القديس بولس
+ أعظم انتاجاته هي رسالته ذات الجلال التي بعث بها إلى أهل رومية. وحين كتب الرسالة لم تكن بتلك كنيسة إذ لم يكن قد وصلها أي رسول. فلقد كان التلاميذ من أهالي اليهودية. وبالطبع لم يكن لديهم وسائل النقل السريعة بل إن معظمهم كان يتنقل على الأقدام، ومن الطبيعي أن يبدأ الإنسان بأهل بيته. فرب المجد نفسه حين أوصى تلاميذه بأن يتلمذوا جميع الأمم قال لهم: " ...وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ " (أعمال 1: 8) وهم قد نفذوا وصيته هذه فلم يبرحوا أورشليم للكرازة في غيرها إلا بعد أن تشتتوا نتيجة للاضطهاد (أعمال 8: 1). وهم لم يتشتتوا إلا إلى المدن التي يعيش فيها بنو جنسهم. بل إن الأممي الأول الذي آمن بالسيد المسيح كان في قيصرية (أعمال 10).
إلا أنه كان في العاصمة الإمبراطورية بعض الأفراد الذين جاءوها للعمل مؤقتًا أو للاستقرار فيها. هذا ما قرره اليهود لبولس حين استدعاهم بعد وصوله إلى رومية بثلاثة أيام(1). ومع عدم وجود كنيسة فقد دفع الاشتعال الروحي ببولس إلى أن يكتب لهؤلاء الأفراد القليلين. فرسالته هذه ليست نتيجة لاحتياج وجده كما هو الحال في رسائله الأخرى، إنما هي رسالة لاهوتية عظمى يعالج فيها موضوع التبرر بالإيمان بيسوع المسيح مقابل التبرر بأعمال الناموس. كان قد خاض هذه المعركة بعنف في رسالته إلى الكورنثيين؛ وحمى وطيسها في رسالته إلى الغلاطيين. أما هنا فيكتب بهدوء لأنه كسب المعركة. والواقع أنها أعمق ما كتب. ونتجنب عمقها العميق لنتبصر المبدأ الجذري الذي يقيم عليه صرحها. ويمكن تلخيصه فيما يلي: أنتم مدركون حاجتكم إلى مخلّص لأن الجميع -يهودًا وأمميين- قد كسروا ناموس الله. وقد يقول قائل إن الأمميين لم يكن لهم ناموس. نعم. كان لهم ناموس الله في ضمائرهم وبما أن الجميع أخطأوا فالجميع تحت الدينونة. وهنا تأتي الأخبار المفرحة من الله. فالآب محب البشر قد هيأ الدواء. ومن جانبه هي عطية مجانية كريمة؛ ومن جانبنا هي تقبّل من غير استحقاق. فلم يعد هناك مجال للمقايضة و لا للاكتفاء الذاتي ولا للكبرياء إذ لا يوجد من يستطيع أن يخلِّص نفسه: "وبأعمال الناموس لا يتبرر كل ذي جسد". والله لا يفرق بين الناس: اليهود واليونانيين، كبار الخطاة وصغارهم - جميعهم يرحّب بهم ويحتضنهم. ولكل نفس تائبة لا يمنح مغفرته عن الماضي فقط، بل يهبها قوة الروح القدس. ولنلحظ كيف يركز بتوكيد على قوة الروح القدس. ولكي نحظى بهذه المنحة العظمى مات السيد المسيح عنا ونحن خطاة. وليست هناك سلطة يمكنها أن تحول بيننا وبين محبته: "...لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رو 8: 38، 39) ثم تأتي بعد ذلك الأصحاحات الخاصة بالأسرار العميقة عن دعوة الله العليا التي كثيرًا ما أسيء فهمها. وهو -فيها- يقدّم الرجاء الخفي لشعب إسرائيل الذي فقد دعوته العليا آنذاك، والذي سيخلص يومًا ما.