رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الأمثــال سبق وتكلمنا كثيراً عن "الأمثال" إلا أننا حتى الآن لم نحدد المعنى الكتابي "للمثل". لقد تطرقنا إلى تحديد "المثل" من الناحية اللغوية البلاغية فقط. لكن الأمر يتطلب أكثر من ذلك من الناحية الكتابية، فهناك شروط يجب أن تتوافر لنستطيع القول إن هذا النص أو التشبيه المطول "مثل". شروط المثل إنها شروط أربع: 1- يجب أن تكون قصة كاملة تُروى أي أن يكون هناك تتابع في أحداث: فالمثل ليس مجرد لوحة جامدة، ولكنه يتطلب حركة... لنتخيل مثلاً المرأة التي تبحث عن الدرهم الضائع وتجده (لو8:15-10). لقد فقدته المرأة وبحثت عنه ووجدته وفرحت، عندما وجدته. إنها لوحة مليئة بالحركة. وقد تكون القصة قصيرة أو طويلة لكن: الشرط الأساسي هو أن تضم مراحل متتالية. 2- يجب أن يشير إلى حقيقة أو تعليم أعلى وأسمى من المضمون الحرفي للقصة. يقول يسوع: "سارع إلى إرضاء خصمك مادمت معه في الطريق". إذ فُسّر هذا القول على أنه مبدأ أدبي (لا تُضع وقتك ومالك) فما كان هناك "مثل". أما إذا فُهم بالطريقة التالية: إنه من الأفضل الاتفاق مع الخصم لئلا يدفع المرء فيما بعد أكثر بكثير، كذلك (وهنا الحقيقة الأعلى والأسمى) إنه من الأفضل ألا يحضر الإنسان غير مستعد أمام قضاء الله، بل يجب عليه أن يستعد لذلك منذ الآن، بأعمال الرحمة والصدقة والتسامح؛ فهنا نكون أمام "مثل". "المثل" إذن يجب أن يؤكد حقيقة أعلى وأسمى. وهذه هي إحدى خصائصه الرئيسية. 3- يجب أن يحتوي المثل على صور رمزية واضحة. صور زراعية، صور عمل بشري، طريقة معاملة الآب مع أبنائه، صور الصيد: عناصر تصورية ملموسة ومحسوسة، ذات ألوان وكيان، قصة واقعية. 4- تقوم علاقات "المثل" بالتوازي أو التناسب أو التضاد بين الحقائق الأرضية المنظورة والحقيقة الأسمى. فبالرغم من سهولة "المثل" إلا أنه مركب وغني، وينتج غناه من سمو ودقة الأفكار التي يحتويها. فلا يعرف الأطفال أن يرووا "أمثالاً"، وإن ضربوا أمثالاً، وتحدثوا بتشابيه. "فالمثل" يقتضي حكمة البالغين، ويتطلب حكمة وثقافة وتأملاً في الحياة وما بعد الحياة ومقارنة الواحدة بالأخرى.. لماذا لجأ يسوع إلى الأمثال إذ نضع نصب أعيننا شروط "المثل" الأربعة، نتساءل: لماذا رأى يسوع أنه من الأنسب أن يُعلّم بالأمثال؟ هناك أسباب توضح ذلك، وإن لم تكن سهلة الفهم فسنحاول أن نتعرف عليها معاً. 1- التشابه بين عالم الجسد وعالم الروح: يُعلّم يسوع بأمثال لوجود تشابه بين عالم الجسد وعالم الروح. فيقدر أن يشرح أشياء روحية (ولا تقول فائقة الطبيعة) غير منظورة بواسطة حقائق منظورة، ويمكنه أن يُعلّم أشياء غير مرئية عن طريق أشياء رمزية. فهناك علاقة بين الجسد والروح، لأن الأشياء الروحية والعقلية والفكرية الموجودة في الإنسان لها علاقة، عن طريق التشابه، مع الأشياء الجسدية. ويبدو هذا الأمر سهلاً وبسيطاً إلا أن نتائجه على الثقافة والأدب وطرق التعبير شديدة وقوية. فبدون اللجوء إلى "مثل" لا نستطيع مثلاً أن نلمس بالنظر، التطور الفكري الذي يطرأ على شخص ما، ولكن عندما نفكر في مسيرة، في صعود جبل، نستطيع أن نعبّر عن التقدم العقلي والروحي والثقافي، لأن هناك علاقة بين التطور بأنواعه وبين السير وصعود الجبل، اللذين يتطلبان مجهوداً وخطوات متتالية. 2- التشابه بين التاريخ وسر الملكوت: يُعلّم يسوع بأمثال لوجود علاقة وتشابه بين الدنيا والتاريخ من ناحية وبين سر الملكوت من ناحية أخرى. وهنا يجب أن تحذر الخطأ الذي يقع فيه آخرون؛ وهو جمود تصورهم لملكوت الله. إنهم يعتقدون أن الحقائق الإلهية تجعل الإنسان يغترب عن حقائق الدنيا: إرادة الله وسره وكلمته هي حقائق متسامية جداً ولا يمكن تشبيهها أو مقارنتها بأشياء بشرية. إنه نوع من التروحن المبالغ فيه، إنه لا يستطيع أن يقبل وجود علاقة بين الأشياء الأرضية وملكوت الله. يرتبط جوهر تعاليم الكتاب المقدس وأساس حياة الكنيسة بوجود علاقة بين العالم والتاريخ من ناحية وبين سر الملكوت من ناحية أخرى. بهذه الطريقة يمكن التأمل في الزرع وسر نموه ومقارنة ذلك بنمو ملكوت الله. من يستطيع الربط بين حقائق هذه الدنيا وسر ملكوت الله فإنه يثبت وحدة خطة الله في الخلق، كما أنه يثبت، بذات الفعل، العلاقة بين خطته تعالى في الخلق وفي الفداء. لذلك استطاع حزقيال النبي أن يقارن بين الطفلة المتروكة على قارعة الطريق، والتي يلتقطها المار (حز16) بتصرف الله مع شعبه، لأن هناك وحدة في مشاعر وتصرفات الإنسان في الحياة وسر الله. لذلك يعلمنا "المثل" أن المرء من خلال أشياء بشرية، يستطيع أن يعرف شيئاً عن سر الله. لهذا السبب لا يمكننا أن نخلق "أمثالاً" بسهولة. فالأمثال التي رواها يسوع، ونقلها الكاتب الملهم (الذي يعرف الله) توضح كيف أن يسوع المسيح يعرف أسرار الملكوت وعندما يقول لنا: "يشبه ملكوت السموات، فإنه يهبنا عطية كبيرة بكشفه لنا عن بعض جوانب هذا الملكوت. لماذا لا نتجرأ نحن على صياغة مثل أو كشف ملكوت الله؟ إننا لا نستطيع ذلك لأن خبرتنا بالله قليلة، فإن حاولنا أن نقول أمثالاً فإننا سنقدم ذواتنا وفكرنا الشخصي وتصوراتنا عن الله!. 3- الحديث عن تاريخ الله: يمكن الحديث عن أعمال الله لكن قد يبدو غريباً أن نتكلم عن تاريخ الله: ومع ذلك فلله تاريخ. لا تقبل الديانات الطبيعية هذا الأمر، إذ تعتبر الله متسامياً ومتعالياً عن كل شيء، لا يمكن الاقتراب منه، إنه لا يُرى. أما الوحي المسيحي فيعلمنا أن الله شخص، وبطريقة خاصة، فإن له تاريخ. يمكن الكلام مثلاً عن تاريخ الثالوث. ولكن كيف يمكن أن يكون الثالوث الأزلي تاريخ؟ ذلك لأن الثالوث يُعبّر عن نفسه ويقدم ذاته ويشارك... لهذا يمكن الحديث عن شؤون الله بالحديث عن شؤون البشر. ينطلق مثل الأب الرحيم (لو11:15-32) من حنان آب تجاه ابنه المفقود، الذي يعود محطماً، ليخبرنا عن الله الذي يقبل الإنسان ويرحمه. كيف يمكن معرفة هذه الحقيقة بدون الكلام عن تاريخ الله؟ 4- اختلاف حقائق العالم عن سر الملكوت: لأن هناك مسافات بين تاريخ العالم وسر الملكوت إنهما حقيقتان مختلفتان وهناك تشابه وعلاقة بين تاريخ العالم وسر الملكوت، ومع ذلك هناك اختلافاً ومسافة. في هذا الاختلاف وعليه يتحرك "المثل"، غالباً. ويظل مثل صاحب الكرم- الذي يبحث عن فعلة ويرسل عمالاً لكرمه في ساعات مختلفة وفي نهاية اليوم يعطي أجراً واحداً للجميع- ويوضحلنا أن الأمور في ملكوت السموات تختلف عن أمور العالم. هناك تبريرات لتصرف صاحب الكرم، إلا أنه ما لم يدخل الإنسان، ويتعمق في سر الملكوت، فإنه لن يقبل هذه التبريرات. بذلك يُعلمنا يسوع أن سر الآب كبير جداً ومجاني، ولذلك لا يوجد فرق في عطيته وهبته، وبالتالي فإننا عبيد بطالون. تدخلنا هذه الأمثال، بطريقة ما، إلى فهم بعض مظاهر سر الملكوت. فعندما يعطي الزرع. مائة ضعف، فإن الحديث متعلق بسر الملكوت وليس بتاريخ العالم، لأن هذه النسبة مائة ضعف عالية جداً وغريبة على العالم، إنه لا يعرفها ولم يختبرها. إذن يمكننا اكتشاف سر الله بتأمل العالم وعندما يُريد أن يكشف لنا هو ذلك. 5- الاختلاف بين سر الله وسر الإنسان والعالم: لأن يسوع هو الوسيط الوحيد بيننا وبين الآب فهو يعرف جيداً سر الله، لأنه الله، وسر الإنسان لأنه تجسّد وتاريخ العالم لأنه إنسان. وباستخدامه "للأمثال" يقبض يسوع "الكلمة المتجسد" على الإنسان ويدخله في سر الله رابطاً سر الإنسان وسر الله في وحدة شخصه وأقنومه. |
|