29 - 01 - 2013, 09:03 AM | رقم المشاركة : ( 20 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب مريم العذراء للمطران كيرلس سليم بسترس
د) قداسة مريم العذراء في التصميم الإلهي وتاريخ الخلاص نودّ، في ختام كلامنا على قداسة مريم العذراء، أن نتجاوز النقاش المحدود بين الكاثوليك والأرثوذكس حول عقيدة "الحبل بلا دنس"، لننظر إلى الموضوع في مجمل التصميم الإلهي وتاريخ الخلاص. في هذه النظرة نخرج من حدود لاهوت محورُ تفكيره "الخطيئة الأصليّة"، بحيث لا يرى في الفداء إلاّ عمل خلاص من تلك الخطيئة، ويعتبر هذا الفداء قد تمّ في لحظة من الزمن يوم الجمعة العظيمة، فيروح يتساءل: كيف يمكن للعذراء أن يتحقّق فيها الفداء قبل صليب المسيح؟ التصميم الإلهي للإنسان يقول القدّيس بولس: "في المسيح اختارنا الله عن محبّة من قبل إنشاء العالم، لنكون قدّيسين، وبغير عيب أمامه. وسبق فحدّد، على حسب مرضاته، أن نكون له أبناء بيسوع المسيح" (أف 1: 4- 5). تصميم الله هذا الذي يدعو بولس "سرّ مشيئته" (أف 1: 9)، أي الذي يعبّر عن إرادة الله الأزليّة، قد تحقّق في الزمن في المسيح الإنسان، في عمق كيانه، موجّه نحو الله. ولن يحقّق ذاته إلاّ بالقداسة أي بالاتّحاد بالله. وهذا ما تعنيه صورة التبّني، كما جاء في قول بولس: "أن نكون له أبناء"، مضيفًا: "بيسوع المسيح" الذي هو ابن الله منذ الأزل، "المولود قبل كل خلق، الذي فيه خُلق جميع ما في السماوات وما على الأرض... الذي به وإليه خُلق كل شيء" (كو 1: 15- 16). إنّ صورة الإنسان الكامل المخلّص نجدها في شخص ابن الله الأزلي. وهدف التجسّد هو ظهور مجد ابن الله، حسب قول السيّد المسيح في صلاته الأخيرة قبل موته: "فالآن، أيّها الآب، مجّدني أنت عندك بالمجد الذي كان لي لديك من قبل كون العالم" (يو 17: 5)، وذلك في سبيل اشتراك الناس في هذا المجد. هدف التجسّد هو تأليه الإنسان. وهذا معنى الخلاص الذي يذكره قانون الإيمان هدفًا للتجسّد: "الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد...". هدف الخلق والخلاص "أن يكون الله كلاًّ في الكل" (1 كور 15: 28). اختيار مريم العذراء مريم العذراء هي جزء من هذا التصميم الإلهي. إنّها الباب الذي به دخل المسيح العالم. وقد رأت الكنيسة في تحيّة الملاك لها "ممتلئة نعمة" إشارة إلى أنّ تصميم الله قد تحقّق أوّلاً فيها. وتأكيد التراث الشرقي أنّها "المرأة المنزّهة كحوّاء قبل الخطيئة"، وإعلان الكنيسة الكاثوليكيّة "عصمتها من الخطيئة الأصليّة"، اعتراف بأنّ الله غير مقيّد بخطيئة الإنسان. فالتجسّد ليس محاولة يائسة قرّرها الله بعد خطيئة الإنسان، إنّما هو تصميم الله الأزلي وتعبير عن فيض جوده. وقداسة مريم العذراء تندرج في إطار جود الله وتنسجم مع تصميمه الذي أرادنا به "أن نكون قدّيسين وبغير عيب أمامه" (أف 1: 4). إنّ الفداء لم يتحقّق لمريم قبل الصليب، بل باختيار الله لها لتكون أمًّا لابنه. فالاختيار والتقديس هما عند الله عمل واحد ويتحقّقان معًا. إنّ الله اختار مريم، كما يقول قانون المدايح، "صدفة صبغت من دمائها أرجوانًا إلهيًّا لملك الأكوان" (الأوذية الرابعة، 3)، وأعدّها طاهرة ليسكن في أحشائها" (نشيد المدايح، البيت 19). لقد اتّخذ السيّد المسيح من أمّه الطاهرة إنسانيّة طاهرة مقدّسة، الإنسانية الحقيقيّة الموافقة لإرادة الله منذ الأزل. أمّا بشأن الخطيئة الأصليّة، فإذا كان اللاهوت المعاصر لا يرى فيها خطيئة رجل واحد اسمه آدم وامرأة اسمها حوّاء، بل خطيئة كلّ إنسان منذ الإنسان الأوّل، فالقول إنّ مريم حُبل بها معصومة عن الخطيئة الأصليّة لا يعني سوى أنّ مريم العذراء قد ملأها الله بنعمته وقدّسها بحيث يمكن القول إنّها تمثّل صورة الإنسان كما يريده الله منذ الأزل. وهذا ما أعلنته الكنيسة منذ القرون الأولى في الشرق كما في الغرب. وملء النعمة الذي نالته مريم العذراء لا ينفي تجاوب حرّيتها مع دعوة الله. فالنعمة لا تزيل الحرية. وهذا ما يقوله نقولاوس كاباسيلاس، وهو للاهوتي بيزنطي من القرن الرابع عشر، في عظة له حول البشارة: "لم يكن التجسّد عمل الآب وكلمته وروحه فقط، ولكنّه أيضاً فعل إرادة العذراء وإيمانها. لولا موافقة الكلّية الطهارة ولولا مؤازرة إيمانها، لكان هذا التدبير مستحيلاً بقدر استحالته لو لم يتدخّل الله نفسه في أقانيمه الثلاثة. فابن الله لم يتّخذها أمًّا له ولم يتّخذ منها الجسد الذي قدّمته له إلاّ بعد أن أعدّها لذلك وحصل على قبولها. وكما تجسّد هو بملء إرادته هكذا أراد أن تلده أمّه بحرّية وبملء إرادتها". ما يقوله كاباسيلاس عن موقف مريم العذراء في حدث البشارة يصحّ أيضاً بالنسبة إلى كلّ أحداث حياتها: إنّها مختارة، ولكنّها أيضاً مؤمنة. والإيمان لا وجود له دون وعي الإرادة والتزام الحرّية: وهذا ما يجعلها قريبة منّا في مسيرة إيماننا. وفي هذا الإطار يمكننا أن نفهم تفسير بعض الآباء، من أمثال باسيليوس الكبير ويوحنّا الذهبيّ الفم وغريغوريوس النزينزي وكيرلّس الإسكندري، "للسيف الذي جاز في نفس العذراء"، حسب نبوءة سمعان الشيخ (لو 1: 35)، بأنّه الشكّ الذي تملّكها، عند قدمي الصليب، بألوهيّة ابنها. إنّ مريم قد جاهدت بإرادتها ونمت في الإيمان. ونعمة الله التي ملأتها وجدت فيها نفسًا مستعدّة وقلبًا منفتحًا، بحيث لم تقترف خطيئة وبقيت المنزّهة عن كل عيب والفائقة القداسة. |
|||
|