الشُهداء والمسيحية
بقلم المعلم الانطاكي الشماس
اسبيرو جبور
ما أَهميَّة الشُهداء في الكنيسة المسيحيَّة؟ الربُّ يسوعَ المسيح لهُ المجد، أَعلَمَ رُسُلَهُ بأَنَّ مصيرَهُم في العالم سيكونُ قاسياً لأَنَّهم سيتعرَّضونَ للإِهاناتِ والمحاكماتِ والموتِ من أَجلِه. ولَفتَ نظرَهم الى أَنَّهم لا يجوز أَن ينكُرهُ أَحدُهُم وإلَّا نكَرَهُ هوَ أَمامَ أَبيهِ السماوي.
الإِعتراف بربِّنا يسوعَ المسيح هو أَمرٌ حتميٌّ ومَن يَنكُر ربَّنا يسوع المسيح أَمامَ الصعوبات، أَمامَ الملوك وأَمامَ الولاة يتعرَّض لنكران ربِّنا يسوع لهُ أَمامَ أَبيهِ السماوي. كلامُ ربِّنا يسوع قاطع.
لا يرضى الرب بأَن يكونَ المسيحي إِنهزاميًّا وجَباناً. المطلوب من المسيحي أَن يكونَ بطلَاً يتقَدَّم الى منابرِ الإِستشهاد بِبَسالةٍ مُطلَقة وبِلا خوفٍ لأَنَّ الرُّوح القُدُس يَعضُدهُ ويُعطيه فَماً وحِكمةً فلا يستطيع المقاومونَ أَن ينتصروا عليهِ. يُؤدِّي شهادتَه أَمامَ الملوك والولاة والحُكام والسلاطين مُعترفاً بربِّه يسوعَ المسيح ولَو عُلِّقَت عُنقُهُ على المشنقة. فلا خوفٌ من الصواريخ ولا من المسَدَّسات ولا من المشنقة ولا من النار ولا من الحريق.
في العاشر من آب نُعيّد للقدِّيس الفرنسي لوران ( Lavrandios ) الَّذي شَواهُ أَعداءُ المسيح على النار. طلبَ من الأَعداء أَن يُقلِّبوه من جهةٍ الى جهة أَثناءَ شَيِّه. القدِّيس جاورجيوس العظيم أَلبَسوه قبقاباً مَحميًّا بالنار. القدِّيس كَرَلمبس (Charalampos ) كان إِبن 107 سنوات عندما أَكلوا جلدَهُ بأَظافرٍ من حديد. القدِّيس يعقوب المقَطَّع من العراق قُطِّع تقطيعاً.
خلال 40 سنة من الإِضطهاداتِ الجهنميَّة قطَّعَ الفُرسُ المسيحيِّين في أَمبراطوريَّتِهم تقطيعاً ولما سادَ السلام استطاعَ القدِّيس ماروثا أَن يحمِلَ كميَّةً كبيرة من عِظام القدِّيسين الى ما هو معروف اليوم بِدِيار بَكر وقد أُطلقَ عليها باليونانيَّة ”Martyropolis” أَي مدينة الشهداء لكَثرة ما فيها من عظامٍ للقدِّيسين.
وفي القرن العشرين نقرأ على الإِنترنت لائحة بِعدَد الشُهداء الأُرثوذكس، فيَتجاوز عددُهم ربَّما الخمسين مليوناً. في روسيا وبلغاريا ويوغسلافيا قُضِيَ على عشرات الملايِّين. في تركيا بلغَ العدد مليون و750 ألف أُرثوذكسي، مليون ونصف أَرمني، ومئة أَلف سرياني. فضلاً عن تهجير الأُرثوذكس والأَرمن والسريان وباقي المسيحيِّين من تركيا الكبرى أَي تركيا الحاليَّة.
الربُّ يسوعَ المسيح قال ” يا أُورشَليم يا أُورشَليم يا قاتلة الأَنبياء وراجمة المرسَلين اليها” . في الرسالة الى العبرانيِّين في الِإصحاح 11 نسمع كلام بولس عن الآباء القُدامى كيف رُجِموا وكيف وبحدِّ السف ماتوا.
كيفَ تحمَّلوا ذلك؟ بالإِيمان قهَروا كلَّ شيءٍ وانتَصروا على الصعوبات. القدِّيس استيفانوس أَوَّل الشمامسة، رُجِمَ رَجماً وهو أَوَّل الشُهَداء بعد المسيح. أَمَّا يعقوب ابن زبَدى أَخو يوحنَّا الإِنجيلي، فقُطِعَ رأسُه بالسيف. بطرس الرسول صُلِبَ ورأسُهُ مُنَكَّس الى أَسفل. بولس الرسول قُطِعَ رأسُه بالسَيف وهكذا دوالَيك.
الأَمبراطور الروماني نيرون إِضطَّهد المسيحيِّين إِضطِّهاداتٍ شنيعة. نقرأ كثيراً في أعمال الرسل عن اضطهادات الكنيسة. في شهرِ كانون الأَوَّل نُعيِّد لعددٍ كبير من الشهداء منهم شهداء نيقوديميا وأَطفال بيتَ لحم وجوارها. (كانت بيت لحم قريةً كما في الفصل السابع من إنجيل يوحنا).
نذكرُ ايضاً الأُسقف أَغناطيوس، والشهيد حبيب خشِّة الَّذي تحطَّمَ جسمُهُ تماماً، والشهيد الدكتور جوزف صايغ الَّذي قضى نَحبُهُ بالسلاح الناري، وهناكَ شُهَداءَ كثيرون لم يذكُرُهم التاريخ نفسُه.
القدِّيس بايسيوس من جبل آثوس مرَّ بالطائرة من فوقِ بلادِنا فإهتزَّ روحيًّا وقالَ في ذاتِهِ بالرُّوح، “كَم في هذه البلاد من الشهداء”.
أَحد مطارنة كورنثوس في العهد العثماني تعرَّضَ لخطرِ الشَيّ بالسِياخ، فتَدخل المؤمنون مع السلطات العثمانيَّة حتى تحوَّلت العقوبة من الشَيِّ الى الشنق.
بينَ الشُهداء هناكَ ايضاً شهيداتٍ كثيرات تعرَّضنَ لآلامٍ مُضنيَة. هؤلاء الشُهداء هُم الَّذينَ ثبَّتوا الإِيمان الأُرثوذكسي والإِيمان المسيحي بِصورةٍ عامَّة. على دمائهِم قامت الكنيسة عَملاقاً تاريخيًّا كبيراً. تفنَّنَ الشيطان في القضاء على المسيحيِّين كَشُهَداء ولكِنَّهُ فشَل، وبِدمائهم تقَدَّست الكنيسة.
في الفصل السابع من رؤيا يوحنا، نرى الشهداء في حُلَلٍ بيضاء لَدى العَرش السماوي ونرى مَن يقول ” هؤلاء الَّذينَ بيَّضوا حُللَهم بِدَمِ الحمل” والحَمل هو ربُّنا يسوع المسيح. إِنَّهم لدى العرش السماوي في المجد الأبدي، دخلوا السماء بدون حساب قبل الدينونَة العامة وانتصروا لدى العرش السماوي بحُلَلٍ بيضاء.
يسوع هو حملُ الله في العهد الجديد. مِراراً وتكراراً يُذكَر يسوع المسيح كحَمَل منذ الِإصحاح الأَوَّل في إِنجيلِ يوحنا “هو حمَلُ الله” على لِسان يوحنا المعمدان وفي آخر أَسفارِ العهد الجديد أَي في رُؤيا يوحنا ” هو الحملُ المذبوح قبل إِنشاءِ العالم” (الإصحاح 13) و” العرس” في الإِصحاحات الأَخيرة. عرسُ المسيح مع الكنيسة هو عرسُ الحَمَل.
يسوع حَمَلُ الله الحامل خطايا العالم، هو الخروف الفصحي. المسيح هو فِصحُنا. كان اليهود يذبحونَ خروفاً حَولياً عمُره سنة واحدة في عيد الفصح، أَمَّا نحن ففِصحُنا هو يسوعَ المسيح له المجد وهو الضحيَّة الكبرى.
يوحنا الإِنجيلي أَنبأَنا في إِنجيلهِ أَنَّ يسوع صُلِبَ يوم الجمعة، أَي في الزمان الَّذي كان اليهودَ فيه يذبحون الخروف الفصحي. فكان يسوع هو خروفُ الفصح الحقيقي بينما الخِراف هي رموزٌ لهذا الحَمَل أَي ربِّنا يسوع المسيح. إِنجيل يوحنا أَبانَ بوضوح أَنَّ جُنديًّا طعنَ جنبَ يسوع بِحَربةٍ، فكانَ يسوع الخروف الفصحي الحقيقي المطعون في جَنبِهِ على الصليب، نُحِرَ وذُبِح. الخِراف تُنحَر، ويسوع المسيح نُحِرَ أيضاً وكان خروفَنا الفصحي الحقيقي. وبما أَنَّ يسوعَ المسيح هو خروفَنا الفصحي المذبوح لأَجلِ خلاصِنا، فكلُّ مسيحيٍ هو ذبيحةً ليسوعَ المسيح. هو نفسُهُ يُقرِّب نفسه للآب ذبيحةً مُحرقةً، قُرباناً في يسوع المسيح بالرُّوحِ القُدُس الساكن فينا.
كلُّ مَن إعتمدَ وخُتِمَ بالميرون المقدَّس هو خروفٌ مقدَّسٌ لربِّنا يسوع المسيح ويحمل الإِستشهادَ في ذاتِه. المعموديَّة والميرون إِستشهاد. نحن نلبَسُ ثوبَ الإِستشهاد. ولذلك الجُبن والمسيحيَّة لا يجتمعان. الإِنهزامُ والمسيحيَّة لا يجتمعان. الخوفُ والمسيحيَّة لا يجتمعان.
المسيحيُّ بطلٌ روحيٌّ مستعدٌّ دوماً للموتِ من أَجلِ المسيح. لا يهرب من المعركة، لا ينهزم، لا يتضعضع، لا ينهار. وإِن ضَعُفَ خسِرَ الإِمتلاء من الرُّوح القُدُس. كيف احتَمَلَ الشُهداء العذابات المضنِيَة؟ هذا هو الرُّوح القُدُس الساكن فيهم هو الَّذي جعَلَهم يحتملونَ كلَّ هذه الآلام المضنيَة فكانوا في فرَحٍ وغِبطة. القدِّيس أَغناطيوس الأَنطاكي كتبَ الى أَهلِ روميَة يرجوهم أَن لا يتدخَّلوا لحُرمانِه من الإِستشهاد لأَنَّهُ كان يشعر بالنقص إِن لم يمُت شهيداً. كان في قلبِهِ شوقٌ حار الى أَن يموتَ بنيابِ الأُسود حِنطةً مُنَقَّاةً بنارِ يسوعَ المسيح.
هذا الشَوق الى الإِستشهاد كانت علامةً بارزةً في كنيسة القرون الأُولى وكان علامةً بارزةً في روسيا في القرن العشرين حين قدَّمت عشرات الملايين من الشهداء. بدِمائهم الطاهرة انتَعَشَ الإِيمان الأُرثوذكسي في روسيا وانتصَرت الكنيسة على الشياطين. وسيبقى الشهداء عُمدَتنا للنصر على الشياطين.
فإِذا كانَ رئيس جبل آثوس باييسيوس قد إهتزَّ بالرُّوح وشعرَ أَنَّ بلادَنا هي بلادُ الشُهداء، فأَجدادُنا الشُهداء هُم الَّذين يحمونَنا في إِيمانِنا الأُرثوذكسي القَويم، هُم الَّذينَ يحرسونَنا كملائكةٍ.
كيفَ استَمَرَّ الكرسي الإِنطاكي عبر التاريخ رافع الرأس رُغمَ كل الظروف؟ بِفضلِ دماء الشهداء. آباؤنا وأَجدادُنا الَّذينَ حافظوا على الِإيمان الأُرثوذكسي في هذا الشرق، إِنتَقلوا الى النعيم الأَبَدي. هم مفخُرتُنا إِن كُنَّا نعلم بهم أَو لا نعلم. عدَدُهم كبير وهُم الآن لدى العرش السماوي في المجد الأَبدي عند الله له المجد.
ونحنُ في هذا المشرق المدبوغ بدِماء الشهداء، علينا أَن نشعُر دائماً بأَنَّنا أَبناء الشهداء، بأَنَّنا سَليلو الشُهداء فنَرفَع رأَسَنا الى فوق بَدَل من حَني ظهورِنا الى أَسفل. أَجدادُنا الَّذينَ حمَوا الإِيمان الأُرثوذكسي بدِمائهم، بصبرِهِم، بِطول أناتِهم، ترَكوا لنا هذه الجوهرَة العظيمة جداً. هذه الجوهَرة معلَّقة في رِقابنِا كأَمانةٍ للتاريخ، كأَمانةٍ لأَلفَي سنة من النِضال والصَبر الجميل وللمحافظة على الإِيمان الأُرثوذكسي القويم.
والكنيسة الأُرثوذكسيَّة تُفاخِر بالشُهداء. في كلِّ قرنٍ كان لنا شُهداء. ففي القرن التاسع عشر، كان هناك الشهداء في دمشق في العام 1860 الى جانب الشهيد القدِّيس يوسف مهنا الحداد الَّذي نُعيِّدُ لهُ في 10 تموز والى جانبه شُهداء اختَلف المؤرِّخون في تحديد الرقم. مصادرُ الأَب توما بيطار تقول ثلاثة آلاف، الطبيب البروتستانتي المعاصر ميخاييل ممشقة يرفَع الرقم الى اربعة آلاف. مؤرخٌ آخر إِسمهُ اسكندر أبكاريوس يجعل الرقم 14 الف مع تفاصيلٍ عديدة عن كيفيَّة القضاء على الأُرثوذكسيِّين في تلك المحنة التي شنَّها عليهم الإِستعمار من قِبَل والي دمشق التركي والمتآمرين على ربِّنا يسوع المسيح.
ما خَلَت الكنيسة من الشهداء في أَيِّ جيلٍ من الأَجيال. بمراجعة الأَب توما بيطار وسنكسار الأَب الآثوسي مكاريوس بالفرنسيَّة واليونانيَّة، نستطيع أَن نكتشف عدداً هاماً من الشُهداء في الكنيسة الأُرثوذكسيَّة. والإِحصاء هو غيرُ نهائي ولا يمكن أَن يكونَ نهائيًّا لأَنَّ المجهولين كُثُر. في الماضي لم يكُن من أَرشيفٍ ولا تاريخٍ، ولكن التاريخ الحقيقي هو في السماء. في جميع الأَحوال، نعرفُ أَكيداً أَنَّ لدينا في السماء عشرات الملايين من الشُهداء الأُرثوذكس الَّذين يشفعون فينا لدى الثالوث القدُّوس. هذا فخرٌ عظيمٌ. الى جانب الملائكة، هناك الشُهداء والقدِّيسون وكلُّهم حُماةٌ حارُّون للإِيمان الأُرثوذكسي لدى الأُرثوذكس على الأرض.
في التعليم الأُرثوذكسي الحقيقي لا نُفرِّق بين القدِّيسين في السماء وبين المؤمنين على الأرض. في إِحدى الترنيمات بالَّلحن الأَوَّل نقول “صِرنا والملائكة رعيَّةً واحدة”. فنحنُ والملائكة والقدِّيسون كنيسةٌ واحدة مترابطون، متكاتفون، متضامنون، متَّحدون في جسد ربَّنا يسوع المسيح بالرُّوحِ القُدُس الساكن فيهم وفينا. هذا الرُّوح القُدُس بِحَسَب رسالةِ القدِّيس بولس الثانية الى ثيموتاوس الفصل الأَوَّل الآية 14 هو الَّذي يحفظ الإِيمان الأُرثوذكسي، هو الساكنُ فينا وهو الَّذي يحفظ الإِيمان وهو الَّذي يحفظ وديعة بولس الرسول الى الأَبد.
“لا تَخَف أَيُّها القطيع الصغير”، هكذا قال يسوع لأَنَّ أَباكُم ارتضى أَن يُعطيَكم الملكوت. فإِذاً، على الأُرثوذكس أَن يرفَعوا رؤؤسَهم الى العلاء كما طلبَ يسوع من تلاميذهِ. لا تَخَف أَيُّها القطيع الصغير قد اقتربَ فداؤكَ ونحن مَفدِيُّو يسوعَ المسيح الَّذي ماتَ من أَجلِنا ليجعلَنا لذاتِه رعيَّةً مختارةً ممتلئةً من الرُّوحِ القُدُس.
فللآبِ والإِبنِ والرُّوحِ القُدُس،
المجدُ والكرامة والسجود الى أَبَدِ الآبدين
ودهر الداهرين آمين.
الداهرين آمين.