رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
صرت كزقٍ في جليد يقول المرتل: "صرت مثل زقٍ في جليد" [83]، وحسب النسخة العبرية: "صرت كزقٍ في الدخان". الزق هو وعاء من جلد الحيوانات المدبوغ بعد ذبحها "قربة"، كانت الشعوب القديمة تستخدمها في نقل الماء إلى المنازل، كما في تخزين السوائل مثل الخمور واللبن. كانت هذه الأوعية تُحفظ في جوٍ جافٍ قريبة من حرارة الموقد أو الفرن. ربما يشّبه المرتل نفسه هنا بالزق الذي يُعلق في الخيمة بينما يشعل صاحب الخيمة النار (الحطب) فيملأ الدخان الخيمة ويصعب على الإنسان أن يرى الزق المعلق لأن لونه اسمر داكن يحمل ذات لون الخيمة. لقد كادت التجارب أن تحطمه إذ حوطته كالدخان، وصار شبه مجهول، مُعلق في خيمة، لا يحمل إلا رائحة الموت (جلد حيوانات ميتة)... وسط هذه المشاعر المرة تتوق نفس المرتل إلى المخلص القادم حسب الوعد الإلهي، فهو وحده يقيم له وزنًا ويهتم بحياته، إذ يقول: "تاقت نفسي إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت" [81]. * من الذي ينطق بهذا إلاَّ الجيل المختار، الكهنوت الملوكي، الأمة المقدسة (1بط9:2)، هؤلاء يتوقون إلى المسيح (المخلص) منذ بدء الجنس البشري حتى نهاية هذا العالم، كل واحدٍ حسب زمانه سواء الذين عاشوا، والذين يعيشون أو سيعيشون...؟! كان في الأجيال الأولى للكنيسة قديسون جاءوا قبل ميلاد البتول، هؤلاء اشتهوا تحقق تجسده. أما في هذه الأيام حيث صعد (البتول) إلى السماء فيوجد قديسون يتوقون إلى ظهوره ليدين الأحياء والأموات... "وعلى كلامك ترجوت" [81]، أي على مواعيدك صار لنا الرجاء الذي به ننتظر الأمور التي لا يراها غير المؤمنين. يفضل البعض ترجمة الكلمة اليونانية هنا "رجوت أعظم"، فإنه بلاشك الرجاء (في مواعيد الله) أعظم من أن يوصف. القديس أغسطينوس "كلت عيناي من انتظار أقوالك، قائلتين: متى تعزيني؟!" [82]. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [مزامير داود تسبب ينابيع دموع تفيض1.] يرى البعض أن المرتل وقد طال انتظاره وترقبه لمجئ المخلص يعلن شوقه إليه، طالبًا التعزيات الإلهية، وأن يحل كالندى أو كالجليد عليه، فقد صار المرتل كالزق الذي يميت بالتوبة شهوات جسده متقبلًا عمل المخلص فيه كالندى. يقول القديس أثناسيوس أن المخلص هو ابن الله الذي خلصنا، وإليه تتوق النفس، وعليه يتكل المؤمنون، حتى قال أن أعين الآنبياء قد ذبلت منتظرة حضوره وعزائه. عنه كتب يوحنا الحبيب في الأصحاح الثاني من رسالته الأولى الجامعة: "وإن أخطأ أحد فلنا معزٍ عند الآب يسوع المسيح وهو كفارة لخطايانا". إنه يعزي من ينتظر مواعيده ويتطلع على أقواله الواردة في الأسفار الإلهية. * "كلت (ذبلت) عينايْ من انتظار أقوالك: قائلتين: متى تعزيني" [82]... هذا الذبول الطوباوي الذي للعينين الداخلتين المستحق للمديح لا يقوم على ضعف العقل بل على قوة الاشتياق نحو الوعد الإلهي، لهذا يقول "من انتظار أقوالك". بهذا المعنى يمكن لهاتين العينين أن تقولا: "متى تعزيني؟" سواء عندما نصلي أو نتنهد بهذه الغيرة والآنتظار الشغوف. القول: "متى تعزيني؟" يكشف عن امتداد المعاناة من الألم. متى يحدث هذا؟ يا رب، إلى متى تعاقبني؟ "مز3:6. تتحقق (التعزية) عندما نشعر بلذة السعادة بتأجيل (الألم) أو عندما نشعر بأن الزمن مقصر وسيأتي الله سريعًا للمساعدة. لكن الله يعرف ماذا يفعل ومتى، إذ هو "يرتب كل الأشياء بقياسٍ وعددٍ ووزنٍ" (حك18:11). القديس أغسطينوس "صرت مثل زق في جليد، ولحقوقك لم أنسَ" [83]. * إذ شُبه تجسد ابن الله بالندى على الجزة (قض37:6)... فإذًا يكون قوله وتعليمه جليدًا. وكل الذين يذعنون لقوله ويقبلون تعليمه يميتون أعضاءهم التي على الأرض كقول الرسول الإلهي، وهي الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذي هو عبادة الأوثان التي من أجلها يحل غضب الله على أبناء المعصية (كو5:3،6). لكن كل من يميتها ويضمر جسده ويجعله مثل الزق مقدمًا محبة لله الذي مات (من أجله) يستحق أن يقول: "تاقت نفسي إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت"... ولا ينسى أيضًا حقوقه. أنثيموس أسقف أورشليم واضح أن المرتل وقد اشتدت به الضيقة كاد أن يدخل إلى اليأس لولا رجاءه في وعود الله بالخلاص، وهنا نلاحظ الآتي: أ. مع ما بلغه المرتل من حزنٍ شديدٍ وكآبة قلب حتى شبّه نفسه بالزق، إلا أنه بقي أمينًا في ثقته في مواعيد الله: "على كلامك توكلت"، واثقًا في مراحم الله التي تقيم من الموت إلى الحياة [88]، متمسكًا بحفظ شهادات الرب مهما يكن الثمن [88]. ب. أعلن المرتل شوقه إلى خلاص الرب [81]، فإنه لا ينتظر خلاصًا من آخر سواه. سرّ شوقه لا أن ينجو من الضيقة فحسب، وإنما أن يلتقى معه كمخلصٍ ويتعرف على حبه وأحكامه وأسراره. ج. مهما اسودت الدنيا في عينيه يبقى المرتل منتظرًا خلاص الله، فهو آتٍ حتمًا، لأن الله لا يمكن أن ينقض وعوده أو يخزى الرجاء الذي بعثته كلمته. الخلاص قادم، وعلى المؤمن أن يطلبه ويلح في الطلب علامة ثقته في وعد الله. د. ليس لنا أن نحدد لله أوقاتًا، إنما تبقى أعيننا تتطلع إليه وتنتظر تحقيقه: "كلّت عيناي من انتظار أقوالك، قائلتين: متى تعزيني؟" [82] قد تكل أعيننا من انتظارها تحقيق مواعيد الله، لكن تبقى قلوبنا مملوءة رجاءً لا تعرف الفشل، فلا تكل. لقد تطلع إبراهيم بعينيْ قلبه وذلك بالإيمان فرأى يوم الرب، أدرك خلاصه العجيب من بعيد (يو56:8). ه. الإنسان بكل كيانه ينتظر تعزية الرب برجاءٍ مفرحٍ: الشفتان تنطقان لتعبّرا عما في داخل النفس: "تاقت نفسي إلى خلاصك" [81]، وتكل العينان من ترقبا انتظار الرب، ويصير الإنسان كله كزقٍ في جليد. تكل العينان بارتفاعهما المستمر في اتضاع نحو السماء تترقبان خلاص الله العجيب. فما يعجز اللسان عن التعبير عنه تعلنه العينان بانسحاقهما ودموعهما، فتنفتح أبواب السماء وتدخل الطلبة إلى العرش الإلهي. * حقيقة يريدنا أن نفهم بالزق الجسد المائت، وبالجليد البركة السمائية. تُربط شهوات الجسد كما بجليد فتصير بطيئة الحركة، بهذا لا ينسحب برّ الله من الذاكرة، حيث تعبر كلمات الرسول: "لا تعطوا الجسد مئونة لأجل شهواته" رو14:13، "أنا لا أنسى بركم"... لأن هوى الشهوة يبرد، فتشرق ذاكرة الحب. القديس أغسطينوس * من يميت أعضاءه ويشعر أنه يسير في عرضٍ باطلٍ (العالم الزائل) لا يكف عن القول: "صرت كزقٍ في الجليد"، كل ما كان فيَّ من نقط متسربة للشهوة قد جفَّ فيَّ. وأيضًا "ركبتاي ضعفتا من الصوم، نسيت أن آكل خبزي، بسبب صوت تنهدي التصقت عظامي بجلدي" (مز7:102)1. القديس جيروم |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
مزمور 119 | صرت مثل زق في جليد، ولحقوقك لم أنسَ |
مزمور 119 | صرت كزقٍ في الدخان |
مزمور 21 - الشكر لله الذي يمجد ابنه |
إن من يمدح أثناسيوس يمدح الفضيلة نفسها |
من يمدح أثناسيوس يمدح الفضيلة نفسها" |