إلى بيت الرب نذهب
المزمور المئة والثاني والعشرون
1. المزمور المئة والثاني والعشرون هو أحد المزامير التي تنشد صهيون وتعظم المدينة المقدسة، وهيكل الرب مركز الحياة فيها (رج 137: أنشدوا لنا نشيدًا من صهيون، أو 84: ما أحب مساكنك يا رب الجنود): اسمه نشيد المراقي (رقى الجبل: صعد إليه) أو نشيد المصاعد (جمعيات الكتاب المقدس). الكلمة العبرانية هي ما يقابل علا في العبرانية بمعنى صعد. إذًا، نحن أمام نشيد ينُشده الحجّاج وهم صاعدون إلى جبل صهيون، إلى أورشليم، ليقوموا بأحدى واجبات الحج المفروضة عليهم ثلاث مرات في السنة: عيد المظال، عيد الحصاد، وعيد الفصح (خر 23: 17؛ 34: 23).
2. الحجّاج في أورشليم يُنشدون نشيد الخلاص.
آ 1- 5: طيب الحياة في أورشليم: فرحت بما قيل لي: إلى بيت الرب ننطلق.
آ 6- 9: صلاة من أجل أورشليم: ليكن السلام في أسوارك والامان في قصورك.
3. آ 1: يحسّ المرتّل بأقصى السعادة عندما يتذكّر الساعة المباركة التي قالوا له فيها البشرى السعيدة: هذه السنة نصعد إلى بيت الرب، نذهب إلى بيت الله. والعبارة تعني القيام بالحجّ إلى أورشليم (أش 2: 3؛ مي 4: 2: تعالوا نصعد إلى جبل الرب، إلى هيكل اله يعقوب).
- آ 2: لقد وصل الحجّاج. وطئت أقدامهم عتبةَ المدينة، وتوقَّفوا عند الأبواب ينتظر بعضهم الآخر ليدخلوا جميعًا بخطوة واحدة. ينشدون النشيد الواحد كما في احتفال أو تطواف. لا يدخلون أفرادًا مبعثرين، بل جماعة يوحّد بينهم حبّ مدينة الله.
- آ 3: ويتوجّه المرتّل بحديثه إلى المدينة، كما لو كانت عروسًا محبوبة، وقد أخذ بجمالها. أورشليم هي عاصمة البلاد السياسية والدينيّة. ثم ينطلق الحجّاج في طواف بمحاذاة الاسوار والابراج ليروا عظمة المدينة ومناعتها الآتية من الله، وهذا ما نقرأه في المزمور 48: 13- 14: طوفوا بصهيون ودوروا حولها، وعدوا الابراج التي فيها. أنظروا جيدًا إلى أسوارها وتمعّنوا في قصورها. يشدّد المرتّل على المعنى البنائي والمادي، فيتصوّر ابن القرية الصغيرة. أو ابن البريّة الساكن في الخيمة، يتطلع إلى عظمة المدينة وأسوارها. أكانت تلك التي بناها داود وسليمان، أم تلك التي بناها نحميا بعد الرجوع من الجلاء؟ ويشدّد أيضًا على المعنى الانساني والروحي فيقول: إن أورشليم تجمع وتوحد أبناءها والآتين إليها. فالعنصر الجامع ليس طينًا ولبنًا، بل تاريخ ومصير يعيشه الشعب الآتي من كل أصقاع الأرض، فيشعر بتناغمه واتحاده عندما يدخل عاصمة شعب الله.
- آ 4: ويتوقّف المرتّل، وكله إعجاب، لينظر إلى الحجّاج الآتين من كل مكان إلى بيت الرب، إلى جبل الله، إلى الحصن المبني على صخرة اسرائيل. لا يذكر أسماء الأسباط. وماذا بقي منها بعد الرجوع من المنفى وامتزاج أبناء شعب الله بعضهم ببعض وبالاغراب؟ على كل حال، عندما نقل الملك داود تابوت العهد إلى المدينة التي اختارها، جعل من أورشليم المركز الديني لشعب اسرائيل، فاجتمع اتحاد الاسباط الاثني عشر حول المعبد الذي يأوي تابوت العهد (والذي سيصبح الهيكل في عهد سليمان) ليؤدّوا فيه فروض العبادة للرب. وستبقى عظمة أورشليم بعد انقسام المملكة وحتى بعد سقوط السامرة، وستصبح في عهد يوشيا مركز العبادة الديني الوحيد للرب (تث 16: 16). لقد صار الحج إلى أورشليم رسمًا الهيًا، فيصعد الحجاج إلى المدينة بناء على أمر من الرب وارشاده.
- آ 5: هذه الوقفة على أبواب أورشليم ستتبعها وقفة أخرى على أبواب الهيكل يتلو فيها أحد الحجّاج كرازة وتعليمًا (15: 1: من يحقّ له أن يدخل إلى بيت الله؟ رج 24: 3- 10، 84: 91). فتجيبه الجماعة: آمين. أو تردّد ما قاله، أو تعيد لازمة. سرّ عظمة أورشليم أن فيها عروش ملوك بيت داود (حرفيًا: عروش القضاء). أساسًا كان الناس يتقاضون لدى الحكام. وهذا الدور ستلعبه فيما بعد ذرية داود (ابشالوم: 2 صم 15: 1 ي) وسليمان الذي سيبني رواق الفضاء (1 مل 7: 7) فيقضون للشعب (وهذا ما سيفعله سليمان مع المرأتين الزانيتين 1 مل 3: 16- 28) وخدمة القضاء ذات علاقة بحق الله وقضائه. وستصبح فيما بعد خدمةَ الانبياء الكبار (إيليا مثلاً وقصَّة نابوت اليزرعيلي). وهاتان الوجهتان للقضاء نجدهما في المسيحانية. ففي أش 16: 5 سيجلس الملك والمخلص الاسكاتولوجي في خيمة داود إلى الابد. ومن جهة ثانية، في مز 72: 2 سيكون للمسيح سلطة قضائية ترتبط بحق الله وأحكامه.
- آ 6- 7: في القسم الثاني، نقرأ تمنّيات للمدينة المقدسة، وصلاة على نيّة أورشليم. فالمرتّل يطلب لأورشليم السلام والسعادة والخير والامان. فالإنقسامات الداخلية عديدة (توحّد وتجمع بيننا في آ 3)، والانفصال تمّ على يد يربعام بعد موت سليمان (آ 4: تصعد كل الاسباط، أسباط الرب)، ولا يزال أثره في النفوس. الشعب ينتظر ذلك اليوم الذي يوحِّد فيه الملك في آخر الازمنة كلَّ الناس الذين يتمنّون الخير، كل الخير، لأورشليم. وتتردّد كلمة السلام، وترتبط بكلمة أورشليم، ومعناها مدينة السلام.
- آ 8- 9: ويتردد التمني بالسلام. فالسلام ضروري من أجل الاخوة والاصدقاء الآتين إلى المدينة المقدسة. وهو ضروري أيضًا بسبب وجود بيت الرب، رمز حضوره بين الشعب. إذا كان الله لا يعطي السلام، فمن يستطيع أن يعطيه؟
4. كانت جماعة المؤمنين تعتبر نفسها ممثِّلة لاتحاد الاسباط الاثني عشر. كان الحجّاج يأتون من مملكة الشمال (وعاصمتها السامرة، صاحبة العجل الذهبي)، أو من عالم الشتات. أما عرش الملك فقد بقي محفوظًا في الهيكل، وإن فارغًا (حج 2: 21 ي) بانتظار داود الجديد والملك المسيح (إر 30: 90؛ حز 34: 22؛ 37: 24). كان المؤمنون يحجّون إلى معابد محليّة (يت إيل، حبرون...) قبل أن يصبح الحجّ وقفًا على أورشليم. ولما هُدمت أورشليم سنة 587، نظر الأنبياء إلى أورشليم كما ستتجلّى بهاء في المستقبل. فأبصر ميخا (4: 2) الشعوب يحجّون إلى جبل صهيون. وأنشد أشعيا (60، 62، رج طو 13) أورشليم المنوّرة في آخر الازمنة. وتصوّر حزقيال (40- 48) الهيكل الجديد ومدينة الله وسط أرض ميعاد قد تجدّدت وتجمّلت (زك 14). كل هذه المواضيع ردَّدها المؤمنون في الصلاة الليتورجية. وعندما ييأسون من الحاضر، يتطلعون إلى المستقبل فبنمو فيهم الرجاء والامل. إن أورشليم النازلة من السماء لا تبنيها وسائل بشرية: إن لم يبن الرب البيت فعبثًا يتعب البنّاؤون.
5. كيف قرأ العهد الجديد المزمور 212؟ لا نجد إيرادًا حرفيًا لنصوص هذا المزمور، ولكن هناك بعض التلميح عن وظيفة الرسل الذين سيدينون الكون مع المسيح (مت 19: 28؛ لو 22: 29- 30). كما نقرأ في سفر الرؤيا (7: 4- 8) أن الشعب المسيحاني ينتظر في نهاية الازمنة عهدًا ذهبيًا تجتمع فيه الاسباط الاثني عشر حول تابوت العهد لتؤدّي للرب فروض العبادة. فالجماعة الاسكاتولوجية هي اسرائيل الحقيقي والتام، المقسوم إلى اثني عشر سبطًا، والذي هو امتداد لاسرائيل العهد القديم.
ونقرأ المزمور ككل على ضوء المدينة الجديدة والسماوية التي تتكلّم عنها الرسالة إلى الغلاطيين (4: 26) وإلى العبرانيين (12: 22) وسفر الرؤيا (21). فالمسيحيون يسيرون نحو هذا المكان المقدس كحجّاج خلال حياتهم على الأرض. هذا المزمور هو نشيدهم في طريقهم إلى السماء التي ينتظرونها بالرجاء.
- كيف فهم الآباء هذا المزمور؟ أورشليم هي المدينة السماوية التي دعي اليها المسيحيون وإليها يسيرون (أوسابيوس، أوغسطينس). ولكن هذه المدينة ما تزال تُبنى يومًا بعد يوم، لأن بناءها لم ينته بعد، وكل يوم ترتفع فيها حجارة جديدة على أساس الرسل والأنبياء مع يسوع المسيح حجر الزاوية.
6. آ 1: "فرحت بما قيل لي: لنذهب إلى بيت الرب".
لم يعد يطيق الكثيرون هذه الكلمة اليوم. أن ندعوكم للصعود إلى ميدان سباق الخيل لتروا الجياد تركض، وإلى المسرح لنقدّم لكم مشهدًا يجرح الاخلاق، تسرعون بأكثركم. ولكن أن ندعوكم إلى بيت الصلاة، فستكون قلة لا تستسلم للكسل. فاليهود لا يتصرّفون هكذا. وأن يبدو المسيحيون أكثر اهمالاً منهم، فهذا ما نلاحظه بألم. من أين تأتي هذه التقوى لدى اليهود؟ أقولها مرة أخرى: الاسر جعلهم أفضل. فالذين قرفوا من هيكلهم وتركوا معه سماع كلمة الله. والذين استسلموا للعبادة في المشارف (الجبال، التلال، الأودية المخضرّة)، فتعدّدت أشكال كفرهم. إليك السبب الذي جعل اليهود يتركون رغبتهم من أجل هذه العبادات، فتحمّسوا للوعد واستفاقوا وتشبّثوا بالخير ووجدوا فرحًا في ذلك.
أقاموا في حالة من الجوع والعطش، "لا الجوع إلى الخبز والعطش إلى الماء، بل إلى سماع كلمة الرب" (عا 8: 11). أصلحهم هذا العقاب فطلبوا الآن بحرارة ما ابتعدوا عنه في الماضي. أجل، قبّلوا الأرض وقالوا: "عبيدك يحبّون حجارة أورشليم ويحنّون إلى ترابها" (102: 15). "فمتى آتي وأحضر أمام الله" (42: 3). "أذكرك من أرض الاردن وحرمون، أنا الذي كنت بعيدًا عنك، يا تلة متواضعة" (42: 7). "تذكرتُك وأفضت فيك نفسي" (42: 5). فماذا تذكرت، قله لي؟ "أريد أن أجتاز الخيمة العجيبة إلى بيت الله". وهذا يعني: أريد أن أشارك الجوقات والجماعات في الليتورجيا المقدسة.
آ 2: "توقّفت أقدامنا في أروقتك". وقالت ترجمة أخرى: "فرحت بما قيل لي وصلنا إلى بيت الرب. توقفت أرجلنا في أروقتك يا أورشليم". أنظر كيف أن فرحهم فائض فيبدو لهم أنهم حصلوا على ما يريدون. إعلان الامر وحده يملأهم بهجة بسبب حرارة رغبتهم أن يقبّلوا بيت الصلاة والمدينة المقدسة.
هذا هو سلوك الله العادي. حين نمتلك خيرات لا نأبه لها فهو ينتزعها من أيدينا. فما الذي لم يقدر أن يفعله التمتُّع، حصل عليه الحرمان. هذا هو الاختبار الذي اختبره اليهود. تعلّقوا بمدينتهم، تعلّقوا بهيكلهم، وامتلأوا عرفان جميل نحو الله الذي أعادهم إلى بلادهم.
آ 3: "أورشليم المبنية كمدينة". وتقول ترجمة أخرى: "بُنيت كمدينة". وقالت السبعينية: "ستُبنى أورشليم كمدينة". هذه العبارة الاخيرة تدلّ على الزمن الذي سبق البناء. وبحسب التفسير الاخر ستُرجعنا أورشليم التي بنيت كمدينة. نشير إلى منظرها بعد السبي. كانت حينئذ صحراء حقيقية. لم تكن المدينة إلاّ خرابًا في كل مكان. سقطت الابراج قُلبت الاسوار ولم يبق من الموطن القديم إلاّ الآثار. وحين رجوع اليهود من السبي رأوا هذا الخراب فتذكروا الازدهار السابق وتصوّروا ما كانت عليه مدينتهم من مجد: كانت بهيّة، كانت معروفة في كل مكان. كان فيها جماعة ورؤساء وملوك وأحبار: أشعّ جمالها على العالم. واليوم أي مشهد محزن في كل جهة.
وهذا أمر حقيقي. فاسمع ما يلي: "أورشليم تُبنى كمدينة". إذًا لم تكن بعد مدينة. والتكملة تؤكد ذلك: "مدينةٌ كل شيء يتماسك فيها". يريد المرتّل أن يتكلّم عن تماسك البناء. وعن متانته وطابعه القوي. لا فراغ في هذه المدينة جيث كل شيء يدخل في محله بطريقة كاملة كما لو ضرب بالمطرقة، وترابطت البيوت بعضها مع بعض.
تلك كانت أورشليم قبل الاسر. ولقد قال مفسّر: كانت مدينة التجمّع.
آ 4: ويزيد المرتّل على هذا المديح مديحًا آخر: "إلى هناك صوت القبائل، قبائل الرب، شهادة لاسرائيل، ليحتفلوا باسم الرب". هذا كان جمال المدينة. لا في اتساعها وأبنيتها بل في أن كل القبائل تجتمع فيها في جماعة تعرض علها مواضيع للمناقشة.
وليس هذا كل شيء. فلقد كان لاورشليم الهيكل وفيه تتمّ الاحتفالات المقدسة. كان لها كهنة ولاويون والمسكن الملكي والمعابد والاروقة والذبائح والمعبد والاعياد والاجتماعات المقدسة والصلوات والقراءات. وباختصار تجمّعت فيها كل عناصر تنظيم الدولة. كان على القبائل أن تجتمع بالأخص ثلاث مرات في السنة، في الأعياد الاحتفالية والعامة، في الفصح والعنصرة والمظال. ولا يجب أن تكون هذه الاجتماعات في مكان آخر. إذًا هو مديح أن يقول: "هناك صعدت القبائل". أو بحسب ترجمة أخرى: "هناك صعدت الصوالج" (أو الأسباط). لا يقول المرتّل فقط "القبائل"، بل "قبائل الرب". فكل القبائل كانت قبائل الرب. ولم يكن ليسمح لها أن تقوم بهذه الاحتفالات في موطنها. يجب أن تكرم العاصمة التي تجمع، التي تجتذب إليها كل القبائل. (يوحنا فم للذهب).