رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
" يصـيرالآخِرون أولين والأولون آخِرين " بهذه العبارة أيضا انتهى الفصل السابق(متى 19: 30) وكانت تعريفا من يسوع لِما حصل للرسل ، و سيحصلُ لمن يؤمن بالمسيح ويتبعه ويحملُ لواءَه عبر الأمصار والأجيال. لقد تكونت لدى الناس قناعات وعادات ومقاييسُ لم تكن دوما مستقيمة ونزيهة. شابَتها نقائصُ وأصابَتها أخلال. لم يكن المنطق البشري صحيحا دوما ومستقيما. ولم تكن النيات صافية دوما وعادلة. و جاءَت عملية تجسّد الله لإعادة الناس والأشياء الى نصابِها ، الى رشدها وشفافيتها الأصلية حسب طبيعة خلقتها. لقد تشوَّهت الخلائق في فكرها وإرادتِها. لقد انقلبت الموازين من الحق إلى المصلحة. فتقدمت المصلحة على الحق، وغطّت الأنانية على المحبة ، فآختفت الرحمة وصارت العدالة تقاس بكيل و ميزان وليس بحياة أو حنان. فأعلن يسوع أنه آن الأوان لتعود الأمور الى معاييرها الأصلية التي وضعتها الحكمة الألهية الخالقة نفسها فلا يبقى أولٌ وأخيرٌ بين الناس بل يسير كل واحد جنبا إلى جنب. و حتى يختبرَ ذلك الأنسانُ الذي شوَّه الحقيقة ويحُّسَ بآلتوائِه كان يلزمه أن يذوق مرارة الأهانة والذل فيتخَّلَفَ إلى المقام الأخير مَن كان في المقدمة، يعتبرُ ذاتَه مختارا مُمَّيّزا وعادلا لا مثيلَ له. فدعا ربُّ الكرمِ أولا عمال الساعةِ الحادية عشرة – الأخيرين !- وسَّلمهم أُجرة كاملة خلافا لنظام البشر، وخيَّبَ ظنون العمال الأولين الذين طمعوا في أكثر من الأجرة المتفق عليها فطالبوا بألا يتساوون مع نظرائهم العمال الذين إشتغلوا أقلَّ منهم. أما رب الكرم فساواهم بالرحمة وآعتبر إستعدادَهم وليس كميةَ إنتاجهم. وبهذا المثل أراد الربُ أن يُعَّلمَنا قيَمًـا أساسية ، منها ما يلي : أولا : الملكوت عطية مجانية من الله. لا إمتياز عند الله للبعض على حساب غيرهم. يُمَّيزُ الله البعض ، بل كل فرد، بتكليفهم بمهمة حاصّة. ولأداء تلك المهمة يعطيهم الله ما يلزمهم من نعمة خاصّة ، هي موهبة أو طاقة ضرورية لأداء الرسالة المطلوبة من قِبلِ المُكَّلفِ بها. هكذا مَّيزَ الله ابراهيمَ ونسله بأن يكونوا نورا للعالم ليستعيدَ الناسُ الأيمان بالله على يدهم. ولأداء هذه المهمة كشف لهم ذاته ، وأنعم عليهم بعناية وعون خاصّين ليؤدوا شهادة إيمانهم. والهدف أن يعود كلُ البشر ، لا اليهود فقط ، الى الفردوس المفقود وينعموا بخيراتِ الله. لم تكن هذه النعمة، هذا الأمتياز، إستحقاقا من شعب ابراهيم ولا حصرًا به. بل كانت نعمة مجانية من الله وحَّرة محضة ، ولأجل تحقيق رسالةٍ كلفه بها. كان بوسع اللـه أن يختار غير ابراهيم وغير موسى وغير داود. بل لم يكن مُجبرًا أن يختار أمَّـةً معينة. كان بوسعه أن يبيد آدم ،أو يغفرَ له، أويخلق انسانا جديدا. كلُّ ما عمله الله من خلقٍ و تهذيب وتزويد بطاقات وخيرات كان عطية مجانية لا طالبَ بها الأنسان ولا فكَّرَ في إمكانيةِ أن يقتنيها ، و لا خطر بباله أنَّ له حَّقـًا بالتمتع وحدَه بمفاعيلها. وكان إختيارُ الله حُرًا ومَّجانًا ، وكان إيمان ابراهيم عفويا وصريحًا بأن يعترفَ بمنية الله وفضله ،ويشكره عليها ويتفاعلُ معها بكل ما أوتي به من قدرة ومشيئة. وحسبَ نفسَه مواطنًا لمملكةِ الله ، أدخله فيها مجَّانا ليعيشَ قيَمَها على الأرض. يبقى الله ” حرًا أن يتصَّرَفَ في أموره كما يشاء ” (آية 15). ثانيا : الملكوت مفتوحٌ لكل البشر. وقد آن الأوان ليدخل حلقة الله كلُ الشعوب. وإن كان اليهود أول مواطني الملكوت لكن بقية الشعوب لم يُطردوا ولا حُرموا منه. بل حان الزمان ليعودوا إلى الفردوس المفقود بسبب خطيئة الأجداد. إعتبر اليهود أنهم وحدهم خراف قطيع الله وأنهم وحدهم أبناء الوعد بالخلاص، لكن يسوع أكد أنهم أخطأوا في رأيهم وآعتبارهم وأنَّ هناك غيرَهم ، آخرين ، ايضا يشتركون في قطيعه بل و سيسبقون اليهود الأولين في دخول حظيرة الله. إن كانت الأمم خارجَ ” الشعبِ المختار” ، إلا إنَّ إختيارَ شعبَ ابراهيم لم يكن إلا من أجلها. وإن تأخرَ دخولها حظيرة الله إلا إنها كانت تنعمُ بالحياة التي وهبها الله للكل. لقد آن الآوان لتتحَّولَ الأمم إلى السير في طريق الحياة الأبدية. كانت واقفة في ساحة الحياة ليستخدمَها الله في حقله. أراها أولا مثال شعبه المختار. وفي أواخر الأزمنة دعاها وأشركها في العمل من أجل الحياة الأبدية. فكانت آخر وجبة دعاها الله إلى كرمِه ، في آخر ساعة من النهار. لم يخلع الأختيارَ من الأولين. إنما مدَّ الأختيار،أو بالحري، وحَّدَ الشعبَ البشري في شخص رسوله الوحيد، مختار الله وإبنه الوحيد يسوع المسيح. فلم ” يبقَ بعدُ يهودي أو وثني… لأنَّ الجميعَ واحدٌ في المسيح” (غل3: 28) ؛ لأن الربَّ ” جعلَ من الجماعتين جماعةً واحدة وهدمَ بجسده الحاجز الذي يفصلُ بينهما ” (أف2: 14). وقد أصبح المسيحُ نفسُه ، وليس اليهود، ” سبيل البشر الى الله في روحٍ واحد” (أف2: 18)، لأنه وحدَه ” الطريق والحق والحياة “ (يو14: 6)، وبه وحده ” ندركُ الخلاص “ (أع4: 12). وهكذا لم يبقَ في المسيح أولٌ وآخِر بل تساوى كلُ الناس في دعوتهم إلى مشاركةِ الله حياتَه ، مجده وسعادَته مدى الأبد. ثالثـا : عــدالةُ اللـه. قيَّمَ البشرُ العدالة بكيل و وزن وآتفاقٍ ومواد إستهلاكية، ومدة عمل أو إنتاج. أما الله فقد أقامَ العدلَ على أساس المحبة والرحمة ، والطاقة والحاجة. لو حُصرت العدالة بالمنطق البشري لما حصلَ معّوقون كثيرون ومتخلفون على قوت الحياة وحاجاتِها المتعددة. ولو نظرَ الله إلى وضع البشرية لما إستحق أحد الحياة بسبب رفضهم محبة الله وآتباع توجيهاتِه. نظرَ الله إلى البشر بعين الرحمة والرأفة ، وقادته إلى ذلك محبتُه الفائقة. فترَّحمَ ربُ الكرمِ على عمال الساعة الأخيرة و وفَّرَ لهم ، مثل أقرانهم عمال الساعة الأولى، بالقوت الضروري لحياتِهم وعوائلهم. لم يظلم الأوائل(آية 13) انما ساوى بالحياة وحاجاتها كلَّ العمال. العمال الآخِرون لم يرفضوا العمل ولكن لم يُشغلهم ربُ الكرم. والوثنيون لم يرفضوا الله إنما جهلوه. ولما دعاهم الله تبعوا دعوته دون تردد. فعدالةُ الله هي أن يخلصوا ، ويتوبوا إن كانوا خطـأةً ويحيوا للأبد. لأنهم كانوا فترة معّوقين ولم يُغِـثهم أحد فتخلفوا عن ركب الخلاص. أما الآن فقد أغاثهم المسيح ودفع عنهم كما عن غيرهم ثمن أخطائهم ليتمكنوا من التمتع بالخلاص كما فعل مع الأولين من الشعب المختار. فعدالةُ الله أن يخلصَ جميعُ أبنائِه (يو3: 17؛ 12: 47). إن كان الأولون أبناء ابراهيم (لو19: 9)، فالآخِرون آمنوا بابن الله (أع 10: 17) فصاروا مباشرة أبناء لله (يو1: 12؛ رم 8: 14-17؛ غل4: 6-7). رابعا : سؤالٌ يطرحُ نفسَه !. ونحن مسيحيي اليوم نسمع ونقرأ ونختلطُ مع أشكال مختلفة من الناس ، ما هو شعورُنا ؟ وما هو موقفنا من غيرنا ، مسيحيين كانوا أم غيرَ معَّمَدين ؟. هل نعتبرُ أننا وحدَنا شعبُ الله المخَّلصون، ونحن الأولين في ملكوت الله؟ أم نعتبرَ وحدَتنا مع كل البشر من خلال المسيح ، و نعترفُ بأن الخلاصَ للجميع : لكل من يحفظ كلام المسيح ويحيا محَّبته ؟ وهل نعتبرُ أنفسَنا أصحابَ إمتيازٍ نتمتع به وحدَنا أم أصحابَ رسالةٍ كُلِفنا بها وعلينا أن نهتم بأدائها، فنكون قـدوة ومنارة لغيرنا بإيماننا وسلوكنا ؟ هل نعرفُ أنَّ إمتيازُنا هو أنَّ إيماننا والحق الذي نحملُه ونتبعه يُصبحا سببا لآضطهاد أبناء العالم لنا ؟ (يو15: 20؛ 16: 2)!. وهل نُدركُ أنَّ رسالتنا أن نشهدَ للمسيح (لو24: 48؛يو15: 27؛ ) ونعَّرفَ به جميع البشر؟ (متى28: 19؛ مر16: 15). وهل تشَّبَعنا من روح المسيح بحيثُ نتواضع ونخدم ونعتبر الآخرَ أفضلَ منا ، فنُقدِمَ منفعَتَه على منفعتِنا ؟ (في2: 3-5), وهل نعتبرُ أنفسَنا عادلين إذا دفعنا لغيرنا فقط ما لهُ علينا ولم نبلغُ حدَّ بذلِ أموالِنا وحتى حياتَنا من أجل الآخرين الذين يجبُ أن نحبهم كأنفسنا ونرحمهم فنداريهم كذواتِنا ؟. لنتَـأَّملْ كلَّ هــذا ! |
|