاة، فرأى أن ينتهز الفرصة ويُعِدّ للمستقبل عُدَّته. وانصرف تفكيراللص الأول إلى انتهاء حياته، وودَّ لو يعود إلى الحياة الأرضية ويشاطر بسهمٍ في ملكوتٍ زمني، فخاب رجاؤه وطاش سهمه. أما اللص الآخر فتحوَّل شوقاً إلى العالم الآخر، ورجا أن يكون له أقل نصيبٍ في دائرة ملكوت السماء، فبلغ ما في نفسه وتحققت آماله. كان اللص الأول على قيد شبرٍ من المخلّص ومات هالكاً، لأنه بمحض إرادته أصرّ على عناده ومضى في غلوائه واتخذ اليهود أُسوته. وكان اللص الآخر على مقربةٍ من المخلّص فنال خلاصاً لأنه خشي الله وخضع لمشيئته، وآمن بالمسيح واتكل على رحمته. كان اللص التائب مسمَّراً على الصليب فلم يبق فيه حراً إلا قلبه ولسانه، فآمن بقلبه واعترف بلسانه، فأجزل له المسيح العطاء بقوله: «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس». وإننا نجد في هذه الكلمة السامية أربعة أمور هامة: ( 1 ) تأكيد عظيم: «الحق أقول لك» قدَّم المسيح في وعده للص التائب عهداً مؤكداً بقوله: «الحق أقول لك» وهي العبارة التي استعملها مكان القسم، لينفض عن قلبه غبار الشك الذي قد يتسرَّب إلى الأذهان، نظراً للضعف الظاهري الذي بدا على مُقدِّم الوعد، وعدم استحقاق اللص الموعود، ولعظمة الوعد الذي يقدمه المسيح. فالواعِد، كما هو ظاهر للعيان، مصلوبٌ لا يبدو قادراً على مدّ يد المساعدة لنفسه، فكيف يستطيع أن يساعد غيره!؟ إنه لا يملك إلا تاج الشوك، فمِن أين له تاج المُلك؟ وهو معلق على خشبة، فمِن أين له العرش؟ وهو متروك من الكل، فمِن أين له رعية؟ وها الموت قابضٌ عليه، فمتى يؤسس مملكته؟ إن علامات النهاية تظهر عليه، فكيف يكون أمير الحياة؟ يداه مسمّرتان، فكيف يملك مفاتيح الخلود؟ وهو في عُرف شريعة موسى ملعون، فمن أين له البركة للمجرمين؟ ولكن وراء كل هذه الأسئلة نجد في جواب المسيح للص يقيناً وتأكيداً يشف عن مجده الإلهي، فهو الذي تأنَّس وقبِل أن يتألم عن أعدائه، حتى أن كل من يلقي عليه رجاءه يقبل منه توبته، ويمنحه السعادة في مملكة السماء. وأما الموعود فبديهي أنه عديم الاستحقاق. أليس هو لصاً مجرماً ذاهباً إلى الموت، وليس له فرصة ليعمل خيراً؟ أليس ماضيه مليئاً بالشراهة التي تستبيح مال الغير، والقسوة التي تلغ دماء الناس، والكذب الذي يتستّر على الجريمة، والانحطاط الروحي الذي يسوقه للجري وراء المادة؟ ألم يعبث بالنظام الاجتماعي، ويثِر الفتن التي تؤدي بالبلاد إلى الخراب؟ ولا زال وهو على آلة الإعدام ثائراً يمتلئ فمه بالتجديف؟! فأنَّى لهذا أن يصعد تواً إلى السماء ويرقى إلى قمة المجد؟ ولكن مع كل هذا نجد في جواب المسيح للص عهداً أكيداً حتى لا تعترضه شُبهة يأس أو يضعف في أمثاله الرجاء. وليس في الوعد إصدار عفو حكومي عنه، أو إطالة عمره، أو تخليد ذكره، أو منحه ثروة. بل هو وعدٌ بمنح اللص التائب فوق ما تتصوَّره العقول! إنه يعده بما لم ترَ عين ولم تسمع به أذن أو يخطر على قلب بشر. لقد وعده بالدخول إلى الفردوس حيث عرش الله! ولما كان هذا حلماً بعيداً أعلى من السموات، وليس في طاقة البشر إعطاؤه أو نواله، قال له مؤكداً بعبارة «الحق أقول لك» حتى يبقى الوعد فوق ظل الشبهات. فالسماء والأرض تزولان ولكن كلام المسيح لا يزول (متى ٢٤: ٣٥). ( 2 ) وعدٌ عاجل: «اليوم» «اليوم» يا للنعمة الغنية! لم يقُل له: يوم الدين، ولا بعد حقبة من الدهر، بل: «اليوم»! فوراً، وفي الحال. وبهذا الوعد الكريم نقل المسيح اللص التائب من آلام الصليب إلى أمجاد الفردوس! ومن حصار المسامير إلى فسيح الحرية! ومن التعلّق على خشبة إلى التفيّؤ بظلال النعيم! ومن هزء الساخرين إلى موسيقى الملائكة! ومن قسوة البشر التي تكسر عظامه إلى تعزيات الله التي تجبر نفسه. أفليس هذا وعداً يجعل البِشْر يلمع في عينيه والسرور يتدفق من وجهه ولو أظله الموت؟ «اليوم» ما أعظم ما للإيمان من اقتدار! لم يكن اللص مؤمناً قبل اليوم، وليست له فرصةٌ للعمل بعد اليوم. ولكن بالإيمان الحالي نال البركة في الحال، فتحوَّل من باب الجحيم إلى باب السماء! في الصباح كان يسير مُجدّفاً، وفي المساء كان يشترك مع جوقة الملائكة مرنماً. في الصباح كان يُساق كمجرم، وفي المساء أخذ يسير في طليعة الأبكار. بادر بالتوبة، فلم يبطئ المسيح عنه بالصفح. شهد للمسيح، فلم يستحِ المسيح أن يشهد له. خدم المسيح بكلمات محبة قليلة، فأعطاه المسيح ثقل مجدٍ وكرامة. طلب أن يذكره المسيح في المستقبل البعيد، فوجد في مخزن النعمة جواباً قريباً أسرع مما طلب. أتمّ شروط الخلاص في وقت وجيز فمتّعه المسيح بكل نتائج الخلاص أبد الدهر. «اليوم» ما أعظم ما للكفارة من نتائج سريعة! فقد قال المسيح: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا ١٢: ٣٢) فكان اللص من أول الجميع، ومن باكورة القطاف. فها دماء الفدية تقطر، واللص يُعتَق من عبوديته! وينابيع الخلاص تتفجَّر، واللص يَطهُر من خطاياه! الفادي يصل إلى الدرك الأسفل من العار، واللص يسمو إلى أوج الشرف! كان الميثاق لآدم في الجنة: «يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين ٢: ١٧). وأما ميثاق اللص في الجلجثة فكان: «اليوم تكون معي في الفردوس». هذا هو يوم الحياة المجانية «ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي صَنَعَهُ ٱلرَّبُّ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ» (مزمور ١١٨: ٢٤). ( 3 ) شركةٌ مجيدة: «تكون معي» نزل المسيح إلى مستوانا ليرفعنا إلى مستواه! فاسمه المحبوب «عمانوئيل» معناه «الله معنا». وبالفداء الذي عمله لأجلنا جعلنا في معيَّته دائماً، فصَلَبنا معه، وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات، وسيُحضِرنا معه، وسنملك معه. وبالإجماع وهبنا ويهبنا معه كل شيء. عاش المسيح مع الخطاة، ومات بين الخطاة، ومن الخطاة أراد أن يستصحب لصاً تائباً يرجع به إلى السماء، فيكون معه كصديقٍ يريه أمجاده، فقد صلى: «أَيُّهَا ٱلآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاءِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٧: ٢٤). وأراد المسيح للص التائب أن يكون معه كأخٍ يشاركه طبيعة القداسة والمجد. وبما أننا أبناء فنحن ورثة، ورثة الله ووراثون مع المسيح (رومية ٨: ١٧). وأراده المسيح أن يكون معه كزميل في الانتصار، يحقّق له وعده: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤيا ٣: ٢١). وأراده أن يكون معه كخادم يعطيه مكافأته، فيتحقّق الوعد الصادق: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ ٱلآبُ» (يوحنا ١٢: ٢٦). وبالجملة أراد المسيح للص التائب أن يكون معه ليصل إلى غاية السعادة، فيهتف بانتصارٍ: «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي ١: ٢٣). فلا يخَفْ أحدٌ من أن يرفضه المسيح أو يأبى أن يكون معه، ولكن الخوف كل الخوف هو أن نتقسّى نحن بغرور الخطية وننفصل من الوجود معه. أما اللص فالتصق بالمسيح كطالبٍ لرحمته وشريكٍ لآلامه وشاهدٍ لبرِّه، في وقتٍ لم يقف مع المسيح أحد. ولأنه تألم معه تمجَّد أيضاً معه (رومية ٨: ١٧). ( 4 ) نعيمٌ مقيم: «في الفردوس» الفردوس كلمة فارسية معناها «جنة ملوكية» استعملها كتبة الوحي مجازاً للتعبير عن مكان الأرواح بعد خروجها من هذا العالم وهي في حالة انتظار يوم القيامة. وكما أن الذي يدخل فردوساً أرضياً يستظل بأشجاره الظليلة، ويشبع من قطوفه الدانية، ويرتوي من جداوله الجارية، وينتعش من نسيمه العليل، كذلك في فردوس السماء تجد النفس كل راحة وسعادة بين يدي خالقها «وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» (جامعة ١٢: ٧). وكما أن آدم وهو في فردوس عدن كان يتمتع بالسلام والبر والبساطة والشركة المقدسة مع الله، كذلك النفس في الفردوس السماوي تلبس صورتها الأصلية في البر وقداسة الحق، وترفل في حلل السعادة والسلام. عُرف الله في الفردوس الأول أثر عمله كخالق، وأما في الفردوس الثاني فيُعرف فيه الله على أثر عمله كفادٍ. الفردوس الأول كان دور الامتحان، والثاني معقل الانتصار. الأول طُرد منه الإنسان وقد ابتلّت وجنتاه بالدموع، والثاني رُدَّ إليه الإنسان بمظاهر الابتهاج، فوضع الله يد المِلكيّة عليه، ومنحه من جديد ثمرة شجرة الحياة ببر المسيح إلى الأبد، فتحقق له الوعد: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ ٱلْحَيَاةِ ٱلَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ ٱللّٰهِ» (رؤيا ٢: ٧). وبما أن الرسول بولس استعمل كلمة الفردوس مرادفة لكلمة «السماء الثالثة» حيث مناظر الرب وإعلاناته، وحيث اختُطف هو في غيبةٍ، وسمع كلماتٍ لا يُنطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها، فنعلم أن سعادةً لا تُوصف تنتظرنا هناك. فإذا سألنا: أين الفردوس؟ فالجواب الذي لا شك فيه هو «حيث يكون المسيح»! وإن سألنا: ما هو الفردوس؟ فالجواب هو أن نكون دائماً مع ربنا وعلى شاكلته تماماً! وبما أن اللص كان (على ما يُظن) من المجرمين السياسيين، وكان يدافع عن الوطن الأرضي لقومه، فقد أنار المسيح ذهنه ليكون توّاقاً لما هو أفضل: للوطن السماوي. أشكرك أحبك كثيراً الرب يسوع المسيح يحبكم جميعاً فتعال...هو ينتظرك |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الكلمة الثانية لرب المجد بالجسد على عود الصليب |
الكلمة الرابعة على الصليب... |
الكلمة الثالثة على الصليب... |
الكلمة الأولى على الصليب... |
سرّ الكلمة وقوة الصليب |