القديس أنطونيوس كأب لفكرة وطريق، وأب لمنهج روحي جديد
القديس الأنبا أنطونيوس له فضائل وميزات عديدة، لعلكم سمعتموها من قبل لذلك أتحير في كل سنة، عن آي شيء أخاطبكم. ولكن لعل من الأشياء التي نذكرها في مقدمة ميزات هذا الإنسان البار، أنه أحد الأوائل.
أقصد أنه واحد من الذين شقوا طريقا جديدا، طريقا صعبا وجميلا، لم يسبقه إليه أحد من قبل.
رهبان كثيرون ملأوا الدنيا آلاف وملايين. لكنه كان أول راهب في العالم، له مكانته، لأنه أول من سار في الطريق، وأول من وضع نظمه وأسلوب حياته، وأول من شرحه للناس وعرفهم به.
تماما كما نقول مثلا أن كثيرين كتبوا عن لاهوت السيد المسيح. لكننا نذكر القديس أثناسيوس الرسولي كأول لاهوتي كبير، ألف، ورد على الأريوسية في هذا المجال..
وكثيرون كرزوا باسم السيد المسيح في أرض مصر. لكننا نذكر أسم القديس مار مرقس، لأنه أول من كرز فيها، ولم يسبقه في ذلك أحد من قبل.
إن الأوائل الذين بدأوا الطريق،لهم مكانتهم.
كلنا، إن سرنا في طريق الرهبنة، إنما نتبع أقدام القديسين الأوائل، وكما ساروا نسير. أما القديس الأنبا أنطونيوس، فحينما شق طريقه في الرهبنة لم تكن هناك أقدام سبقته في هذا المجال من قبل.
إنه أب لطريق،بل أب لأصعب طريق، طريق الموت عن العالم، طريق التجرد الكامل عن كل شيء.
وقد سار في هذا الطريق وحده،لما بدأ..
عظمة الأنبا أنطونيوس، أنه لم يوجد أحد يقوده ويرشده في الرهبنة بل هو الذي قاد وأرشد الكل.
كل من يترهب حاليًا، آباء ومرشدين، يشرحون له كيف يبدأ، وكيف يتدرج وينمو. ويحكون له أسرار الحياة الرهبانية وأعماقها وطقسها، ويظهرون له حروب وحيل الشياطين، وكيفية الانتصار عليها.. ويمسكون بيد هذا المبتدئ، ويقودونه خطوة خطوة، حتى يصل..
أما الأنبا أنطونيوس فلم يجد له مرشدا، وسار وحيدا.
يقول الكتاب: "اثنان خير من واحد لأنه إن وقع أحدهما، يقيمه رفيقه. وويل لمن هو وحده إن وقع، إذ ليس ثان ليقيمه" (جا 4: 9،10).
وكان الأنبا أنطونيوس وحده، ولكن لم يقع..
سار وحده في طريق الرهبنة، بلا أب، بلا مرشد، بلا زملاء في الطريق، بلا تعزية من أي إنسان. بل أيضا بدون الوسائط الروحية المتاحة للجميع، بلا كنيسة.. بلا شيء يسنده في الغربة والقفر والوحدة والحروب..
سوى إيمانه بأن الله معه.
ومع ذلك لم يستصعب الطريق، بل سار وحده، ومعه الله.
لهذا نحن نكرم الأنبا أنطونيوس.. وكل الذين يترهبون الآن، مهما ارتفعوا، لا يمكن أن يصلوا إلى درجة هذا القديس فعلى الأقل الدفعة أتتهم من الخارج. هناك من تابعوهم في حياتهم الروحية النسكية، حتى وصلوا..
لكن الأنبا أنطونيوس، أتته الدفعة الأولى من داخله.
ولما دخل إلى الرهبنة في أيامه، دخل إلى المجهول..
سار في طريق لا يعرف معالمه، ولا يعرف حروبه.
حاليا توجد كتب للرهبنة، يوجد بستان الرهبان، والعديد من الكتب النسكية، كتبها كبار الآباء عن الحياة الرهبانية، وتوجد أيضا سير الآباء المتوحدين والسواح. والذي لا يجد مرشدا، يمكنه أن يتعلم من الكتب..
أما في وقت رهبنة الأنبا أنطونيوس ترد على الذين يبررون في سقطاتهم، معتذرين بأنهم لم يجدوا أب اعتراف، ولا مرشدا روحيا، ولا قدوات صالحة أمامهم. لذلك سقطوا! هو ذا الأنبا أنطونيوس لم يجد شيئا من هذا كله، ومع ذلك سار في طريق الكمال بلا عثرة. وكان الرب يرشده.؟
إنه لم يكن أبا للرهبان فقط، إنما أبا للرهبنة ذاتها.
هو ذا الذي وضع أسسها وروحها، وقدم للعالم صورته.
وإن أردنا أن نفهم ما هي الرهبنة في أصولها، إنما نرجع في ذلك إلى الأنبا أنطونيوس..
لذلك كانت حياته ذات تأثير عجيب، أينما عرفت..
كانت سيرته مسكا لأنها كانت شيئا جديدا على العالم..
كانت حياته جديدة لم يعرفها العالم من قبل..
لقد أعطى العالم صورة جديدة عن طقس في الحياة لم يكن مألوفًا من قبل،وهذا الإنسان العجيب، الذي يسكن الجبال والمغاير والبرية القفرة، وتمر عليه ثلاثون سنة لا يرى فيها وجه إنسان، ومع ذلك فهو سعيد في وحدته وعزلته ونسكه..
كان أعجوبة في عصره. مجرد النظر اليه كان يفرح القلب..
كما قال أحد تلاميذه: [يكفيني مجرد النظر إلى وجهك يا أبى]. وكثيرون أحبوا الرهبنة لمجرد النظر إلى وجهه، واشتهوا أن يحيوا نفس حياته التي أعجبوا بها..
لقد كانت حياته،فى صمت، عظة جذبت إليه الكثيرين.
كانت حياة جديدة. لم تكن هروبا من العالم..
الأنبا أنطونيوس، كان شابًا غنيًا، وكان العالم منفتحا أمامه. كان يملك ثلاثمائة فدان من أجود الأطيان في الصعيد، وكان أبوه ذا مركز وسلطان، ويستطيع أن يرث أباه في المركز والكرامة. إن الدنيا لم تضق في وجهه ليهرب منها. فلماذا إذن تركها؟
إنه لم يهرب من العالم، بل أرتفع فوق مستوى العالم وكان هذا هو سر عظمته، وسر
إعجاب الناس به..
لقد أرتفع فوق مستوى الأطيان، فوق مستوى الغنى، وفوق مستوى السلطة، بل فوق مستوى العالم كله، بكل شهواته. وشعر أن العالم كله ليست له قيمة..
تفاصيل من لوحة محاربات القديس أنطونيوس، 1878، الفنان فيليسيان روب
وأعطى للناس درسا عمليا في تفاهة العالم، كما أعطاهم درسا مقابلا في اهتمام الإنسان بأبديته، قبل كل شيء.
وفيما كان الناس يتنافسون على ملاذ العالم وعظمته، وجدوا أنسانا يرتفع فوق هذا المستوى كله، وينظر إلى شهواتهم كتفاهات، ويحمل عصاه في يده، ويضرب بقدمه في البرية، خارجا من العالم بإرادته، واهبا كل أمواله للفقراء، لكي يحيا حياة الفقر الاختياري.. مع الله.
وكان هذا شيئا جديدا عل الناس.
وكان جديدا عليهم أيضا أن يسكن في مقبرة..
ومهما ضربته الشياطين فيها، وأخافته بكل طرق الرعب، يظل باقيا متحديا قوة الشياطين، قائلا لهم [.. وإن كان الله لم يعطكم سلطانا على، فلن يستطيع أحد منكم أن يؤذيني]..
إنسان يظهر له الشياطين بهيئة أسود وفهود ونمور، وبأصوات مفزعة، يحاربونه لكيما يخاف ويرجع. ولكنه يصمد. إنه فوق مستواهم، وفوق مستوى مقدرتهم وسلطانهم...
لقد أرتفع فوق مستوى الخوف،لا في المقبرة، ولا في الوحدة. لم يخف الشياطين، فخافت منه الشياطين..
وكان هذا شيئا جديدا على الناس، أذهلهم واستهواهم.
من هذا الذي يعيش في أعماق الجبل وحده، حيث الوحوش والحيات ودبيب الأرض، وحيث العزلة المخيفة، والوحدة المملة، وحيث حروب الشياطين؟! ومع ذلك فهو لا يخاف، ولا يل، بل يحيا سعيدا، مفضلا هذه الحياة على كل ملاذ العالم..!
رجل له قلب من حديد. دخل البرية ليس فقط بالنسك والزهد والصلاة، وإنما أيضا بشجاعة عجيبة.
إنه نوعية جديدة من الناس، لم يرها البشر من قبل.
أغلق على نفسه مغارة ثلاثين سنة، لا يستقبل أحد. وكان الناس يقرعون على بابه، ويتركون له بعض الحبوب والبذور، ويمضون لشأنهم.. وأخيرا لم يحتمل الناس البعد عنه. كان وراء هذا المجهول
شيء يستهويهم.
كان وراء بابه المغلق شيء يجذبهم..
فظلوا يقرعون بابه. ولما لم يفتح لهم، كسروا الباب ودخلوا، وقالوا له: نريد أن نعيش معك، ونحيا الحياة التي تحياها، بأية طريقة، نبقى معك تحت ظل صلواتك.
استهوتهم هذه الحياة المرتفعة عن مستوى العالم
واستهواهم هذا القلب، الذي يحيا وحده، مكتفيا بالله..
هذا القلب، الذي لا يحتاج إلى عزاء الناس، لأن عزاء الله يكفيه.. والذي لا يحتاج إلى أحاديث الناس،لأن الحديث مع الله يشبعه. استهواتهم حياته كلها، فبقوا معه..
هذه هي عظمة الأنبا أنطونيوس. لم يكن سرها ارتفاعه في فضائل معينة كأن يطوى بعض الأيام صومًا كالقديس مقاريوس الإسكندري، كلا بل كان لعظمته سبب أخر:
سر عظمته، أنه اكتشف طريقا، ما كان الناس يعرفونه قبلا. وأحب الناس هذا الطريق، وأحبوا الأنبا أنطونيوس معه.
كانت للأنبا أنطونيوس فضائل كثيرة. فكان مشهورا باتضاعه، وبصلاته، ومعرفته وإفرازه وزهده. ولكن ما أكثر من اتصفوا بهذه الصفات. أما الذي ينفرد به هذا القديس عن الجميع، فهو قيادته لطريق الرهبنة الروحي.
في فترة حديثة، كان البعض يتشاجرون ويصيحون قائلين:
"لا بد من أن يكون البطريرك من الرهبان..!"
أما في أيام الأنبا أنطونيوس، فلم يكن البطاركة من الرهبان.
كانت الرهبنة طقسا روحيا، أعلى من عمل الرعاية، حقا لم تكن أعظم من الكهنوت ورئاسته، وإنما كانت حياة أجمل، هي الأقرب إلى حياة الملائكة.. من الآباء كان يقبل أن يترك جمال الرهبنة ويصير بطريركا؟!
عاش الأنبا أنطونيوس 105 سنة، وعاصر بطاركة عديدين. ولم يصير من الآباء البطاركة، بل شماس من تلاميذه، هو الأنبا أثناسيوس صار بطريركًا. وبقى الأنبا أنطونيوس في حياته الروحية الحلوة. بكل عمقها، وكل ارتفاعها.
ساعة واحدة يقضيها مع الله، يمكن أن تنفع الكنيسة أكثر من جهاد سنوات وشهور في عمل الرعاية..
لما انتشرت البدعة الأريوسية، وصارت خطرا على الكنيسة، وظل القديس أثناسيوس يقاومها بالآيات والتفسير، وبالجدال اللاهوتي والحوار المنطقي، أرسل الآباء الأساقفة إلى القديس الأنبا أنطونيوس، لكي ينزل إلى الإسكندرية. لا للجدل اللاهوتي، فما كان رجل جدال، وإنما من أجل تأثير روح الله الذي فيه. فنزل القديس، وكان عمره حوالي المائة عاما. وقضى في الإسكندرية ثلاثة أيام كان لها تأثير عجيب عميق في الناس.
يكفى أن يسمعوا من فمه الطاهر أن الابن مساو للأب في الجوهر.. كلمة يقولها بلا جدال، تسندها حياته المملوءة قدسا المحبوبة من جميع الناس، تذكرنا بقول قائد المائة للرب: "قل كلمة فقط، فيبرأ غلامي" وكان الناس ينتظرون من الأنبا أنطونيوس أن يقول كلمة فقط. فقال وأحدثت الكلمة تأثيرها.
القديس الذي كان مرعبا للشياطين، أما كان مرعبا للهراطقة؟!
وبعد ذلك تقول سيرة القديس، أنه عاد إلى ديره، كغريب يلتمس وطنه. حقا كان العالم غريبا عليه.. غريبا على رجل الجبال والبراري والوحدة..وأبى الرهبنة الأصلية.
وصدقوني أن كلمة (رهبنة) ترجمة غير سليمة لحياة الوحدة.
إن كانت مأخوذة من عبارة: يرهب الله آي يخافه، فالقديس الأنبا أنطونيوس نفسه قال لأولاده:
[أنا لا أخاف الله. ذاك لآني أحبه، والمحبة تطرح الخوف إلى خارج] (1يو 4: 18). فبماذا نسمى الرهبنة التي قادها الأنبا أنطونيوس؟
الرهبنة هي حياة الملائكة الأرضيين أو البشر السمائيين.
الرهبان بشر يحيون حياة الملائكة، وهم على الأرض. وقد كان القديس الأنبا أنطونيوس هو أول الملائكة الأرضيين.
لي يا أخوتي مقر في دير الأنبا بيشوى، أقضي فيه نصف أو ثلث كل أسبوع. وفى أعلى هذا المقر، لي كنيسة خاصة أسميتها: "كنيسة الملاك ميخائيل والأنبا أنطونيوس هو رئيس الملائكة الأرضيين.
غير أن الأنبا أنطونيوس يتميز على الملاك ميخائيل بميزتين:
*الأولى أن الملاك ميخائيل، خلقه الله هكذا، ملاكا..
أما الأنبا أنطونيوس. فقد ولدته أمه إنسانا. ولكنه تحول بسيرته الطاهرة إلى ملاك، وأصبح في مقدمة الملائكة الأرضيين.
*والميزة الثانية أن الأنبا أنطونيوس ولد على الأرض، واستطاع أن يحول الأرض إلى سماء، والرهبان إلى كواكب، فسموه: "كوكب البرية" وسموا "تلاميذه كواكب البرية"..
لقد أكتشف الأنبا أنطونيوس أن الدنيا لا تساوي شيئًا. وهذا الاكتشاف عرفه قبله اثنان، وبقيا يعملان في الدنيا.
أولهما سليمان الحكيم، الذي قال أن الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس (جا 2: 11). ومع ذلك بقى سليمان حياته كلها يعيش وسط هذا الباطل.
والرجل الثاني هو القديس بولس الرسول، الذي قال: "خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح" (فى3: 8). ومع أنه عرف أنها نفاية، بقى في الدنيا من أجلنا، يخدم، لأنه ائتمن على وكالة. وهكذا عاش في الدنيا، ولم يعش في نفايتها.
سليمان بقى في العالم كملك، وبولس بقى كرسول.
أما الأنبا أنطونيوس، فلم يبق في العالم، ولو للخدمة.
أرتفع فوق مستوى الخدمة الأرضية التي كانت لسليمان، وفوق مستوى الخدمة الرعوية التي كانت لبولس. وعاش في الخدمة الملائكية التي كانت لطقس السارافيم.
وقدم لنا هذه الحياة نموذجا لطقس الملائكة الأرضيين.
كل راهب في الدنيا يعتبر نفسه أبنا للقديس الأنبا أنطونيوس، ليس الأقباط فقط، وإنما الكاثوليك أيضًا، وكل الأرثوذكس شرقيين وغربيين، وكل محبي الوحدة في العالم.. الكل يشتركون معا في محبته، وفى إكرامه،
وفى البنوة له.
لقد قدم للعالم كله حياة التأمل والصلاة، حياة الوحدة والسكون، حياة الزهد والتفرغ الكامل لله..
قدم لنا حياة جديدة، لا تستمد عظمتها من الخارج.
لا تستمد عظمتها من الألقاب، ولا من الجاه والسلطان، ولا من الوظائف، ولا من الكهنوت، ولا من الرعاية، ولا من العلم والجدل والمعرفة. إنما تستمد عمقها من الداخل، من الصلة الدائمة بالله، في حياة الروح.
هذا هو المنهج الجديد الذي قدمه الأنبا أنطونيوس. ونحن نكرمه كأب لهذا المنهج، ونقول:
مبارك هو الرب الذي منحنا الأنبا أنطونيوس.
وفتح لنا به بابا للسمائيات، وقدس أقداس وسط الجبال..
وقدس لنا رمل البرية، وتلالها، ومغائرها. وصارت مغارة الأنبا أنطونيوس مزارًا يتبارك به الناس من كل أنحاء العالم، ليروا مكانا حل الله فيه، مرافقًا للأنبا أنطونيوس ومباركًا.
ونشكر الله لأن الأنبا أنطونيوس فبل أن يقود الرهبنة. لم يصر أن يحيا وحده كالأنبا بولا، في عزلة كاملة عن العالم، يقضى حياته كلها لا يرى وجه إنسان..
مبارك هو اليوم الذي قبل فيه الأنبا أنطونيوس، أن يرشد آخرين، ويعلمهم هذا الطريق الملائكي الذي أختبره.