مشيئة الله وحرية الإنسان واختياره
[ وأما الرب فهو الروح وحيث روح الرب هناك حرية ] (2كو 3 : 17)
السؤال الدائم الذي يشغل فكر كل واحد فينا هو : هل أنــــــــــــا حُرّ !!! ومُخير فعلاً، والا مُسير ومُقيد !!!
وان كنت أنا حرّ ومُخير، فما علاقة حريتي بمشيئة الله وتدبيره، وهل تدبير الله السابق قبل الأزمنة يتعارض مع حريتي الشخصية وبالتالي اختياري، لأنه ينبغي أن تتم مشيئة الله الحتمية والتي سبق وأعدها وفي الزمان يحققها بدقة وترتيب !!!
عموماً هُناك أسئلة كثيرة تتعلق بذهن الإنسان ويحتار جداً في الإجابة عليها ويتشتت بين الأفكار التي تروج بين الناس، والتي معظمها يكون متضارب لأن لكل إنسان نظرته الفلسفية الخاصة التي ينظر بها للأمور من جهة يا أما فكره الخاص أو خبرته في الحياة، أو من خلال قراءاته المتنوعة أو من خلال ما يسمعه من مفسرين ووعاظ وكتابات مختلفة على النت وخلافه...
ونلاحظ دائماً أن العقلية الشرقية – على الأخص – دائماً ما تميل لإلصاق كل شيء تحت مُسمى مشيئة الله وإرادته في كل كبيرة وصغيرة من الأقوال والأفعال والأفكار. فأن حدثت حادثة مثلاً نقول: [ إرادة ربنا ]، ونقول على كل شيء يحدث – سواء خيراً أو شراً – أنه يحدث بإرادة الله ومشيئته، وأحياناً يُقال [ قضاء وقدر ] وأيضاً [ المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين ] وأن لم نقلها بأفواهنا ولكنها تبقى اعتقاد راسخ في أنفسنا وعليها نعيش ونصبر أنفسنا على كل ما هو حولنا، فنهرب من مسئولية تغيير نفوسنا وبذل الجهد لتنمية حياتنا الشخصية !!!
وواجب علينا اليوم أن نفهم ونستوعب معنى عبارة "مشيئة الله"، لا لكي نعرف معلومة نتكلم بها ونعظ بها الآخرين، بل لكي ندخل فيها ونتممها في حياتنا أن كنا اخترناها وتوافقنا معها بإرادتنا الحرة، لكي ما نُصليها ونحن نعي ما نُصلي به، لا كما اعتدنا أن نُصليها عن دون وعي حقيقي وإدراك قائلين: [ لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ]، وذلك لكي لا نقع في نوع من الحتمية والتواكلية التي تزيل حرية الإنسان وتجعلنا نتوهم إن الإنسان [ مُسير] لا محالة، وفكرة أنه يكون مُخير شيء ضعيف يكاد أن لا يُذكر بجوار تسييره وفق مشيئة الله التي نزعم أنها تحركنا وليس لنا حرية !!!
وربما الكثيرين يتعسرون في الفهم أمام الآيات التي تتكلم عن [ الاختيار السابق ] أو [ التدبير السابق ] كما ذكرها القديس بولس الرسول في رسائله، ومنها يستنتجون ما هو خارج النص في أن الله عين أناس للحياة الأبدية وآخرين للهلاك، وأيضاً – كما يعتقد الكثيرين جداً – أن الله عين تلميذه يهوذا لتسليمه ويكون له حكم الهلاك الأبدي !!! وبذلك تُطرح الأسئلة التي بلا حصر:
فهل للإنسان حرية أمام مشيئة الله وقصده وقضاؤه ؟
هل يفرض الله إرادته على الإنسان أم يعرضها فقط عليه ؟
هل يتحكم الله في مصير الإنسان والإنسانية أم يضع هذا المصير بين يديه ويتخلى عنه ويتركه لمصيره الذي يصنع ؟
عموماً للإجابة على هذه الأسئلة المُحيرة لنا أن نضع النقاط الهامة والتي سوف نذكرها لاحقاً بأكثر دقة:
1 – ما هو سرّ مشيئة الله الأزلي الأبدي: في الحقيقة أن سرّ مشيئة الله ترتبط أساساً بشخص يسوع المسيح كلمه الله المتجسد في ملئ الزمان، كما سيتضح لنا من خلال شرحنا للموضوع بدقة في الأجزاء التالية ...
2 – هذا السرّ المتعلّق بربنا يسوع المسيح مرجع رئيسي لسرّ مشيئة الآب على جنس البشر ككل. فللآب مشيئة خاصة بالبشر منذ الأزل وهي مرتبطة أشد ارتباط بيسوع المسيح وسوف نشرحها بالتدقيق.
3 – وبناء على النقطتين السابقتين، سنركز على علاقة حياة يسوع المسيح مخلصنا الصالح الأرضية حسب مشيئة الآب كحياة مخصصه فيه للبشر الذين يريدون إتمام مشيئة الله وإرضاءه بالمحبة.
4 – وكل ذلك سيقودنا في النهاية لإجابة السؤال الهام للغاية، عن معنى وجود الشرّ – من ألم ومرض وموت وحقد وبغضه ... الخ ... – أمام مشيئة الله، أي كيف تتواجد هذه الحقيقة المُرّة مع مشيئة الله الصالحة الكاملة، وكيف يتعامل الله معها، وكيف نواجها في ضوء مشيئة الله وقوة عمله في داخلنا؟
5 – سنختم موضوعنا في النهاية بتساؤل آخر، عن معنى حرية الإنسان أمام مشيئة الله، أي كيف تتواجد وتتفاعل حريتان أحداهما محدودة ومشروطة ( بشرية )، والأخرى لا نهائية ومطلقة ( إلهية ) ؟
ومع ذلك سندرك في النهاية، أنه ستظل مشيئة الله من جهة وحرية الإنسان من جهة أخرى سراً عميقاً، سيظل يفهمه ويدركه الإنسان كلما تبحر فيه وتعمق من خلال سر عمل الله وتدبيره في المحبوب يسوع بإعلان الروح القدس في داخل القلب، وفي كل مرة نتعمق فيها وندخل لأعماق هذا السر بالروح وإعلان الله في داخل القلب، سنكتشف غنى متسع وعمق وأبعاد متسعة جداً ومعاني مستحيل أن نتوقعها في بداية الأمر، فمشيئة الله سرّ عظيم وعميق وفائق جداً لكل إمكانيات الإنسان وتفكيره، وحرية الإنسان سرّ متسع جداً مستحيل أن يُفهم خارج تدبير الله في ملئ الزمان واستعلان يسوع المسيح في داخل القلب بالروح ...
يا أحبائي - انتبهوا بأذهانكم واطلبوا استنارة بالروح - فكثيرين حاولوا أن يتكلموا عن هذا الموضوع بعيداً عن مشيئة الله في المسيح يسوع وتناولوه بشكل فلسفي منطقي من جهة الإقناع العقلي، وفعلاً كلامهم مقنع للعقل ولكنه عاجز عن أن يدخل أحد في سر مشيئة الله، فانجرفوا بعيداً عن القصد الإلهي الصحيح فصاروا في تيه أعظم وارتبكوا في أحاديث مشتته لم تصل لحل قاطع في النهاية واستعلان حقيقي في داخل القلب ليحلوا معضلة الإنسان في هذا الأمر الذي أتعبه كثيراً جداً على مر تاريخ البشرية كله، ولا زال يتعبه جداً لأنه لم يدخل بعد في سرّ الله وإعلانه السماوي في القلب برؤية الإيمان الحي...