رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
موسى ومدرسة مديان الكبرى كان من الغريب أن تنقسم حياة موسى من حيث الزمن إلى ثلاثة أقسام متساوية، فهو يقضي في مصر أربعين عاماً كأعظم ما تكون حياة الناس، بين الأبهاء والعظمة والقصور، وهو يقضي الأربعين الثانية راعياً للأغنام، كأبسط ما تكون الحياة بين الناس على ظهر الأرض، وهو يقضي الأربعين الثالثة كأقسى ما يواجه الإنسان من حياة عملية على رأس شعب اشتهر بالشغب والعناد والتمرد!!.. ونحن لا نعلم حكمة الله في ذلك، بل لعل موسى في مديان كان يسأل وهو في الوحدة والهدوء والعزلة والبرية: هل هناك من كلمة لهذه السنوات الطويلة التي هي ثلث عمره في البرية؟!!.. إن الحقيقة أن مدرسة مديان لم تكن تقل بحال ما عن جامعة مصر،.. وقد تعلم موسى في مديان ما لم يستطع أن يأخذه في مصر، لقد تعلم على الأقل: أولاً: الخروج الصحيح من مصر،.. أو بتعبير أصح خروج مصر منه، لقد خرج موسى من مصر، ولكن مصر كان من المستحيل أن تخرج من قلبه وفكره بين عشية وضحاها،.. وكان لابد أن ينتزع من نفسه كل تأثيراتها وسحرها، وفتنتها وجمالها، وإغرائها وأساليبها، وما خلعته عليه من زهو وغرور، وكبر واعتداد، كان الخروج إلى مديان، غسيلاً كبيراً لمخ موسى وحياته في مصر، وما قد تراكم من أوساخ علقت به طوال الأربعين عاماً الأولى من حياته!!.. كما أن الأمر ثانياً كان أكثر من ذلك، إذ هو الخروج من الضجيج إلى الهدوء، والسكون، الوحدة، والعزلة،.. كان على موسى أن يدخل مدرسة الصمت، حيث يغترف هناك من منهل الشركة مع الله ويقوى تأمله، ويزداد إيمانه، وترتفع نفسه دون معطل أو مزعج أو ضجيج، ولا شبهة في أن كتاباته الخالدة، وشرائعه العظيمة التي أخرجها للأجيال، وضع الله أساسها في ذهنه، وهو يتجول منفرداً وحيداً منعزلاً في تلك الصحاري الشاسعة، لقد كانت البرية له كما كانت لإيليا وداود، ويوحنا المعمدان وبولس، فترة من فترات التأمل القوي المخصب العميق. وكانت مديان ثالثاً.. مدرسة التدرب العظيم على أفضل ما وصل إليه من المباديء والمثل الأخلاقية العظمى،.. فحياة الوداعة والتواضع والصبر والحلم والزهد والقناعة، كان من المستحيل أن يبلغها في مدرسة أخرى غير مدرسة مديان،.. كيف لا، وابن ابنة فرعون لم يعد يأنف من أن يكون راعياً بسيطاً من رعاة الأغنام، ولم يأنف الذي ألف حياة القصور ومجد الأبهاء أن ينام فوق الثرى والرمال والصخور.. لقد تعلم موسى كيف يرضى ويتضع، بل كيف يحيا حياة الزهد والخشونة والقناعة، بل أكثر من ذلك رق طبعه، وهدأت نفسه، طبعت على الأناة والوداعة والحلم، حتى وصل به الأمر إلى أن يكون أحلم رجل على وجه الأرض،.. وإلى جانب هذا كله، أزكت مدرسة مديان في أعماق نفسه آلاماً لا توصف تجاه إخوته المعذبين المتألمين في مصر،.. وقد وصفته "ألن نايت تشالمرز" يجلس فوق الرمال في الليل العميق، وهو يفكر في إخوته متطلعاً إلى النجوم اللامعة في السماء، ويقول "أتستطيع أن تتصوره في أعماق الليل، فوق التلال يرعى أغنامه تحت النجوم الساكنة؟ لقد كانت النجوم ذاتها تدينه وتعذبه، إذ كان صمت الليالي يحمل إليه صرخات إخوته المعذبين،.. كان موسى رجلاً مرهف الإحساس تروعه آلام الآخرين، وكان يجلس في مديان حراً لا تصل إليه سياط المصريين، أو عدالة فرعون إزاء ما ارتكب من قتل،.. لكن الأصوات التي تتكلم في جنبات نفسه، وصلته عبر الصحراء التي تفصل بين قصر فرعون، وخيام يثرون،.. كان موسى يصارع في أعماق نفسه قيود الضمير!!.. وهكذا كانت مدرسة مديان مدرسة الله التي دخلها موسى طوال الأربعين العام الثانية من حياته!!.. |
|