رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نحميا ومحنته كان نحميا ساقى الملك ، ولم يكن يبلغ هذا المركز إلا أعظم الناس وأقربهم إلى قلوب الملوك ، ... وهو أشبه بمن يطلق عليه الآن وزير البلاط ، أو كبير الأمناء ، ... وهو المسئول عن الشئون الخاصة بالملك ، وعن طعامه وشرابه ، ولم يكن يصل إلى هذا المركز إلا بعد البحث العميق الدقيق ، الذى فيه يطمئن إلى عمق ولائه وإخلاصه ، فى وقت كان يتعرض فيه الملوك عادة للموت بدس السم فى الطعام أو الشراب..!! وعندما قدم نحميا الشراب للملك ، كان ممتلئاً من الألم والحزن والكآبة التى لاحظها الملك ، من الوهلة الأولى ، فقال له : « لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض ما هذا إلا كآبة قلب » " نح 2 : 2 " ... ومع أن نحميا خاف كثيراً لئلا يتسرب الشك فى ولائه إلى الملك ، ... إلا أن الواقعة فى حد ذاتها كانت تبدو غريبة للناظر العادى ، ... ولو أننا سألنا جميع الناس عن نحميا ، لقالوا إنه الإنسان السعيد المحظوظ المبتهج ، الذى يشغل هذا المنصب الجليل الخطير ، ... بما فيه من مزايا لا تحصى ولا تعد ، ... وقد كان غريباً أن يكون نحميا كئيباً إلى هذا الحد الملحوظ ... ولو أنه كان مريضاً ، لرسم المرض خطوطه على وجهه ، بما يمكن أن يصاحب ذلك من ألم أو تعاسة أو أنين ، لكن الملك نفسه يشهد أنه غير مريض !! ... وما أكثر الذين تهون كل الأمور أمام عيونهم طالما كانوا أصحاء لا يشكون داء أو مرضاً ، ولكن نحميا الصحيح ، المعافى ، كان عميق التعاسة والكآبة والألم !! ... ومن البادى أيضاً أن حزن نحميا لم يكن بسبب مأساة أو ضيق يعانيه فى بيته وأسرته ، ... عندما رأى أليشع الشونمية آتية من بعيد أرسل جيحزى ليسألها : « أسلام لك . أسلام لزوجك . أسلام للولد » " 2 مل 4 : 26 " ... وهو يعنى أنه إذا كان السلام يحيط بالثلاثة ، وأنه ليس فى البيت أمر ينغص من هذا القبيل ، فإن أية أخبار أخرى ستبقى أقل شأناً ، وأضعف أثراً ، ... ويمكن للمرء أن يتقبلها بالهدوء والأناة ، مهما كانت نتائجها ،... ولم يكن يعانى نحميا فى حدود علمنا متاعب من هذا القبيل فى بيته ، يمكن أن تعكر صفوه ، أو تطبع على وجهه ما رأى الملك من حزن وكآبة !! ... إن الكثير من المحن التى يتعرض لها الناس تكون عادة داخل أسوار البيت : الولد فاشل ، والبنت متمردة ، والزوج أحمق ، والزوجة صخابة مقلقة ، ... ولكن يبدو أن بيت نحميا كان عظيما ، وكانت حياته المنزلية ممتلئة بالرضى والهدوء والراحة ، ... ومع ذلك كان نحميا تعساً حزيناً ، لبيته الأوسع والأعظم ، فى أورشليم هناك !! ... ولم يكن نحميا فى حاجة إلى مادة أو مال ، مما يمكن أن يكون سبباً لمذلته وهوانه ، فلم يكن يواجه مشكلة مالية ، كالأرملة التى جاءت صارخة إلى أليشع لأن زوجها قد مات ، وخلف ور اءه ديناً ثقيلا ، وجاء المرابى ليأخذ ولديها عبدين ، ... والدين كما ألفنا أن نقول : هم بالليل ومذلة بالنهار !! ... ومع أن خزانة نحميا كانت ممتلئة وفياضة بالكنوز ، لكن هذه الكنوز لم تعطه الراحة قط ، ... وفقر أورشليم يطحنها طحناً ، ويحولها أكواماً من الرماد والتراب !! ... ولم تكن مشكلة نحميا من مشاكل الوظيفة التى كثيراً ما تقلق الموظفين ، لأنهم لم يأخذوا حقهم ، أو تخاطهم من هم دونهم درجة وكفاءة ، ... لقد كان فى مركزه المرموق ، الذى سنرى أنه قد ضحى به ، بحثاً عن التعب والمشقة ، ... ومراكز الدنيا كلها ، لا تساوى شيئاً إزاءأ إحساس الإنسان بأن عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر ، ... وأن أبسط خدمة للسيد ، لا تساويها تيجان الملوك ومراكز الأمراء والسادة ، ... عندما دعى وليم كارى أبو المرسليات الحديثة أن يكون وزير الهند فى الوزارة البريطانية ، لمعرفته بالهند ، وبرجالها ، إذ كان المرسل العظيم هناك ، أجاب إجابة نحميا : « إنى عامل عملا عظيماً فلا أقدر أن أنزل » " نح 6 : 3 " ... وعندما قدمت له بلاده مائة ألف جنيه لخدمة قام بها ، حول المبلغ كله للعمل المرسلى !! .. ومن الغريب أن نحميا كان مخروناً ، لمشكلة تبعد عنه قرابة ألف ميل ، والإنسان فى العادة يفزع ويتألم للمشكلة التى تقع على مقربة منه أو على مرمى البصر والمثل الشائع : إن القريب من العين ، هو القريب من القلب ، فإذا بعد الإنسان عن مكان الفاجعة ، فمن السهل تصور إنه لا يعود ينظر إلى المشكلة أو ينشغل بها ، ولهذا ما أكثر ما يهرب الهاربون ، أو يهاجرون إلى آخر الأرض ، إذا ضاقوا بالحياة ، فى مكان ما ، أوضاقت الحياة بهم فيه ، لكن نحميا كان بعيداً عن أورشليم ، ولكن أورشليم لم تكن بعيدة عن قلبه وعواطفه وأشواقه وآلامه !! ... وكان يمكن لنحميا أن يستريح ويهدأ نفساً ، لأن المشكلة تراث قديم ، ولدت قبل أن يولد ، وهو بعض ضحاياها . إذ ولد هو فى المنفى ، فى السبى ، وهو لا يستطيع أن يحمل هموم التاريخ ،كما أنه لم يصنع هو المشكلة ، ومن حقه أن لا يكون مسئولا عنها ، ... وما أكثر ما يفعل ذلك الكثيرون عندما تتفتح عيونهم على الشر المسيطر فى الأرض ، وتحيط بهم المشكلة التى تبدو حياتهم تجاهها صغيرة ضئيلة ، فيستسلمون لها استسلام الإنسان الذي لا ينهض فى فكره أن يغير من الواقع أو يبدل منه شيئاً على الاطلاق !! ... كان يمكن لجميع هذه العوامل أن تنتزع الأسى والألم من نحميا ، ولكن دون جدوى !! .. |
|