رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
إرميا " ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فابكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى " " إر 9 : 1 " مقدمة لعلك تستطيع أن تفهم إرميا قليلا أو كثيراً ، إذا ذكرت كيف بكى ونستون تشرشل ، فى مطلع الحرب العالمية الثانية ، وهو يقول للشعب الإنجليزى : « ليس عندى ما أقدمه لكم سوى العرق والدم والدموع » ، .... ولعلك تستطيع أن تفهمه أيضاً ، إذ تصورت قرب نهاية الحرب ، يابانياً محباً لبلاده وشعبه ، يتجول بين خرائب هيروشيما ونجازاكى بعد أن دمرتها القنبلة الذرية ، على أفظع صورة وصل إليها الإنسان فى قوة التدمير فى القرن العشرين !! .. ومع ذلك فإنك لا تستطيع أن تفهمه البتة ، قبل أن تقرأ قصته فى ضوء ذاك الذى قيل عنه : « وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلا : إنك لو علمت أنت أيضاً حتى فى يومك هذا ما هو لسلامك . ولكن الآن قد أخفى عن عينيك . فإنه ستأتى أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة . ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفى زمان افتقادك » .. " لو 19 : 41 - 44 ".. كان إرميا نبى الدموع ، شبيهاً بالمسيح ، ومن أقسى ما عاناه أنه رأى بعينيه مدينته التعسة ، والبابليون ينقضون عليها كالوحوش ، ويسوونها وهيكلها ومجدها بالتراب ، ورأى إرميا قتلى بنت شعبه ، فصرخ : « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى » ، ... هل رأيت مدينة تتحول بأكملها إلى كتلة من نار، يجرى فى طرقاتها إنسان دون أن يعرف إلى أين يتجه ، سوى أن يطلق لنفسه العنان فى البكاء والنحيب والمراثى ؟ ! هكذا كان إرمياء وكانت مراثيه ، وكان حزنه الذى لا يوصف ، الحزن الذى أمسك بحياته من مطلعها وهو يجرى بين أورشليم وعناثوث ، حتى مات فى مصر ، ويقال إنه مات رجماً من مواطنيه ، وهكذا عاش الرجل ومات ، وقد تحول رأسه إلى ماء ، وعيناه إلى ينبوع دموع ، وصرخاته ما تزال تتردد عبر القرون والأجيال !! .. لم أعطي هذا الحظ ، ولم سار فى الطريق المنكوب !! ؟ هذا ما سنحاول التأمل فيه ، ونحن ندرس قصته الحزينة فيما يلى : إرميا ومن هو !! ؟ وقد تباينت أفكار الشراح حول معنى الاسم ، فبينما يراه جيروم « مرفوع الـــرب » وجسينيس « معين الرب » يعتقد جنجستنبرج أن الاسم يعنى « اللّه يرمى » ، أو الذى أخرجه إلى الممالك والشعوب ، وقذف به ليقلع ويهدم ويهلك وينقض ويبنى ويغرس ، ويوجـد من اعتقـــــــد أن المعنى « اللّه يؤسس » .. وعلى أية حال ، فإن هذا الأفكار جميعاً تحدثنا عن ذلك الإنسان الذى صوره اللّه من بطن أمه ، وأخرجه من الرحم ، وأقامه : « مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض ، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض . فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك » " إر 1 : 17 - 19 " أو كما وصفه ماكرتنى : « إن الأمم تنجب أبطالها فى بداءة أو نهاية تاريخها ، أى فى مخاض الولادة أو غصص الموت ، وكان إرميا هو نبى إسرائيل ، لما دنت شمس أورشليم للغروب . فنراه واقفاً كعمود من فولاذ، فى وسط الدخان والظلام ، والحريق والدمار الذى ألم بها » ... وكان إرميا بن حلقيا الكاهن ، والذى يعتقد كثيرون أنه كان الكاهن العظيم فى أيام يوشيا الملك ، والذى وجد سفر الشريعة فى بيت الرب ، وإن كان آخرون يعتقدون بأن حلقيا أبا إرميا لم يكن رئيس الكهنة ، بل كان واحداً منهم فقط ، وأنه غير حلقيا رئيس الكهنة العظيم،... وعلى أية حال ، فإن إرميا كان من الكهنة الذين ولدوا فى عناثوث الواقعة فى سبط بنيامين ، والتى كانت تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من أورشليم !! .. وكان يتنقل بين المدينتين ، وإن كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته فى أورشليم !! .. ولعلنا لا نستطيع أن نفهم الرجل حق الفهم ، قبل أن نعرف العصر الذى عاش فيه ... كان عصره من أقسى العصور ، وأكثرها ازدحاماً بالصراع ، إذ كانت هناك ثلاث ممالك تتنازع السلطة العالمية ، ونعنى بها آشور ، ومصر ، وبابل . وقد ظلت لآشور السيادة قرابة قرنين من الزمان وكان لها القدح المعلى فى أيام إشعياء فى القرن الثامن قبل الميلاد ، وكان آشور بنيبال بن أسرحدون وحفيد سنحاريب آخر الملوك العظماء فى تلك الدولة القديمة ، وقد حكم أسرحدون - خلال حكم منسى - اثنى عشر عاماً بيد قوية ، وقد غزا مصر فيها مرتين ، كما استطاع أن يقضى على المقاومة الآتية من الشعوب الغربية ، ولكنه عجز عن السيطرة على صخرة صيداء ، وقد كانت حياة ابنه آشور بنيبال حافلة بالحروب ، وهو الذى أخذ منسى إلى بابل وأطلق سراحه بعد ذلك،.. على أن مصر وبابل أخذتا بععد ذلك فى النهوض ، وابتدأ الضعف يخيم على آشور، والأرجح أن أرميا أضحى نبياً للّه فى سنة وفاة آشور بنيبال ، الذى أعقبه ملك ضعيف غير معروف ، ومن ثم أخذت بابل الدولة الفتية طريقها لا إلى التخلص من آشور فحسب ، بل إلى السيطرة والقوة ، .. وقد تحالفت مصر مع آشور ضد بابل حتى سقطت نينوى فى عام 612 ق. م ، وانتهت الدولة الأشورية تماماً فى عام 506 ق.م. بظهور نبوخذ ناصر فى الميدان ، وقد أخطأ يوشيا كما علمنا فى تصديه لفرعون نخو ملك مصر عندما ذهب للحرب فى مجدو ، وسقط يوشيا قتيلا فى المعركة ، وتولى ابنه يهوحاز الملك ، ولكن فرعون أسره وأخذه إلى مصر وملك أخاه يهوياقيم أحد عشر عاماً اتسمت بالأنانية والظلم والقسوة ، وكانت النتيجة أن نبوخذ ناصر ملك بابل جاء واستعبد الشعب استعباداً مريراً ، ودمر أورشليم والهيكل تدميراً رهيباً !! .. ومن المعتقد أن إرميا صار نبياً ، وهو ما يزال غضاً صغيراً ، وفى الغالب ، فى العشرين من عمره وكان ذلك فى السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا أو عام 626 ق.م.، أو ما يقرب من خمس سنوات ، قبل اكتشاف سفر الشريعة وقيام يوشيا بإصلاحه العظيم ، وقد استمرت نبوته أكثر من أربعين عاماً ، وشاهد بعينيه تحقيق الكثير من نبواته ، إذ رأى خراب أورشليم ، وقد كان بداخلها وهى محاصرة ، وعندما دمرت عام 586 ق.م. ، وكانت معاملة نبوخذ ناصر لأرميا طيبة ، إذ سمح له بالبقاء فى المدينة المخربة ، مع المندوب الملكى جدليا المعين من قبل بابل . لكن الأحداث تتابعت بعد ذلك إذ قتل جدليا ، ... ومن الغريب أن الهاربين من المدينة إلى مصر ، رغم ارتدادهم عن اللّه ، كانوا فى حاجة إلى من يرشدهم إلى الحقيقة والمصير ، ولذا أمسكوا بإرميا وأجبروه على الذهاب معهم إلى مصر رغم عدم رغبته ، وفى مصر كانت آخر نبواته فى تحفنحيس ، ويقول التقليد إن اليهود هناك أيضاً لم يطيعوا صوت اللّه فيه ، ورجموه ، فمات فى مصر !! .. عاش إرميا طوال حياته ، وهو أشبه الكل بالجندى الذى يعيش فى أتون المعركة وقعقعة السلاح فيها ، ... والجندى فى العادة ليست له الفرصة الهادئة المريحة ، التى يسكن فيها إلى بيت وولد ، ثم أمر الرب إرميا أن يعيش أعزب دون زوج أو ولد : « ثم صار إلى كلام الرب قائلا : لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات فى هذا الموضع ، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين فى هذا الموضع وعن أمهاتهم اللواتى ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم فى هذه الأرض ، ميتات أمراض يموتون . لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الأرض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض . لأنه هكذا قال الرب : لا تدخل بيت النوح ولا تمضى للندب ولا تعزهم لأنى نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الإحسان والمراحم . فيموت الكبار والصغار فى هذه الأرض . لا يدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم ... ها أنذا مبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفى أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح ، صوت العريس وصوت العروس » " إر 16 : 1 - 9 "... وكان إرميا هنا أشبه بالرسول بولس الذى عاش حياته أعزب ، ولم يكن له متسع ، فى زمن الضيق والتعب والاضطهاد أن يتزوج . ... بل إن الرسول أوصى : « فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر ، أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا ، أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال . أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة » "1 كو 7 : 27 : 28 " .. كان إرميا - فى حد ذاته - رمزاً ومثالا الكلام الذي ينادى به ، وكان من أكثر الأنبياء الذين صوروا الحياة فى صور عملية رمزية ، فالعلاقة بين اللّه وإسرائيل أشبه بالمنطقة التى يتمنطق بها الرجل ، وستبقى المنطقة سليمة وجميلة ، طالما هى على الحقوين ، .. لكن يطلب إليه أن يذهب بهذه المنطقة إلى نهر الفرات ويطمرها هناك ثم يرجع ليأخذها . وإذا بها قد فسدت لا تصلح لشئ ، ... ولعلنا نلاحظ أن هذه المنطقة كما صورها فى الأصحاح الثالث عشر ، كانت جديدة ولكنها لم تغسل ، .. وكانت بهذا المعنى كإسرائيل الذى تميز على الشوب بالعلاقة التى تربطه باللّه ، ... ولكنه رفض أن يغتسل وفى عقاب اللّه له على خطاياه ، لم يرعو أو يتعظ من هذا العقاب ، ففسد ، ولم تكن النتائج التى جاءت من السبى - وكان يمكن أن تقوده إلى حياة أفضل - إلا مخيبة للأمل ، ... وعلى الإنسان دائماً أن يلتصق بالرب ويبقى نظيفاً ، ... وقد أعطى إرميا صورة أخرى عندما ذهب إلى الفخارى فى الأصحاح الثامن عشر ليتخذ عظته مما يفعله الرجل وهو على الدولاب ، فإذا فسد الطين ، فإنه يمكن تشكيل الوعاء من جديد ، ... ولكن لا يمكن إصلاح الوعاء ، إذا اجتاز فى النار ، فإن الإبريق من الفخار لا مجال لإصلاحه إذا تحطم ، بل لا مكان له إلا الطرح فى وادى ابن هنوم ، أمام شيوخ الشعب ، وشيوخ الكهنة ، الأمر الذي يرمز إلى أمة إسرائيل ، وقد ضاع الرجاء فيها ، ولا يمكن إلا أن تكون بقايا من الخزف فى وادى ابن هنوم ، والذى أضحى رمزاً لجهنم ، مكان العذاب الأبدى ، حيث كان ترمى النفايات جميعها خارج مدينة أورشليم ، وكان مباءة للديان والجراثيم ، يجمع بين الظلمة الدائمة ، والنار التى لا تطفأ ، ومن ثم قيل : « حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ » " مر 9 : 44 " . ولا يمكن أن ننسى الخمر التى قدمها إرميا فى بيت الرب للركابيين ، الذين رفضوا شربها بناء على وصية قديمة من أبيهم يوناداب بن ركاب ، وجعلهم اللّه مثلا أمام الشعب ، مما عرضنا له بافاضه عندما تحدثنا عن شخصية يازنيا بن إرميا كبير بيت الركابيين أيام إرميا ... وما أكثر ما رؤى إرميا يتجول فى شوارع أورشليم يحمل نيراً على كتفه ، نير الثور ، الذى سيصل إليه إسرائيل فى بعده عن اللّه ، ... وفى مصر ، فى أخريات حياته ، أخذ حجارة كبيرة وطمرها فى الملاط فى الملبن الذى فى تحفنحيس رمزاً لاختفاء مصر فى مواجهة بابل القوة الصاعــــدة ، والتى لا جـــــدوى من مقاومتها ولا أمل فى الانتصار عليها !! .. ولعل العصر الذى عاش فيه ، والظروف التى أحاطت به، يمكن أن تعطينا الصورة الصحيحة للرجل ، الذي صوره كثيرون بأنه نبى الدموع ، وآخرون نبى الفشل ، وغيرهم نبى الأحزان ، .. أو نبى التناقض ، أو فى الصورة الأدق والأصح « النبى الممزق » إذ أن الصراع الذى أحاط به ، وبعصره ، إنعكس فى أعماق نفسه صرعاً رهيباً مهولا !! .. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنسان كلما ازداد عظمة ، ازداد اتساعاً ، ويعتقد هيجل الفيلسوف الألمانى أن حياة العظماء تمتلئ فى العادة بالتناقضات ، وقد كان إرميا من هذا النوع ، فقد جمع ، على أعظم صورة ، بين : الرقة البالغة ، والصلاة الفولاذية وإنت لا يمكن أن تراه فى استجابته لدعوة اللّه العليا ، إلا بهذه الصورة العجيبة ، لقد أصابه الهول والفزع والوجل عندما ناداه اللّه للخدمة وصاح : « آه ياسيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد » " إر 1 : 6 " كان - على الأغلب - فى العشرين من عمره ، وهو بطبعه حيى خجول متضع ، يتلعثم أمام المشاكل والأحداث والحوادث ، وهو الرقيق إلى حد الدموع ، فكيف يمكن لهذه الطبيعة أن تواجه الدعوة بما تشتمل عليه من صعاب تبدو كالجبال الرواسى ، والأمة تندفع بجنون نحو غروبها الرهيب ، ومن الملاحظ أنه يمثل ذلك النوع من الخدام الذين يترددون قبل قبول الخدمة ، أو يحاوولون الهروب منها ما وسعتهم المحاولة ، ... وهو يقف مع موسى الذى رفض ، فى مطلع الأمر ، الدعوة ، وهو يقول للّه : « أرسل بيد من ترسل » " خر 4 : 13 " وطبيعته أقرب إلى طبيعة يونان الذى كان أشبه بالحمامة الوادعة ، وإذ يدعوه اللّه للذهاب إلى نينوى القاسية ، يهرب إلى ترشيش ، وعلى العكس تماماً من خطة اللّه لدعوته ، ... إن هذا النوع من الخدام ، لا يستجيب لنداء الدعوة فى الحال كما استمع إليها إشعياء ليقول : « ها أنذا أرسلنى " إش 6 : 8 " أو كما قال بولس » « يارب ماذا تريد أن أفعل ، » " أع 9 : 6 ".. ولكنه مع ذلك ، عندما يقبل الدعوة إذا به « مدينة حصينة وعمود حديد وسور نحاس على كل الأرض » .. " إر 1 : 18 " أو كما وصفه أحد الشراح بأنه أصح وأقوى وأشجع أنبياء العهد القديم !! ... نحن لا نعلم كيف دعاه اللّه ، وهل تكلم إليه بصوت مسموع ، أو جاءه فى رؤيا أو ظهر له بصورة ما ، إلا أن الشئ المؤكد عند إرميا أنه أيقن من هذه الدعوة ، وصدورها من اللّه بكيفية لا تقبل إبهاماً أو تردداً أو شكاً على الإطلاق !! .. وملأه اللّه بروحه فتحولت الحمامة إلى أسد ، ... وأحس الرجل فى أعماقه بأن قوة خارقة سيطرت عليه ، لم يكن يعرفها من قبل ، هى قوة روح اللّه فيه ، ولمس اللّه شفتيه ، وجعل كلامه فى فمه !! .. فإذا قيل ، وكيف يمكن أن يكون هذا وكيف نستطيع تصوره ، أجبنا أنه عين ما حدث مع بطرس ، قبل وبعد ، يوم الخمسين - وكيف أن الجبان أمام امرأة ، هو الشجاع أمام رؤساء الكهنة والكتبة ، أو كما صوره أحدهم : نراه قبل يوم الخمسين أمام التجربة ، كمن يهرب من أسد يطارده ، وبعد يوم الخمسين نراه يركب الأسد ويسيطر عليه ، ولعلك لو سألت الكثيرين من أعظم أبطال التاريخ ، كيف يمكن أن يحدث هذا اللغز لأجابوك : إنهم أكثر الناس دهشة وتعجباً إذ أنهم عندما يخلون إلى نفوسهم ، وإلى العواطف التى تملكهم ، لأدركوا أنهم أرق وأضأل من أن يقفوا أبسط المواقف التى وقفوها ، ولكنهم أمام الأحداث والحوادث ، هم أقوى وأعظم من الأسود الكواسر !! .. وقد بدت هذه الظاهرة بوجهها الواضح فى حياة إرميا خلال السنوات الطويلة من حياته الحافلة بالتجربة ، والضيق ، والأضطهاد ، ويكفى أن نراها عندما يخلو إلى نفسه، ويسرد اعترافاته ، التى يشبه فيها بولس وأوغسطينوس ، وقد حدثنا فى الأصحاح العشرين عن أعماقه عندما فكر أن يهجر الخدمة ومركزه النبوى : « قد اقنعتنى يارب فاقتنعت وألححت على فغلبت . صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بى ... لأن كلمة الرب صارت لى للعار وللسخرة كل النهار . فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه . فكان فى قلبى كنار محرقة محصورة فى عظامى فملك من المساك ولم أستطع » " إر 20 : 7 - 9 " ... « ملعون اليوم الذى ولدت فيه . اليوم الذى ولدتنى فيه أمى لا يكن مباركاً . ملعون الإنسان الذى بشر أبى قائلا : قد ولد لك ابن مفرحاً إياه فرحاً . وليكن ذلك الإنسان كالمدن التى قلبها الرب ولم يندم فيسمع صياحاً فى الصباح وجلبة فى وقت الظهيرة لأنه لم يقتلنى من الرحم فكانت لى أمى قبرى ورحمها حبلى إلى الأبد . لماذا خرجت من الرحم لأرى تعباً وحزناً فتغنى بالخزى أيامى » " إر 20 : 14 - 18 ".. ومن العجيب أن هذا الرقيق البالغ الرقة ، والذى تنقل من اضطهاد إلى اضطهاد ، ومن سجن إلى سجن ، وغاص فى حمأة الجب ، لم تزده هذه جميعاً إلا صلابة وجرأة وقوة شكيمة لا تقهر !! ... إن الذين عاشروا مارتن لوثر كانوا يتعجبون أشد العجب ، لأن هذا الرجل كان شاعراً رقيقاً ، يطرب للنغم الموسيقى أشد الطرب ، ويتألم أشد الألم للعصفور الصغير المهيض الجناح ، ويبكى أمام آلام الآخرين بكاء الأطفال ، ... ولكن هذا الرجل هو الذي هز أوربا ، وأرعد بصوته فزلزل الجبابرة والعتاة !! ... لأن رب الجنود سيطر عليه وغير به وجه التاريخ !! ... الحنان الذى لا يوصف ، والقسوة الشديدة كانت عاطفة إرميا تجل عن الوصف ، عندما جلس ذات مرة أمام نفسه ، والمدينة على وشك الهلاك والضياع صرخ : « أحشائى أحشائى . توجعنى جدران قلبى ... لا أستطيع السكوت . لأنك سمعت يانفسى صوت البوق وهتاف الحرب » " إر 4 : 19 " ... وعندما ضاق بالحياة وضاقت الحياة به إذ به يصيح « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى . ياليت لى فى البرية مبيت مسافرين فأترك شعبى وأنطلق من عندهم لأنهم جميعاً زناة جماعة خائنين » " إر 9 : 1 و 2 " فإذا تحولنا إلى مراثيه ، وقفنا أمام حنان ربما لم يعرفه أحد سوى ذاك الذى أطل على المدينة من جبل الزيتون وبكى عليها ، أو بولس عندما صاح : « أقول الصدق فى المسيح . لا أكذب وضميرى شاهد لى بالروح القدس ، إن لى حزناً عظيما ووجعاً فى قلبى لا ينقطع ، فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروما من المسيح لأجل إخواتى أنسبائى حسب الجسد » "رو 9 : 1 - 3" .. لقد أحب إرميا أورشليم وأحب بلاده وأحب عناثوث مدينة ومسقط رأسه ، لكنه كان فى وسطهم : « وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم اعلم أنهم فكروا على أفكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلايذكر بعد اسمه . فيارب الجنود القاضى العادل فاحص الكلى والقلب ، دعنى أرى انتقامك منهم لأنى لك كشفت دعواى . لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا . لذلك هكذا قال رب الجنود : ها أنذا أعاقبهم ، يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع ، ولا تكون لهم بقية لانى أجلب شراً على أهل عناثوث سنة عقابهم » " إر 11 : 19 - 23 " .. كان إرميا هنا أقرب ما يكون من إيليا وروحه ، ولم يكن بعد قد تعلم روح المسيح الغافر ، والذى طلب إلى تلاميذه أن تبدأ كرازتهم من مدينة أورشليم التى حاربته وصلبته على هضبة الجلجثة !! على أن أقسى موقف يمكن أن يتعرض له الإنسان فى الأرض ، هو الموقف بين الوطنية والدين ، ... كان إرميا واحداً من أعظم المحبين لبلاده وشعبه ، وكانت غيرته على المدينة التى أحبها أشد من غيرة أعظم الوطنيين فى الأرض ، ... لكنه مع ذلك وقف موقفاً شبيهاً بموقف أبيه إبراهيم فوق جبل المريا ، وهو يمد يده ليذبح ابنه إسحق،.. مع هذا الفارق أن إسحق كان مطيعاً لأبيه ، ولا عيب فيه البتة ، لكن أورشليم كانت المدينة الخاطئة التى تنتحر انتحاراً أمامه ، ... وقد كان من المؤلم والعجيب أن ينادى بعدم مقاومة الغزاة ، والاستسلام لنبوخذ ناصر ، ... ومن لى ، فى تلك الساعة ، ليرى نزيف قلبه وهو ينادى بهذه الأقوال !! .. كان يتمزق بين الحنان المرهف ، والقسوة الشديدة على المدينة التى ينادى عليها بالخراب ، ... إن السؤال الذى طرحه إرميا هو : هل نضحى بالدين فى سبيل الوطن ، ... أم نضحى بالوطن فى سبيل الدين !! ؟ .. إنه السؤال الذي يعتبر من أقسى الأسئلة التى يمتحن بها الإنسان على هذه الأرض !! ... ونحن نصلى لأنفسنا ولجميع الناس ألا يقعوا فى هذه التجربة التى وقع فيها إرميا يوماً من الأيام !! .. ولعل مما تحسن الإشارة إليه هنا هو الخلاف الفكرى العميق بين اثنين من الأمريكيين أما أولهما فكان اسمه ستيفون ديكاتور وهو ضابط من أقدر ضباط البحرية الأمريكية والذي كان شعاره : أنا مع وطنى فى الحق أو الباطل على حد سواء !! .. وقد رفض أمريكى آخر اسمه صموئيل بولند هذا الشعار وقال : أنا مع وطنى فى الحق ، ... وفى الباطل أصحح وطنى ليصل إلى الحق!!. ولعل هذا هو الوضع الصحيح لكل مؤمن مسيحى أن يحب إلهه ووطنه !! .. ولم يشذ إرميا عن هذه الحقيقة فى أعماقه وقرارة نفسه ، إذ لم يقبل الذهاب إلى بابل ، حيث أعلى له الحق فى ذلك ، ... وتنبأ فى الوقت نفسه عن بابل أقسى النبوات !! ... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز ، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته ، حتى ولو اشتد وقسا عليها !! ... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز ، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها !! ... وها نحن نرى اليوم الكثيرين من أمثال الواعظ المشهور بللى جراهام ، وهم يشبهون أمريكا ، فى الضياع الخلقى والاستباحة والشر والمجون التى استولت عليها ، بسدوم وعمورة ، ... ويصرحون ، وهم وطنيون مخلصون ، بأنها على شفا الهلاك ، ما لم ترجع إلى المسيح والإيمان المسيحى الذي قامت عليه كأعظم دولة فى الأرض !! .. |
|