رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
المرأة الفينيقية «دعي البنين أولا يشبعون لأنه ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب». مقدمة هل يستطيع أحد أن يحدثني ويصف لي الطريق إلى الله.. من أين يبدأ وإلى أين ينتهي؟ لقد قرأنا أوصافًا متعددة لا تنتهي لهذا الطريق كتبها ما لا يحصى أو يعد من الكُتَّاب في كل عصور التاريخ، ومن المؤكد أن أعظمها وأمتعها وأشهرها جميعًا الصورة التي رسمها يسوع المسيح عندما حدثنا عن طريق الابن الضال من أرض العري والجوع والخنازير والخرنوب إلى بيت الأب حيث البهجة والشبع والمسرة والفرح والوليمة الضاحكة المغنية، وقد سار كثيرون وراء هذا الوصف الخالد، فصوروه كما عن لهم الفكر أو امتد بهم الخيال، فرأينا دانتي في الكوميديا الإلهية، وهو يرى أول الطريق في الغابة المظلمة الموحشة يطارده الأسد والنمر والذئبة المفترسة حتي يأتي آخر الأمر إلى مجد السماء وقد تخطى كل مآسي الإنسانية وضلالها وشرها، على الصورة التي أبدع وصفها في قصة الجحيم المفزعة، ورأينا يوحنا بنيان، في سياحة المسيحي، وهو يرينا كيف خرج المسيحي من مدينة الهلاك والضياع راكضًا وكأنما أصابه مس من الجنون، وهو يهرول طالبًا المدينة المقدسة العظيمة، مدينة النور، مدينة الله،... ورأينا كاتبًا فرنسيًا حديثًا يصف بداءة الطريق بإنسان يغوص في مستنقع ممتلئ بالأوحال كلما حاول أن يتخلص منها كلما غاص أكثر، ولا سبيل لمثل هذا الإنسان إلا شخص المسيح الذي يخرجه من المستنقع ليصل به إلى نهر الحياة الخارج من عرش الله والحمل... ويخيل إليّ وأنا أقرأ قصة المرأة الفينيقية أنني اقرأ قصة المستنقع، حتى الوصول إلى نهر الحياة الصافي، بما فعله المسيح معها!.. ولعلنا نستطيع بعد هذا متابعة القصة فيما يلي: المرأة الفينيقية وشخصيتها كانت هذه المرأة كما نعلم امرأة فينيقية سورية، أو في لغة أخرى كانت امرأة وثنية أممية يونانية، ولعل هذا يعطينا إلى حد بعيدة صورة شخصيتها وحياتها وثقافتها، كانت منطقة صور وصيدا حيث تسكن المرأة تتعبد للآلهة عشتاروت آلهة الجمال عند الفينيقيين، وكانت تتركز عبادة هذه الآلهة في القمر كمركز لهذا الجمال، وكانت العبادة تتمثل في أمرين أساسيين، يعبران عن الحضارة اليونانية في ذلك التاريخ، هما الجمال والشهوة، وكان لليوناني أن يعب منهما، ما يشاد وكيف يشاء بدون حدود أو سدود أو قيود!! ولعلنا نذكر أن الفلسفة الأبيقورية كانت من أهم الفلسفات، وأكثرها شيوعًا في تلك الحقبة من الزمان، كان قوامها أن نأكل ونشرب لأننا غداً نموت، وهي أشبه الكل في العصر الحاضر بالفلسفة الوجودية الملحدة التي تدعو إلى الشهوات الانطلاقية، والاندفاعات العارمة نحو ما يقال إنه الحب والشهوة والجمال، أو أنت موجود فخذ الحياة كما تشتهي وتتمتع، خذها حلوة مترعة بهيجة جميلة، قبل أن تؤخذ منك وتنفض عنك، ولا حاجة إلى القول أن هذا الانطلاق الشهواني، مهما أخذ في فكره الأول سمة النظريات الفلسفية، سينتهي إلى نوع من البهيمية العارمة، التي تنحط بالإنسان - مما يظن أنه عبادة الجمال - وتصل به إلى أبشع دركات الفساد والتبذل والقبح والكارثة!! ومع أنه ليس من السهل أن نقطع بما ذهب إليه أحد المفسرين من أن المرأة الفينقية عاشت هذه الحياة، وربما جاءت بابنتها التي يصرعها الروح النجس من وراء حياة فاسدة شهوانية كهذه، إلا أنه يمكن أن نقول دون زلل في التعبير، إن المنطقة الوثنية التي كانت تعيش فيها هذه المرأة، كانت بعيدة كل البعد عن الإيمان الإلهي الصحيح، وتحيا لذلك حياة حيوانية طليقة، ومن هنا يصح أن يطلق عليها حياة الكلاب بكل ما تشمل الكلمة من معنى الاتساخ والقذارة، الأمر الذي أشار إليه السيد المسيح في الحديث معها. على أنه من الواضح مع هذا كله، ان المرأة كانت قوية الشخصية صلبة الإرادة، وهي من ذلك النوع من الناس الذي عندما يقصد أمرا لا يتراجع بسهولة قط عن تنفيذه، ويسعى لاقتحام الصعاب مهما بلغت من شدتها وقسوتها أمامه!! بل وعلى استعداد أن يدفع كل ضريبة، قد يقتضيها الأمر مهما كلفته من ثمن فادح عظيم، كما أنها كانت كلما نلحظ من حوارها مع المسيح، واسعة التفكير بارعة المنطق، ومع أن الألم قد يخلق الفصاحة والبلاغة عند الإنسان، ومع أن جوابها قد جاء نتيجة ألم عظيم، الا أنه من الواضح أنها لم تكن عيبة اللسان قاصرة التعبير. ولا شبهة في أن هذه المرأة وهي تقترب من المسيح كانت قد لفظت من حياتها كل يقين بديانتها وآلهتها الوثنية القديمة، إذ لم تر فيها سوى الإفلاس الكامل الرهيب تجاه مأساه ابنتها التي كانت تعاني أقسى المعاناة من روح نجس شرير، بل لعلها في النظرة الصحيحة إلى الحياة، لم يهتز يقينها فحسب بإفلاس ديانتها، بل أخذ يظهر من وراء الظلام شمس إيمان آخر، أخذ يشرق حتى بلغ اكتمال النور والجلال عندما قال لها يسوع المسيح: عظيم إيمانك!! المرأة الفينيقية وابنتها ذهبت المرأة إلى المسيح من أجل أبنتها، ومع أن الأبنة لم تظهر في الصورة قط، إلا أن الأم وهي تتحدث عنها، تكشف عما في الأمومة من حب عظيم، الحب الذي هو غريزة من أعظم الغرائز التي أودعها الله في قلب الإنسان، مهما اختلفت عقيدته أو ثقافته، أو حضارته أو جنسيته أو تاريخه أو زمانه، وعندي أن المرأة من هذا الجانب أقوى وأعلى وأسمى من الرجل، بل أنها تأتي في محبتها لأولادها تالية لمحبة الله في المسيح للإنسان، ورجال علم النفس، وهم بصدد الموازنة بين حب الرجل لأولاده وحب المرأة، يرفعون الأخير على الأول، لتجرده من كل ذاتية وأثرة، قد نجدها في حب الآباء لأولادهم، وذلك لأن هذا الحب في نظرهم، هو نوع من تحايل الإنسان على الحياة في مواجهة الموت، إذ أن الأب يريد أن يبقي اسمه بعد الموت مرة أخرى في أولاده، الأمر الذي لا تفعله المرأة، إذ هي أشبه الكل بالجندي المجهول، يبذل ولا يطلب، ويقدم ولا يمن، ومن العجيب أن الكتاب يعطي صورًا لهذه الحقيقة في أكثر من موضع، فعندما وقع موسى تحت الخطر، وبعد أن عجز أبواه عن حمايته تقدمت محبة الأم خطوات على محبة الأب، في ذلك السفط من البردي الذي صنعته يوكابد لولدها العزيز، وجعلت أخته تراقبه من بعيد على شاطئ النيل.. وعندما ضاع أولاد راحيل في القديم، وعندما قتلوا في بيت لحم، لم يذكر الأب، ولكن قيل: راحيل تكبي علي أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين، ومع أن الأب يتراءف على ابنه ويشفق عليه، لكنه لا يمكن أن يكون نظير الأم في لحظة الضيق أو الألم أو الأحزان، ولهذا جاء القول: كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم،... ولعلنا نلاحظ ههنا لا مجرد الحب العميق من أم لابنتها، بل أكثر من ذلك الألم النيابي، الألم الذي قد يكون مرات كثيرة، أقسى عند المتألم من صاحب الألم ذاته، ولست أعلم مقدار إحساس الابنة المجنونة بجنونها، لكني أعلم تماماً أن الألم كان يعصر أمها عصرًا، أنظر إليها وهي تتحدث إلى السيد فتقول: «ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدًا.. يا سيد أعني؟» وهكذا في كل جيل وعصر يبدو الألم النيابي أقسى وأقدح وأرهب وأشد!! ولكم رأيت الكثيرين من الأولاد والبنات، الذين لا يعلمون كيف يبكون على نفوسهم، ورأيت الألم مجسدًا ومجسمًا في آبائهم وأمهاتهم، على أرهب وأفظع ما يمكن أن يكون الألم في حياة الإنسان على هذه الأرض، بل أن ظاهرة الألم النيابي تكاد تكون الظاهرة الأمجد والأعظم في هذه الحياة، فالجندي المحارب الذي يقاتل في الميدان دفاعًا عن وطنه، والطبيب الذي يبذل من ذاته وحياته، من أجل جريح يتألم أو مريض يشكو ويصرخ، والقائد الذي يحمل تعاسات شعبه فوق كتفيه، ويسير بنبل وشجاعة، فوق الأشواك والآلام ليعطيهم النور والبهجة والإشراق والحياة، كل هؤلاء يعكسون بعض الصور الرائعة العظيمة للألم النيابي بين الناس! بل لماذا نقف عند هذه الصور جميعًا، وننسى ذاك الذي عرف في صليبه أعلى ظاهرة للألم النيابي من أجل الناس، ألم يقل عنه إشعياء «لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً مضروبًا من الله ومذلولاً وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه اثم جميعنا» أجل وهذا حق فإن رابية الجلجثة تصعد بنا إلى أمجد ألم نيابي يمكن أن يراه الإنسان في قصة حياته على هذه الأرض. المرأة الفينيقية ومعاملة المسيح لها لعله من اللازم أن نشير بادئ ذي بدء إلى غرابة هذه المعاملة، التي تكاد تكون فريدة في نوعها، ولم يعرف عن المسيح مثلها على وجه الإطلاق، وقد ظهرت الغرابة من جانبين عجيبين، الصمت أولا، ثم الكلام القاسي ثانياً، وكلاهما أمر غير مألوف عند يسوع المسيح تجاه الضيق أو الألم أو الأحزان أو تعاسات الآخرين، على أن الدراسة المتعمقة ترينا أن هذا الأسلوب ظهر في المسيح على الأغلب لسببين أساسيين، أولهما يتصل بالمسيح نفسه، والثاني بالمرأة ذاتها، أما السبب الأول فيرجع إلى أن المسيح كان يمر في ذلك الوقت بلحظة دقيقة من أدق اللحظات التي اجتازها على الأرض، لقد ترك أرض إسرائيل، وتعدي حدودها، وأخذ سبيله إلى أرض وثنية، وسار فيها بعد أن عانى من اليهود ما عانى من متاعب وآلام، وصلت بهم إلى أن يطلبوا دمه وحياته، وكان يمر بذهنه هذا السؤال الفاصل، هل انتهت رسالته معهم، وهل جاءت الساعة لينفض يديه تمامًا مما يمكن أن يربطه بكل علاقة بهم؟ إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله! فهل يفتح الباب للأمم؟ ربما يتصور البعض أن هذا السؤال كان سهلاً أو هينًا على ذهن المسيح؟ وهذا غير صحيح، بل لعله كان واحدًا من أقسى الأسئلة التي أجاب عليها سيدنا المبارك. عندما كان على ابراهام لنكولن أن يوقع على قرار تحرير العبيد، أمسك القلم، وظل طوال ليلة بأكملها يصارع حتى الصباح قبل أن يوقع بإمضائه، كان يعلم أن هذا القرار على ما فيه من عظمة وروعة وجلال، من أصعب القرارات وأقساها في تاريخه، وذلك لأن الأمة منقسمة على ذاتها في حرب أهلية مروعة، وهو يقف بين وحدة الأمة من جهة، وتحرير العبيد من الجهة الأخرى، وليس من السهل أن يطرح واحدًا من الأمرين، وهو في سبيل التمسك بالآخر أو الحرص عليه!!. أجل كان هذا السؤال الحاسم في ذهن المسيح، عندما جاء إلى الأرض الوثنية، الأرض التي يعيش فيها الكثيرون عيشة حيوانية بهيمية، هي أقرب إلى عيشة الخنازير والكلاب، وجاءت المرأة لتلح عليه وتطلبه أن يشفي ابنتها التعسة المجنونة، وكانت وهي لا تدري تنهض أمامه السؤال، الذي أجاب عليه في الصمت أولا، وهي تلح عليه، وفي الكلام ثانيًا بالقول: لم آت إلا لخراف بيت إسرائيل الضالة. دعي البنين أولا يشبعون لأنه ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب، ومع أن السيد استعمل كلمة في لفظ الكلاب، هي أدنى إلى الجرو أو الكلب الصغير المدلل، الذي يقربه أصحابه في المائدة ليلتقط الطعام، إلا أن اللفظ في حد ذاته، غريب في لغة المسيح، الذي لم يقس على امرأة قط، مهما كانت درجة انحطاطها وتبذلها، بل على الإنسان، ولا يستطيع أحد البتة أن يهون من التعبير أو يقلل من أثره، ما لم ندركه في الرؤيا الصحيحة التي كانت في ذهن المسيح في ذلك الوقت، لقد كان اليهود يعتقدون أن الأمم ليسوا إلا مجموعة من الخنازير والكلاب تعيش في مستنقع الأوحال والفساد والدنيا، وكان السؤال العجيب والغريب أمام ذهن المسيح هل يتبادل الاثنان الموقع والمجال والحال!! هل يأخذ من عاش عيشة الكلاب، مكان الابن، ويطرح الابن الذي يسقط في أحط الدركات إلى حياة الحيوان التي يصر عليها ويطلبها، فيعيش كلبًا أو ما هو أشر من ذلك؟ أجل ولعل هذا هو الذي دعا السيد أن يقول ذات مرة لرؤساء الكهنة وشيوخ الشعب: «الحق أقول لكم أن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله» ومن المناسب أن نلاحظ هنا أيضًا، ولهذا السبب ملاحظة كامبل مورجان: أن المسيح لم يجب المرأة عندما استنجدت به كابن داود، إذ صمت! ولكنها إذ اتجهت إليه بالقول: ياسيد أعني! مد لها يد المساعدة، إذ لم يعد هو لليهود فحسب، بل لجميع المحتاجين والمتألمين من الأمم على حد سواء، كما لاحظ أن المسيح لم يقل لم آت إلا إلى خراف بيت إسرائيل، بل قال خراف بيت إسرائيل الضالة! وهو لا يقصد هنا اليهود، بل يقصد جميع المؤمنين الذين يستجيبون لندائه بدون تفرقة بين يهود أو أمم، أو كما قال في مناسبة أخرى: «ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضًا فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد.!». على أن المسيح كان يقصد من الجانب الآخر، وهو يتصرف هكذا مع هذه المرأة أن يشحذ إيمانها ويقويه ويخرجه على الصورة الرائعة المكتملة التي شهد لها آخر الأمر، ولقد صعد إيمانها بالضيق والاختفاء والصمت والكلام! أما الضيق فقد كان الدافع الأول، ولاشك، في ذهابها إلى المسيح، والتجائها إليه، وكان من غير المتصور أن تتجه إليه، لولا ما عانته ابنتها من عذاب وشدة وضيق وتعب، وما أكثر الكثيرين من المؤمنين الذين كان الضيق رسولهم المبارك إلى السيد، ألم يقل الكتاب عن منسى الملك، والذي كان واحداً من أشر الملوك الذين ظهروا في تاريخ إسرائيل: ولما تضايق طلب وجه الرب إلهه،... في أيام روسيا القيصرية عندما أعتلى نيقولا الأول قيصر الروس عرش بلاده زج بعدد كبير من أشراف الروس في السجون للثورة الهائلة التي قاموا بها ضده، ومن بين هؤلاء قبض على نبيل روسي كان بريئًا، ولم يكن له ضلع في مؤامرة الثورة، ولكنه كان حاد الطبع سريع الانفعال، وزاد السجن والظلم من انفعاله وشراسته، فكان يتحرك في زنزانته، كما يتحرك الوحش الجريح، يلعن الإمبراطور، ويجدف على الله، إذ كيف لا يستطيع أن يمنع الظلم، وزاره في السجن أحد خدام الله، وأعطاه الكتاب المقدس، ورجاه أن يقرأ، ولكن النبيل قذف بالكتاب بعد أن خرج الخادم إذ كيف يقرأ كتاب إله يترك الطغيان يسير في الأرض.. ولكنه اضطر بعد قليل أن يمسك بالكتاب ليقرأه دفعًا للسأم والملل، إذ لم يكن له كتاب آخر يقرأ فيه، وقرأ وقرأ وازداد رغبة في القراءة حتى توقف أمام صليب الفادي، ورأى أعظم قصة في التاريخ في الظلم والإهانة، وهنا رقت نفسه وهدأت اذ أدرك أنه وراء المسيح المتألم يسير، وانجلت عن نفسه ثورة الغضب وحلت في أثرها روح الشهيد، قدم للمحاكمة وعجز عن أن يثبت براءته، فحكم عليه بالإعدام، وعندما فتح السجان باب زنزانته ذات يوم توقع أن يبصر أمامه رسول الموت، ولكنه لدهشته العظيمة أبصر القيصر نفسه، وقد جاء إليه بعد ان اكتشف وثيقة تؤكد براءته، وقد جاء يعتذر ويعفو، وخرج الرجل من ظلمات سجنه إنسانًا آخر ليعيش بقية حياته صديق المحزونين والتعساء والخطاة، وعندما مات ترك وراءه شيئين عزيزين، مستشفي كبيرًا، والكتاب العزيز الذي قذف به يومًا ما في ركن زنزانته!!.. وما أكثر ما يفعل الضيق هكذا في حياة أعداد من الناس لا تنتهي،... وإلى جانب الضيق كان الاختفاء باعثًا أكثر عند المرأة لتظهر أمام المسيح!! كان المسيح يطلب العزلة والراحة في بيت، والمسيح قدير على الاختفاء في مواجهة الرياء والكبرياء، لكنه لا يستطيع أن يختفي على الإطلاق تجاه آلام الآخرين وتعاساتهم وضيقاتهم، لقد دفع الاختفاء الكثيرين إلى أن يرفعوا أصواتهم إلى الله قائلين: لماذا تختفي في أزمنة الضيق، أو يقولوا مع إشعياء: ليتك تشق السموات وتنزل من حضرتك تتزلزل الجبال!... كما أن صمت المسيح أثار المرأة أكثر، ودفعها إلى الالحاح.. على أنه وقد قسا عليها بالكلام، ارتفع إيمانها وبلغ الذروة، أو كما قال أحد المفسرين من البيورتان القدامى: «لقد اتسم جواب هذه المرأة على قول المسيح ببراعة الإيمان، لقد جاءت إليه متخطية حواجز العداء والكراهية، كما أنها ألحت عليه في مواجهة الصمت، أو القسوة الظاهرة، وآخر الأمر، لمع الفكر أمام عينيها كالرؤية الوضاءة وهي تذكر الكلاب المدللة الصغيرة التي تأكل من مائدة أربابها!». وهكذا انتصر هذا الإيمان، وأضحي رمزًا رائعًا للمواقع المتبادلة في الإيمان المسيحي، إذ طرد أبناء الملكوت من اليهود، وجاء الأمم، وتحقق لنا الرجاء الرائع في الفادي الكريم، وحق ما قاله يوحنا في مطلع إنجيله: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه» أو في ختام رؤياه: «طوبى للذين يصنعون وصاياه لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة لأن خارجًا الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان وكل من يحب ويصنع كذبًا" |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
المرأة الفينيقية| المرأة الثابتة في ايمانها نحو هدفها |
المرأة الفينيقية | المرأة المحتاجة للخلاص |
المرأة الفينيقية| المرأة الأم |
المرأة الفينيقية |
المرأة الفينيقية |