رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
شخصيات رائدة في الكنيسة في القرن السابع لمجموعة الثانية من تلاميذ الأب القديس أنبا يؤانس إيغومانس برية شيهيت: وهي المجموعة التي تضم بعض الأساقفة الذين اختيروا من البرية ليعتلوا المناصب الأسقفية في المدن. وقد كان الأساقفة والبطاركة سابقاً يُختارون من النابغين في سيرة القداسة، والنابهين في العلم اللاهوتي من الكهنة أو الشمامسة ورؤساء الشمامسة، وقلَّما كانوا يُختارون من طغمة الرهبان. وابتداءً من القرن السابع وبعد الغزو العربي لمصر، بُدئ في عادة اقتصار اختيار الأساقفة والبطاركة من المتوحدين بالبراري بعد أن كانوا يُختارون من العلماء أو الخدَّام الكهنة المتبتلين في الإسكندرية؛ هذا الاتجاه الذي تسرَّب إلى الكنيسة رويداً رويداً مع تضاؤل الدور الكنسي للمدرسة اللاهوتية بالإسكندرية ابتداءً من هذا العصر، ثم اضمحلال هذه المؤسسة العلمية بعد ذلك، مما ألجأ علماءها إلى الهروب إلى البراري مع اشتداد اضطهاد الغزاة الجُدُد للإكليروس والعلماء. وقد تأذَّت الرهبنة أول مَن تأذت من هذا الوضع، كما تأذت الكنيسة في المدينة جداً، لأن الظروف المتدهورة للأديرة التي أحاطت بالرهبنة منذ القرن الحادي عشر جعلت من العسير العثور على رؤساء أكفاء في الأديرة، بينما خلت المدينة من طغمة العلماء والخدَّام الكنسيين للسبب عينه. أما الرهبنة فقد تسرَّب إليها على المدى الطويل، رويداً رويداً، نفوس ضعيفة طلبت الرهبنة كجسر للكهنوتية، وعلى الأخص بعدما تسربت المفاهيم العلمانية إلى معنى الكهنوت من مجد وتسلُّط وجاه، فصار الكهنوت مشتهى لذوي هذه النفوس الضعيفة. على أن المجموعة التي نشأت في القرن السابع في أحضان الرهبنة الصحيحة قد نجت من هذا المصير لكِلاَ الرهبنة والخدمة، والذي ظهر في الأجيال اللاحقة. فقد كان من أبرز أعضائها شخصيات رائدة أفادت الرهبنة والخدمة معاً. ومن بين هؤلاء هذه الأسماء التي ذكرها كتاب "تاريخ البطاركة" وغيره من المدوَّنات التاريخية القديمة: 1 - أنبا زكريا أسقف صا (أو سايس): وقد جاء إلى برية شيهيت في نفس الزمن الذي جاء فيه القديسان إبراهيم وجَوَرْجي في منتصف القرن السابع. وكل ما يعرفه التاريخ الكنسي حتى الآن عن هذا الأسقف، هو أنه كان ابن كاهن اسمه يؤانس، إلاَّ أنه بجانب خدمته الكهنوتية كان كاتباً في ديوان الوالي أيضاً. وقد ترهب ابنه في برية شيهيت تحت أُبوَّة القديس يؤانس إيغومانس شيهيت، وهناك تتلمذ أيضاً على يد القديسَيْن أنبا أبرآم (أو إبراهيم) وأنبا جورجي الناسكَيْن اللذين ملأ عبير قداستهما أرجاء الوادي. ولا يُعرف كم من السنين قضاها زكريا في البرية. ولكنه صار على رأس دير أنبا مقار، واتخذ اللقب الذي يُعطى لرؤساء برية أنبا مقار "كاهن وقمص (أي إيغومانس أو مُدبِّر) الدير المقدس الذي لأبينا أنبا مقار". وقام ببناء القلاية الكبرى (أي قلاية الأب الكبير والتي يُحيطها قلالي تلاميذه) المسمَّاة "دير أنبا زكريا"، وهو الدير الذي يضم أكبر مجموعة مساكن (وبالقبطي "مانشوبي") في برية أنبا مقار في ذلك الوقت. ويُعتقد أن زكريا أخذ لقب "إيغومانس" عند نياحة أنبا يؤانس سنة 675م. وفي عهد البابا يوحنا الثالث (677-684م) صار أسقفاً على مدينة "صا" أو "سايس" (وهي الآن "صا الحجر" - مركز بسيون بمحافظة الغربية). لكنه لم يبقَ كثيراً من الزمن في "صا"، إذ دهمه مرض عضال، فرجع إلى برية شيهيت حيث قام بتمريضه "إسحق" ابنه الروحي. فلما دنت وفاته، جمع أولاده وباركهم وتنبَّأ عن مستقبل "إسحق" أنه سيصير بطريركاً خلفاً للبابا يوحنا الثالث. ودُفن في شيهيت حيث ظلت ذكراه والمعجزات التي صنعها في حياته يتردد صداها في شيهيت على مدى السنين. وكانت سنة وفاته 684م، وهي نفس السنة التي تنيح فيها البطريرك يوحنا الثالث، والذي خلفه "إسحق" تلميذ أنبا زكريا. 2 - أنبا إسحق: وُلد إسحق (أو إيساك) في ضاحية بجانب الإسكندرية. وتعلَّم إيساك العلوم والفنون والآداب في مدرسة الضاحية، وتضلَّع في فن الكتابة (وكانت على هيئة النَّسْخ. وللنسخ فنونه وأساليبه المتميزة ما جعل للمتخصصين فيه مركزاً هاماً في دور الولاية وفي نشر المعرفة والفلسفة، وكان يلجأ إليهم إما الحُكَّام والولاة أو الأغنياء وذوو اليُسْر). لذلك سلَّمه والده إلى كاتب الوالي البيزنطي آنذاك، وكان يُسمَّى جورجيوس. وحدث أن طلب الوالي كاتبه جورجيوس فلم يجده، ولم يجد بُدًّا من الاستعانة بإسحق تلميذه، فلما أنجز المهمة بإتقان، عيَّنه الوالي رئيساً لجميع كتبة دار الولاية. وقد فرح والدا إسحق بهذه الترقية ورغبا في تزويجه، ولكنه كان يمتنع عن السير في هذا الأمر، ثم أعلمهما أنه يريد أن يعيش راهباً. وكانت الرهبنة في القرنين السادس والسابع قد امتلأت بأعاظم الآباء والشيوخ القديسين المحنَّكين، وتزايد عدد الرهبان وفاح عبير حياتهم ونسكهم في كل القرى والمدن والعواصم، وكان الكثيرون من أهل هذه البلاد يُمارسون النسك على مثال هؤلاء الرهبان. وكان إسحق يتردد على برية أنبا مقاريوس التي كان يُدبِّرها آنذاك أنبا زكريا الذي نال فيما بعد كرامة الأسقفية لمدينة صا الحجر، كما ذكرنا سابقاً. وكان بالرغم من منصبه المرموق في دار الولاية وسكناه وإقامته فيها، يُمارس النسك كما تعلَّمه على أيدي الرهبان. ولما اشتدَّ ضغط أبويه عليه في الزواج - كعادة أهل الريف قديماً وحديثاً في الإسراع بتزويج أبنائهم وبناتهم فور بلوغهم سن النُّضج - هرب دون علم والديه من دار الولاية إلى شيهيت وتتلمذ على أنبا زكريا. ولما خشي زكريا أن يكتشف أبواه مكانه ويُجبراه - بسلطان الوالي - على العودة، أرسله مع أب ناسك يُدعى إبراهيم إلى جبل "باماهو" (في إقليم الجيزة) كي لا يعثر عليه أبواه، وبقيا هناك 6 أشهر، ثم عاد فأرسله من هناك إلى ناسك في ضواحي الإسكندرية على صلة بوالدَي إسحق ليُخبرهما بالأمر. فاتصل هذا الناسك بقريب لإسحق شماس اسمه فيلوثيئوس، واتصل هذا بوالدَي إسحق وأقنعهما بقبول تقدمة إسحق لله، فهدآ وامتلأت نفساهما بالتسليم والغبطة. وعاد إسحق إلى شيهيت مرة أخرى واستأنف حياة النسك. فكان يسهر الليالي مُصلياً، وفي النهار يخدم الإخوة في الدياكونية، يوقِد المواقد ويعدُّ المائدة، وينظف دور المياه وينزحها. ومن هذه القصة التالية نعرف مدى رقة إسحق وسمو إحساسه بالطبيعة والجمال، إذ حدث أن خرج ذات يوم مع بعض أقرانه النساك ليجمعوا قليلاً من الحطب الضروري للطهي. فبعد أن جمعوا ما يريدون واتجهوا عائدين إلى مقر الدياكونية، تأخر إسحق عنهم ليجمع بعض الزهور ذات الرائحة الزكية، وبينما هو يمدُّ يده ليقطف هذه الزهور إذ بثعبان ينقضّ ويمسك بذراعه، فذُعر الإخوة وصرخوا، ولكنه نفض الثعبان عنه ورسم ذراعه بعلامة الصليب، وأكمل عمله وعاد إلى مقر الدياكونية مع الإخوة. ومن تفاني الناسك إسحق في خدمة إخوته دُعي بأجمل الأسماء: "ابن المجمع". وحدث أن الأب الوقور البابا يؤانس الثالث كان يريد راهباً يتخذه كاتباً له، أو بلغة العصر "سكرتيراً"، فأشار عليه بعض المؤمنين بأن يُرسل في طلب الراهب إسحق، فأرسل في طلبه. فذهب إسحق إلى هناك كعادة أهل البرية في الطاعة للرؤساء حين استدعائهم للخدمة، لكنه كان مغموماً غمًّا شديداً بسبب تركه للبرية. وأخيراً اتفق مع البطريرك على أن يخدم معه شهراً واحداً في السنة يساعد فيه البطريرك في كتابة الرسالة الفصحية السنوية التي تعوَّد بابوات الإسكندرية على كتابتها في مستهل الصوم الكبير، ثم يعود إلى ديره ليقضي بقية السنة في الدير، وكان ذلك قبل أن يُرسم معلِّمه أسقفاً على "صا". وقد اعتاد إسحق عندما يحين موسم الصوم الكبير أن يعتكف في قلاية نائية عن الدير ليمضي الصوم في توحُّد كامل. ولم يكن يزوره في قلايته إلاَّ القديسان إبراهيم (أو أبرآم) وجورجي اللذان كانا يتعجَّبان وينتفعان من نسكه، إذ لم يكن يوجد في قلايته إلاَّ الخبز والملح!! وبعد أن رُسم الأنبا زكريا مدبِّر برية شيهيت أسقفاً على صا، وأصيب بمرض شديد؛ رجع إلى البرية ليستشفي ويسترد صحته، أو ليستعدَّ للانطلاق. فلحق به إسحق ليخدمه ويطببه، بعد أن سمح له البطريرك بالعودة إلى برية شيهيت، وهناك خدم الأنبا زكريا خدمة الابن البار لأبيه الحبيب. وحين دنت ساعة انتقال الأنبا زكريا إلى بيعة الأبكار، جمع الرهبان حوله وأخذ يحثهم على التمسُّك بالمحبة التي هي رباط الكمال. وبعد أن أكمل الأنبا زكريا وصيته لأبنائه الرهبان، استودع روحه بين يدي الآب السماوي. فأقام الإخوة الصلوات الطقسية عليه، ثم قرَّ رأيهم على انتخاب إسحق خليفة له على تدبير البرية. على أن أيام رياسته لم تَدُم غير بضعة شهور، لأن الأنبا يؤانس الثالث البطريرك كانت أيامه قد قاربت على الانتهاء، فأرسل إلى البرية يطلب إسحق للحضور ليستبقيه إلى جانبه، فأطاع من غير تردُّد. وكان البابا البطريرك قد أُعلم بالروح أن الذي سيخلفه هو إسحق. أما سيرة حبرية إسحق، فهذا ما سنورده حينما نستأنف تكملة سيرة الآباء البطاركة بعد قليل. 3 - تلاميذ آخرون: ومن بين التلاميذ الكثيرين للأنبا يؤانس إيغومانس شيهيت الذين أُعطوا الكراسي الأسقفية، أنبا مينا أسقف تميّ الذي عاش إلى عمر الـ 95 عاماً، وتنيح سنة 768م في 7 هاتور (3 نوفمبر). وكذلك أنبا ميخائيل الأول الذي رُسم عام 744م. وكذلك أنبا يؤانس أسقف نقيوس، أو يوحنا النقيوسي المؤرخ الكنسي المشهور الذي شاهد عياناً كُلاًّ من الغزو الفارسي والغزو العربي لمصر ووصفهما بدقة متناهية، وإن كان جزء كبير من كتابه قد فُقِد. وهذا ما سنعرضه في مقال مستقل. ومن بين تلاميذ القديس أنبا يؤانس إيغومانس شيهيت، الأنبا زكريا أسقف سخا، وكان مؤلِّفاً كنسياً ممتازاً؛ وكذلك رفيقه بطليموس الذي رُسم على منوف. تحية وتكريماً من بعد مئات السنين إلى شخصية القديس يؤانس إيغومانس البرية الذي تلمذ للرهبنة وللكنيسة المئات والمئات مِمَّن أناروا كنيسة الله في جيلهم وفي الأجيال اللاحقة. بركة صلواتهم جميعاً تكون معنا. آمين. |
|