القرى
كانت "القرية" في العهد القديم مجرد مستوطنة زراعية غير مسوَّرة. وقد نشأت القرى قرب الجداول أو الينابيع التي توفر الماء على مدار السنة. فحالما دُجِنت بعض الحيوانات وبدأ الناس يزرعون ويحصدون ما يقتاتون به، أخذوا يميلون إلى الاستقرار في موضعٍ واحد بدلاً من الترحال. ومنذ آلاف السنين قبل المسيح كان الناس في أريحا يفلحون ويستعملون المعاول والفؤوس والمجارف. في ذلك الزمان لم تكن بعدُ مدنٌ بل قُرى وحسب.
ومن الممكن أن تكون المدن (المستوطنات الكبيرة) قد واكبت اختراع شفرة المحراث البرونزية (خلال الألف الرابع ق م) لما زاد إنتاج الغلال. وقد دعت الحاجة إلى قيام المدن (القرى المحصنة) من جرّاء الصراع بين المستوطِنين والبدو الذين نازعوهم على موارد الماء. وهكذا أُنشئت المدن كمراكز حضارية كبرى وحصينة (راجع المدن). وكان الناس في زمان السِّلم يعيشون في القرى، ولكنْ حين يتهددهم خطر الغزو يلجأون إلى حِمى المدينة. خلال أشهر الصيف كان الأهالي أيضاً يغادرون المدن إلى القرى ليشتغلوا في الحقول.
مِلكيَّة الأرض:
عاش إبراهيم وأُسرته حياةً بدوية جزئياً وحضرية جزئياً. فقد تنقلوا مع مواشيهم، إلا أنهم اشتغلوا بالفلاحة والزراعة. وفي بلاد ما بين النهرين التي هي مسقط رأس إبراهيم، وُجِد نظامٌ "إقطاعيٌ" لتحصيص الأرض. إذ كان الملك يمنح المواطنين "إقطاعاتٍ" من الأرض لقاء تعهُدٍ بالخدمة الشخصية، وكانت الأراضي تؤول إلى الأبناء من الآباء. وعندما دخل العبرانيون أرض كنعان، استمرت هذه الفكرة ولكن في شكلٍ جديد. فإن الله هو مَلِكُهم، وهو معطيهم الأرض. وقد نالت كل أُسرة حصتها من الأرض بالقرعة (يشوع 15)، مثلما كانت الإقطاعات توزع بالقرعة في بلاد ما بين النهرين.
ولما كانت الأرض لله، فقد أوصى الشعب بأن يستعملوها أحسن استعمال ويتشاركوا في خيراتها. وقد أُعطيت كل أسرة حصةً من الأرض، والظاهر أنها صارت تضمُ مدفن الأسرة فضلاً عن كونها حقلاً للزرع. وأرضُ كلِّ إنسانٍ هي ميراثٌ له من عند الرب (أشعياء 34: 17)، فينبغي ألا تُشترى وتُباع كيفما اتفق. (لهذا لم يشأ نابوت أن يبيع كرمه للملك أخآب- 1 ملوك 21: 1- 16). وإذا تعسرت أحوال أسرةٍ ما، يكون من واجب أدنى قريبٍ لها أن يشتري أرضها فتبقى مِلْك العشيرة. وعلى حدِّ علمنا أن أملاك العائلة كانت تؤول إلى الابن البكر، ولذلك كان مهماً جداً أن يرزق الأب ابناً يحمل اسم الأُسرة وتؤول إليه أملاكها. وكل خمسين سنة كانت الأخيرةُ فيها سنة يوبيلٍ يجب فيها أن تُرد إلى الأسرة أية قطعة أرضٍ رُهِنت للوفاء بدين. وكان من شأن هذا أن يُبقي الجميع على مستوىً واحد ويستبعد التمييز الكلي بين مالكي الأرض الأغنياء والفلاحين الفقراء، كما أنه شدد على أهمية المحافظة على أملاك الأسرة.
فالأراضي المحيطة بالقرى مباشرةً كانت بالتالي أملاكاً خاصة. أما تلك البعيدة عن محيط القرية فكانت تُعتبر مشاعاً. وكانت تُقسم إلى حصصٍ تُوزع بالقُرعة على الأسرة كل سنة. وقد بدأت المساواة القديمة تنهار في ظل حكم الملوك ولا سيما داود وسليمان. فنشأت طبقة جديدة ثرية من الرؤساء وموظفي الدولة الكبار. هؤلاء جاروا على الفقراء واشتروا الأراضي. فحلت المزارع الكبيرة محل حقول الأسرة الصغيرة. والذين فقدوا أراضيهم اضطُرُّوا إلى العمل كفلاحين. فإذا الفقراء مُدِقعو الفقر ويعانون صعوبات جمة. وقد رفع الأنبياء الصوت مندِّدين بهذا الواقع (أشعياء 5: 8؛ ميخا 2: 2).
وأدى التغيير في ملكية الأراضي إلى تغيير في المساكن. ففي القرن العاشر ق م، كانت البيوت في المدينة أو القرية كلُّها متساوية الحجم، ولكن في أوائل القرن الثامن أصبحت بعض البيوت أكبر وأفضل وتجمعت في ناحية خاصة من البلدة.
العمل اليومي:
في أوائل أزمنة العهد القديم كان كلُّ واحدٍ في القرية، على وجه التقريب، فلاحاً يزرع ما هو ضروريٌّ للقوت (راجع الزراعة). وكان الناس يقتنون الغنم والمعزى والماشية التي توفِّر طعاماً للأسرة- وسماداً للحقول.
وقد حددت الفصول نمط العمل في السنة. ففصل المطر (من تشرين الأول/ أُكتوبر إلى نيسان/ أبريل) كان للحراثة والبذار باليد من سلة مفتوحة، وتعشيب الحقول وتمهيدها. ثم يبدأ موسم الحصاد، الكتان أولاً ثم الشعير (نيسان وأيار/ أبريل ومايو) ثم الحنطة. وكان العمل في الكروم بيدأ في الربيع بتشذيب الكرمة. وعندما ترسل الكرمة أغصانها، يجب أن تُرفع على مساميك. وما بين تموز وتشرين الأول (يوليو واكتوبر) يصير العنب جاهزاً للقطاف. وكان معظم الناس يملكون أيضاً تيناً وزيتوناً. وينضج التين فيُقطف بصورة رئيسية بين آب وأيلول (أوغسطس وسبتمبر). أما قطاف الزيتون فهو الأخير، أي في تشرين الأول وتشرين الثاني (أكتوبر ونوفمبر) بعد الانتهاء من موسم العنب.
وكانت النساء يخبزن كل يوم. وقبل ذلك طحنُ الحنطة المُضني. ثم يُمزج الطحين الخشن بالملح والماء ويُعجن. وعادةً، كانت المرأة تدسُّ في العجين قبل الخَبْز.
وكان استقاء الماء من نبعٍ أو بئر على مقربة من القرية عملاً يومياً آخر لا بد منه. فإن بيوتاً قليلة فقط كان لها بئرٌ خاصة أو صهريج تخزن فيه الماء تحت الأرض. وكانت النساء يحملنَ جرار الماء الثقيلة على رؤوسهن أو أكتافهن. ودائماً، كان العمل اليومي كثيراً من الفجر إلى الغسق. فربما كان واجباً ترويب الحليب أو تجبينه، أو غزل الصوف أو حوكه. ولم يكن العمل في الحقول من نصيب الرجل وحده. فجميع أفراد الأسرة لهم دورٌ في الحصاد والقطاف وعصر العنب والزيتون. وكان نهار العمل ينتهي عند الغروب، وعندئذٍ تجتمع الأسرة كلُّها لتناول وجبة الطعام الرئيسية.
التقدُّم والمشكلات:
قلما تغيرت حياة القرية على مر العصور. تحسنت المحاريث وبعض الأدوات الأخرى. ولكن حتى في عصر العهد الجديد ظلت الأدوات الزراعية بدائية، فلم يكن مستطاعاً شقُّ أكثر من تلمٍ واحدٍ بسكة المحراث كل مرة. ومع مرور الزمن حصل مزيدٌ من التخصص في المزارع الكُبرى. فوُجِد عمال مختصون بتشذيب الكرمة أو سوق الفدادين أو الفلاحة. أما الفعلة "غير المَهَرة" فكانوا يعشِّبون الحقول ويوزِّعون السماد ويقومون بكثيرٍ من المُهِمات الأخرى.
وقد ظلت المشكلات الرئيسية هي إياها. وكان الماء هو الهم الأول في بلدٍ جافٍّ لا تمطر فيه ثلاثة أشهر أو أربعةً خلال الصيف. فبئر البلدة تمدّ الأهالي وحيواناتهم بماء الشرب والحقول بماء الري. وكانت النواعير ذات الأوعية الخلدية المتصلة تُستعمل أحياناً لرفع الماء إلى سطح الأرض وإجرائها في سواقٍ للري عبر الحقول.
وشكل الجراد مشكلة أخرى. فكان ممكناً أن تأتي جحافله دون سابق إنذار فتأكل كل ورقة خضراء. وكان ممكناً أن تهاجم الحيوانات المفترسة المواشي وتقتلها، إذ كثرت الذئاب وبنات آوى والضباع والأُسود.
تُضاف مشكلة إنسانية أُخرى أقضت مضاجع أهل القُرى. فكم مرةٍ هاجمتِ الجيوش الغازية أو عبرتِ القُرى فساقت الأسرى وطوعت الشبان. وإذا كان زحف الغزاة في أواخر الشتاء، أُتلِفت المزروعات الطرية. أما إذا كان كان ذلك في موسم الحصاد، فكانت الغلال تُنهَب أو تُستعمل لإطعام العسكر. وفي كلتا الحالتين كانت القرى تتعرض للمجاعة.