فـلـسـفـه الـرهـبـنـه الـقـبـطـيـه و حكمتها
بقلم القمص مرقس عزيز خليل
الرهبنه القبطيه هي أساس الرهبنه في كل أنحاء العالم . و قد توطدت نظمها و طقوسها علي أيدي الرهبان الأوائل القديسون انطونيوس و باخوميوس و مكاريوس و غيرهم ممن آثروا حياه العز له و البتوليه مقتفين أثر السيد المسيح في طهره و تقشفه و تضحيته من أجل البشر و متشبهين بمن سبقوهم من أنبياء كايليا في أعتصامه بالجبل و يوحنا في انطلاقه بين البراري فضلا عما ورد بالكتاب المقدس من آيات تحبب الي النفوس التقرب الي الله و البعد عن متاع الدنيا و هجر الناس بما انطوت عليه نفوسهم من مطامع و شهوات و شرور و الأنقطاع في الصحاري البعيده الي تجريد الروح و التأمل ببصيره نقيه في بدائع الخليقه و قدره الخالق العظيم . فغايه الرهبنه منذ نشأتها الأولي هي التسامي بالروح الي الحد الذي فيه تعاين الله . و وسيلتها في ذلك اذكاء مشاعر القلب و تأجيج نار الفكر بأضناء قوي الجسد و منعه عما يصبو اليه من لذات ماديه و حرمانه مما يبغيه من أشباع شهواته و نزواته . فالرهبنه كما عرفها آباؤنا الأوائل هي طموح يستوجب التضحيه .أذ بها تتوثب الروح للأنطلاق لكي تقترب من أنوار الله و بسببها يفني الجسد لتستحيل قواه العضويه الي فكره مجرده متناهيه الصفاء يري العقل خلالها وجه الحقيقه الخالده الممثله في رب الكون .
و هكذا عرف اولئك الأبرار غايتهم و هي بلوغ القدره علي الأتصال المباشر بالله . و هكذا عرفوا وسيلتهم و هي أنماء قوه الروح و العقل بالقبض علي زمام الجسد و كبح جماحه . و هذا يقتضي أجتناب مغريات العالم و أجتناب شهوات الجسد بتحريم اللذائذ عليه . و أجتناب الضعف و التراجع بأستمداد المعونه الدائمه من عند الله و بالتفكير الدائم فيه و في سمو صفاته و عجائب مخلوقاته . و علي ذلك فهذه هي الأسس الخمسه التي تقوم عليها الرهبنه و هي [ الوحده و البتوليه و التقشف و الصلاه و التأمل ] و هذه الأسس ليست غايات انما هي وسائل للغايه العظمي و ليست كل واحده منها فضيله بمفردها .
فالوحده : في ذاتها و لأجل ذاتها رذيله من رذائل المجتمع القائم علي التآلف بين الناس . فالمتوحد لغير عباده الله أو بدون عباده الله هو رجل مكروه الطباع منبوذ الصفات بين الناس . و كذلك الهارب من عواقب شروره و المتخلي عن مسؤلياته و مقتضيات الواجب . و اليائس من رحمه الله في شؤن معيشته و المترجي من وحدته نفعا دنيويا يصبو اليه في قراره نفسه . و كل اولئك ليسوا اذن من الرهبنه علي شيء ما داموا يبتعدون عن الناس لغير التقرب لوجه الله .
و البتوليه : أي صم الأذان عن نداء الجنس الخارج عن أعماق الجسد هو أمر يخالف مقتضيات الحياه البشريه بما تنزع اليه من تكاثر و استمرار و يخالف مطالب الجسد بما جبل عليه من رغبه و بما وجب لرغبته من استجابه في غير انحراف أو شذوذ . الا ان الرهبنه كما عرفها اباؤنا شيء يستوجب التضحيه . و من صور التضحيه هذا الكبح الأختياري لغريزه من الغرائز الأرضيه في سبيل التسامي الي ما هو غير أرضي . و في سبيل تفوق الأنسان علي نفسه بالضغط علي هذا المزيج من الماده و الروح ليبلغ آخر الأمر مرتبه الروح النقيه الخالصه القادره علي استشعار مجد الله . وذلك أنه بغير العفه يستهلك الأنسان في ارضاء شهوته كل ملكاته و قواه فتخبو فيه مشاعر القلب و تخفت أضواء العقل . و ينسدل ستار الماده السميك علي صفاء الروح . أما العفه فتقسو حقا علي الجسد و لكنها تصهره فتحول كل مقدراته الي انوار باهره تكسو شعوره و فكره ببهاء الجوهر الخالد المدرك لذاته و لأسرار الوجود . و في سبيل هذا يحلو العذاب و تسهل المشقه و يهون التنازل عما هو طبيعي لبلوغ ما هو فوق الطبيعي . و اما تعذيب الجسد مستقلا عن الرغبه في بلوغ هذه الغايه أو بأعتباره غايه في ذاته أو وسيله بمفرده لأرضاء الله فمسلك لا يتفق مع طبيعه الناس و لا ينال رضاء الله .
و التقشف : هو ايضا صوره من صور الضغط علي الجانب المادي في الأنسان لأذكاء الجانب الروحي و ذلك بحرمان الجسد من أطايب المأكولات و المشروبات و من فاخر الثياب لكي لا يغرق في طوفان الشهوه أو يلهيه حسن المنظر عن الجهاد في سبيل الهدف الذي وضعه نصب عينيه . الا ان التقشف لغير بلوغ هذا الهدف يعتبر مضيعه لما ينبغي للأنسان من قوه يواجه بها مطالب الحياه و يكافح بها في سبيل العيش . فلا يكفي أن يصوم المرء عن الطعام و يبتعد عن بهرجه المظهر كي يكون راهبا أو ملتزما طاعه الله . فلن يكون ذلك من طاعه الله الا في حاله واحده و من أجل غايه واحده هي تحرير الروح كي تنطلق لرؤيه الله . فذلك أمر تستوجبه التضحيه و تحتمه الضروره الماثله كما يجبر المرء علي الصوم اذا كان عليلا و يرجو الشفاء أو يلزم الاقلال من الطعام اذا كان صحيح الجسم و لكنه يخشي ما تؤدي اليه التخمه من اضرار . الا ان هذه الأسلحه الجباره التي يشهرها الأنسان المتشوق الي أنوار الملكوت لا تكفي وحدها لقهر هذا الجسد القاسي العنيد بما فيه من ملكات تدفعه علي الدوام الي تحقيق ما يضطرم به من رغبات . فما تزال تغري المتوحد بالعوده الي المجتمعات . و ما تزال تدفع بالمتقشف الي تذوق ما حرم نفسه منه من شهي الطعام و بهي الثياب و زاهي الحلي و الزينات . فما أضعف الأنسان أمام هذه الهمسات التي لا تحاول ان تلهيه عن غايته و تحرضه علي التخاذل . لذلك يلزم للأنسان سلاح آخر يحارب به الضعف و التردد و يهزم به هواجس الفكر و أثام الخيال . و ذلك السلاح هو الصلاه المستمره لله في تجرد و تفرغ و حراره و ابتهال : حتي تكون الغايه من الرهبنه ماثله امام الراهب في كل ساعه من ساعات الليل أو النهار و حتي يستمد من دعائه لربه قوه يواصل بها الطريق الشاق الذي أختار ان يسلكه في الحياه . أما تلاوه الصلوات وحدها أو ترديدها من الفم بغير أنتباه فلا فائده فيها و لا ثواب . طالما أن الغايه المرجوه منها بعيده عن الذهن و القلب و طالما ان الهدف الأسمي من الرهبنه ليس هو مجرد الصلاه و انما هو معاينه الله .
و أخيرا لا يكفي للأنسان أن يعيش وحيدا متبتلا متقشفا مصليا لكي يجني ثمره جهاده و لكي يكون راهبا بكل ما في هذه الكلمه من معني وانما ينبغي أن يفعل ذلك بكل وعيه و بكامل ادراكه. أي يفعله علي هدي بصيرته و نور فكره و لا يفعله كالآله المسخره التي لا عقل لها و لا تفكير و لا صواب . فالتسامي الي الله لا يكون الا بسمو الروح . و سمو الروح لا يأتي الا عن سمو العقل و مظهر سمو العقل هو حب المعرفه و دوام التأمل في الظواهر و المعقولات و السعي الي استكشاف اسرار الوجود بأستنباط الأسباب و المسببات و العلل و المعلولات و الصعود في مدارج الفكر الي الأسس الأولي و المباديء العليا التي يقوم عليها نظام الخليقه بحكمه خالقها . و بالأجمال فلكي يكون الأنسان راهبا ينبغي له أن يكون بذلك و قبل ذلك فيلسوفا و حكيما .
من هنا نري أن الرهبنه أسلوب جليل من اساليب الحياه . و مهمه شاقه لا يصلح لها كل انسان و لا يقدر عليها كل انسان و لا يصل الي غايتها كل من سلك سبيلها و لا يتصف بصفتها كل من لبس مسوحها . لأنها كما عرفها روادها الأوائل أسمي وظيفه من وظائف البشر و أصحابها ــ علي حقيقتها ــ هم أسمي مراتب الناس و غايتهم في الحياه أسمي غايه و سبيلهم أشرف سبيل .
يتـــــــــــبع