![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إنشراح الذات في قبول الموت عند اللقاء مع الله
إنّ المشكلة الحقيقيّة الّتي يواجهها الكائن البشريّ في منتصف حياته هي، في آخر الأمر، موقفه تجاه الموت. فخطّ الحياة النفسيّة البيانيّ ينعطف نحو الأسفل ويتوجّه نحو الموت. ولا يكون لحياته الأرضيّة وموته هدفاً له معنىً إلاّ إذا آمن الكائن البشريّ بوجود حياة بعد الموت. في هذه الحالة فقط، يكون لمنتصف الحياة الثاني معنىً ووظيفة. ويرى يونغ أنّ الحياة بعد الموت ليست مسألة إيمان بل هي حقيقة نفسيّة. فالتفكير يجد أنّها متوافقة مع العقل، فيبقى في صحّة جيّدة وينظّم نفسه على أساسها. على الكائن البشريّ أن يتعوّد في منتصف حياته على موته. عليه أن يقبل بكامل وعيه انعطاف منحنى حياته الجسديّة، ليسمح لمساره النفسيّ بأن يتابع ارتقاءه نحو التفرّد. ويقول يونغ: «ابتداءً من منتصف الحياة، لا يبقى حيّاً إلاّ من يريد أن يموت مع الحياة». فالخوف من الموت بالنسبة إلى يونغ يرتبط بالخوف من العيش. «فكما أنّ هناك عدد كبير من الشباب يرتعدون في داخلهم من الحياة، مع أنّهم يرغبونها بشدّة، ربما هناك عدد أكبر من الأشخاص الّذين يشيخون والّذين لديهم الخوف نفسه من الموت. أجل، فقد اختبرت أنّ هؤلاء الشباب الّذين يخشون الحياة، يتألّمون لاحقاً ألماً مماثلاً من الموت. فحين يكونوا شباباً، نقول إنّهم ينمّون مقاومات طفوليّة ضد متطلّبات الحياة الاعتياديّة. وحين يشيخون، علينا في آخر الأمر أن نقول الشيء نفسه: إنّهم يخافون من إحدى المتطلّبات الطبيعيّة للحياة. فالقناعة بأنّ الموت هو مجرّد نهاية لمسار راسخة جدّاً، ولا نفكّر حتّى في أن نتصور أنّه هدف وإتمام، بينما نفعل هذا، وبدون صعوبة، مع أهداف الحياة الشبابيّة الّتي تنشرح ونواياها.» للحياة هدف. فطالما أنّ الكائن البشريّ شابّ، يكون الهدف هو الإقامة في الوجود وتحقيق شيء فيه. وفي منتصف الحياة، يتغيّر موقع هذا الهدف. فهو ليس في الذروة وإنّما في الوادي حيث بدأ الصعود. لذلك يجب التحرّك نحو هذا الهدف. ومَن لا يفعل ذلك، مَن يتشبّث بالماضي، يرى أنّ منحنى حياته النفسيّة ينفصل عن منحنى حياته الجسديّة. «فيبقى وعيه النفسيّ معلّقاً في الهواء، بينما القطع المكافئ لسقوطه ينحدر أسرع فأسرع». ففي آخر الأمر، الخوف من الموت هو رفض للحياة. ولا يستطيع أن يعيش، وأن يبقى حيّاً وينضج، إلاّ مَن يقبل شريعة الحياة، الّتي هي حركة نحو الموت، أي نحو غايتها. كثير من الناس، بدل أن يوجّهوا أنظارهم إلى الأمام نحو هذا الهدف، ألا وهو الموت، ينظرون إلى الخلف نحو الماضي. فبينما ينتقد مجتمعنا الشابَّ الثلاثينيّ الّذي يظلّ يحدّق بسنواته الأولى ويبقى ولداً، يمدح الشيوخ الّذين يحافظون على مظهرٍ شابًّ ويتصرّفون مثل الشباب. ويرى يونغ «في كلتا الحالتين سلوكاً نفسيّاً مخالفاً للطبيعة وضالاً وغير ملائم. فالشاب الذي لا يصغي إلى سرّ الجداول ورقرقة مياهها وهي تنحدر من الذرى إلى الوديان هو غبيّ، ومومياء روحيّة متحجرّة. إنّه يتنحّى عن حياته ويدور في حلقةٍ مفرغة حتّى التصلّب الكامل. فأي وأي حضارة تحتاج إلى هيولى كهذه!» إنّ الجمود عند زمن الشباب علامة واضحة على الخوف من فكرة الشيخوخة. وهنا، يتساءل يونغ: « مَن منّا لا يعرف أحد أولئك السادة اللطفاء، الّذين يُحيون على الدوام ذكريات أيّام دراستهم، ولا يتحمّسون إلاّ عند تذكّر زمن إنجازاتهم الهوميروسيّة، ولكنّهم من جهةٍ أخرى محبوسون في ادّعاءاتهم؟» فبدل الاستعداد للشيخوخة، نريد أن نظَلّ شباباً إلى الأبد. وهذا، في نظر يونغ «إبدال الاستنارة ببديل تافه وهو الذات»، بينما منتصف الحياة الثاني يتطلّب الاستنارة لا الذات. حين يصل الناس إلى منتصف العمر في أيّامنا، لا يكونوا مُهيئّين لما ينتظرهم أثناء النصف الثاني من العمر. والسبب، بحسب يونغ، هو أنّ لدينا مدارس للشباب لا للأربعينيّين من أجل تحضيرهم لامتحانات المنتصف الثاني هذا. وقد كان الدين على الدوام هذه المدرسة الثانية. فهو يحضّر الناس على فهم سرّ المنتصف الثاني للحياة. واليوم أيضاً، لا يستطيع يونغ أن يقترح على إنسان هذا العمر مدرسةً أخرى غير الأديان. إنّها تساعده على قبول الموت، لأنّها تقوده إلى خارج حقل الصراع من أجل الوجود، وتجعله في مضمارٍ يصبح فيه الإنسان حقاً إنساناً. بحسب يونغ، لا يستطيع الإنسان أن يجعل الذات تنشرح إلاّ بعد أن يختبر الألوهة فيه. ويرى يونغ أنّ قول القدّيس بولس «لستُ بعد أنا الّذي يحيا وإنّما المسيح يحيا فيَّ» يعبّر عن خبرة إنسانٍ وجد الطريق إلى ذاته. هذا يعني، بالنسبة إلى الأربعينيّ، أن يخرج من ضيق أفق الأنا وأن يستسلم لله. فمَن يرفض هذا الاستسلام لن يجد أبداً الطريق إلى كماله، وبالتالي، لن يبلغ صحّته النفسيّة. فالمشكلة الحقيقية لكثير من الناس في هذه المرحلة العمريّة هي مشكلة دينيّة وروحيّة. يقول يونغ: «من بين جميع مرضايَ الّذين تخطّوا منتصف الحياة، أي تخطّوا الخامسة والثلاثين، ما من واحد لا تكمن مشكلته الأساسيّة في موقفه الدينيّ. أجل. كلّ واحد يتألّم في آخر الأمر لأنّه فقد ما أعطته الديانات الحيّة على الدوام للمؤمنين بها، ولم يشفَ أحد حقّاً طالما أنّه لم يستعيد موقفه الدينيّ، وهذا لا يرتبط بالطبع بديانةٍ معينّة أو بالانتماء إلى كنيسةٍ من الكنائس». ويقترح يونغ من أجل اللقاء مع صورة الله، وهو لقاء ضروريّ للصحّة النفسيّة، أن يستعمل الإنسان طرائق وأساليب الكتّاب الروحييّن نفسها. ويتكلّم يونغ على التضحية الّتي يجعل الإنسان نفسه فيها بين يديّ الله، والّتي يضّحي فيها بجزءٍ من الأنا كي يربح ذاته. فالانكفاء على الذات، الّذي يعتبره يونغ ضرورياً في منتصف الحياة، يكتمل بالتأمّل والزهد. والخلوة والصوم الإراديّ هما «وسيلتان معروفتان منذ زمنٍ طويل في سندهما للتأمّل الّذي عليه أن يفتح الطريق إلى اللاوعي». إنّ الدخول إلى اللاوعي هذا، والغوص في الذات، يعني بالنسبة إلى الإنسان، تجدّداً وولادة روحيّة جديدة. فالكنز الذي يتكلّم المسيح عليه مخفيّ في اللاوعي، والرموز والوسائط الدينيّة تستطيع وحدها أن تجعل الإنسان قادراً على إخراجه. وكما أنّ المسيح نزل إلى الجحيم بعد موته، هكذا على الإنسان أن يعبُر ليل اللاوعي ويخضع للنزول إلى جحيم اللقاء مع الذات، كي يولد ثانيةً وقد تقوّى بفضل قوة اللاوعي. ويلخّص يونغ النتائج الّتي اكتسبها مَن تَخطّوا أزمات منتصف الحياة، وتركوا الله يحوّلهم ويغيّرهم بوساطة هذه الأزمة، على النحو التالي: «لقد وجدوا ذواتهم، وقبِلوا أنفسهم كما هم، وكانوا قادرين على المصالحة مع ذواتهم، وبذلك تصالحوا مع ظروفٍ قاسية وأحداثٍ مؤلمة. وهذا يشبه تقريباً ما قيل في السابق: «يعيش في سلام، ويقدّم حياته ذبيحةً إذ يخضع لإرادة الله». الولادة الروحيّة الثانيّة، ترك الله يغيّرنا ... هذه هي وظيفة المنتصف الثاني من الحياة، وهي وظيفة محفوفة بالمخاطر، لكنّها أيضاً غنيّة بالوعود. إنّها لا تتطلّب كثيراً من المعرفة النفسيّة، بل تتطلّب ما نسمّيه «التقوى»، أي استعداد الشخص للالتفات إلى داخله ليصغي إلى الله الّذي فيه. هذا ما يعلّمه يونغ. على إنسان منتصف الحياة أن يكرّس نفسه، بكلّ قواه الروحيّة، لأجل صيرورته. وهذه وظيفة لا يمكننا أن ننجزها معتمدين على قوانا الشخصيّة، وإنّما ننجح في إتمامها فقط إذا وثِقنا بالله |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
إجعلوا المسيح هدفكم الأول والاخير في هذهِ الحياة |
أزمة منتصف الحياة 5 # |
ازمة منتصف الحياة 4 # |
أزمة منتصف الحياة 2 # |
أزمة منتصف الحياة 1 # |