رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الرد على تبرير أيوب نفسه لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: تَبَرَّرْتُ، وَاللهُ نَزَعَ حَقِّي [5]. جاءت هذه الكلمات في أيوب (أي 13: 18؛ 27: 2) لكنه قالها ليبرئ نفسه، لأن أصدقاءه طعنوه في شخصه، فأراد تأكيد براءته من الاتهامات الباطلة، دون أن يقصد أنه يتبرر أمام الله، وأنه معصوم من الخطأ. لم يلمح قط أنه دومًا طاهر القلب، وأنه لم يخطئ قط ضد ناموس خالقه. حقًا قال إن الله نزع عنه حُكمه، لكنه لم يكن يعني قط أنه يود أن يقاضي الله متهمًا إياه بالظلم، وإنما ما عناه أن الله يتعامل معه بطريقة سرية غامضة، وليس كما اعتاد أن يلمسه في علاقته به من قبل، من جهة عنايته الإلهية الفائقة. ما كان غامضًا بالنسبة له ليس ما حلّ به من تجارب، إنما كيف سمح لأصدقائه أن يتعثروا فيه. لقد اعترف أيوب بخطاياه، لكنه يحمل برّا نسبيًا إن قورن بإخوته في البشرية، لا إن قورن بالله. فقد قيل: "لأنه لا إنسان صديق فيالأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ" (جا 7: 20). * لا أعرف إنسانًا كاملًا في شيء... وهو بعد إنسان، إلا ذاك الذي وحده من أجلنا لبس ناسوتيتنا. القديس إكليمنضس السكندري الأب يوحنا من كرونستادت القديس أغسطينوس عِنْدَ مُحَاكَمَتِي أُكَذَّبُ. جُرْحِي عَدِيمُ الشِّفَاءِ مِنْ دُونِ ذَنْبٍ [6]. لعل أيوب يتساءل: هل يكذب ويتهم نفسه بالشر حسبما جاء في فكر أصدقائه، فيكون قد صار كاذبًا ضد إعلان براءته مما نسبوه إليه. إنه يصرخ، فقد صار جرحه عديم الشفاء بدون إثم ارتكبه. لقد اتهموه بأنه أشر مجرمٍ، وتعاملوا معه بأبشع صورة، مع أن الله نفسه شهد بكماله، وأن الشيطان هيَّجه عليه بلا سبب (أي 1: 1؛ 2: 3). يقصد بجرحه هنا النكبات التي حلت به، وقد بدت عديمة الشفاء، ليس من علاجٍ لها، ولا من إمكانيةٍ لإصلاح الموقف. جاء التصوير هنا أن أيوب يشبه حيوانًا ضُرب بسهمٍ قاتلٍ دون ذنب ارتكبه. ما يشتكي منه أيوب ليس أنه بلا خطية، ولكن ما حلّ به من نكبات، شوهت صورته تمامًا، خاصة في أذهان أصدقائه. فَأَيُّ إِنْسَانٍ كَأَيُّوب،َ يَشْرَبُ الْهُزْءَ كَالْمَاءِ [7]. يرى البعض أن هذا المثل يناسب البيئة الصحراوية قديمًا، إذ يشبّه الإنسان بالجمل الذي يشرب كمية ضخمة من الماء تمكنه من عدم الشعور بالعطش لمدة طويلة أثناء رحلته في البرية الجافة. هكذا شرب أيوب كميات ضخمة من التجارب، يستمر أثرها أثناء كل رحلته هنا في برية هذا العالم. أورد أليفاز عبارة مشابهة عند اتهامه لأيوب (أي 15: 16). وَيَسِيرُ مُتَّحِدًا مَعَ فَاعِلِي الإِثْم،ِ وَذَاهِبًا مَعَ أَهْلِ الشَّرِّ؟ [8] حسب أليهو أيوب أنه مرافق للأشرار، لأنه حمل أفكارًا مثلهم في عتابه مع الله (أي 9: 22-23؛ 30؛ 21: 7-15)، على الأقل بقوله إن الذين يفعلون الشر لا يُعاقبون. يبدو كأنه أنكر عدل الله بسبب عدم معرفته لما وراء الضيقات التي حلت به، بينما لم تحل بالأشرار، فحسبه أليهو كمن صادق بأفكاره الأشرار. لأَنَّهُ قَالَ: لاَ يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ بِكَوْنِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ [9]. إذ تَبَنَّى أيوب هذا الفكر وسط مرارة نفسه، فقال بأنه لا منفعة من خدمة الله، وأن سلوك الإنسان بالبرّ لا ينفعه شيئًا، لأن الله لا يدافع عن الأبرار ضد مقاوميه، بهذا حسب أليهو أن أيوب في صداقة مع الأشرار. لأَجْلِ ذَلِكَ اسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي الأَلْبَابِ. حَاشَا للهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ [10]. يدعو أليهو الحاضرين للاستماع إلى إجابته على ما ظنه مفاهيم خاطئة لدى أيوب، مظهرًا أن أيوب استخدم تعبيرات غير لائقة في عتابه مع الله بخصوص أحكامه. "يا ذوي الألباب (الفهم)"؛ الكلمة العبرية تعني "القلوب"، إذ كان اليهود يحسبون القلب هو مركز كل العمليات العقلية وعرشها. لا يتحدثون عن العقل أو الرأس كعرشٍ للعمليات العقلية. هكذا يحسب أليهو الحاضرين حكماء، وأنهم قادرون على إدراك الفكر الذي يعرضه بخصوص برّ الله وعدله في أحكامه. يود أن يؤكد أليهو أنه حاشا لله أن يخطئ أو يصنع شرًا. يقول أليهو: يلزمنا ألاَّ نضع تصرفات الله في موازين بشرية، فنتهمه أحيانًا بالظلم. إنما يليق بنا أن نثق بأن كل طرق الله حق هي وعادلة، لأنها طرقه وهو قدوس، وليس لأننا نراها هكذا. "فماذا نقول: ألعل عند الله ظلمًا؟ حاشا" (رو 9: 14). "حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر! أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك! أديان كل الأرض لا يصنع عدلًا؟" (تك 18: 25). "هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل، إله أمانة، لا جور فيه، صديق وعادل هو" (تث 32: 4). "عادل أنت أيها الرب، وجميع أحكامك مستقيمة وطرقك كلها رحمة وحق وحكم" (طوبيا 3: 2). "الله قاض عادل، وإله يسخط في كل يومٍ" (مز 7: 11). "لأن الرب عادل ويحب العدل، المستقيم يبصر وجهه" (مز 11: 7). "خوف الرب نقي، ثابت إلى الأبد، أحكام الرب حق عادلة كلها" (مز 19: 9). "عادلة شهاداتك إلى الدهر، فهمني فأحيا" (مز 119: 144). "وإذ أنت عادل تدبر الجميع بالعدل، وتحسب القضاء على من لا يستوجب العقاب منافيًا لقدرتك" (الحكمة 12: 15). "فسهر الرب على الشر وجلبه الرب علينا، لأن الرب عادل في جميع أعماله التي أوصانا بها" (با 2: 9). "لأنك عادل في جميع ما صنعت، وأعمالك كلها صدق، وطرقك استقامة، وجميع أحكامك حق" (دا 3: 27). "الرب عادل في وسطها لا يفعل ظلمًا. غداةً غداةً يبرز حكمه إلى النور لا يتعذر، أما الظالم فلا يعرف الخزي" (صف 3: 5). "وهذا ما صلى به نحميا: أيها الرب، الرب الإله خالق الكل المرهوب، القوي العادل الرحيم، يا من هو وحده الملك والبار" (2مكابين 1: 24). "يا من هو وحده المتفضل العادل القدير الأزلي، مخلص إسرائيل من كل شرٍ، الذي اصطفى آباءنا وقدسهم" (2مكابين 1: 25). "وسمعت ملاك المياه يقول: عادل أنت أيها الكائن والذي كان والذي يكون، لأنك حكمت هكذا" (رؤ 16: 5). "وسمعت آخر من المذبح قائلًا: نعم أيها الرب الإله القادر على كل شيء، حق وعادلة هي أحكامك" (رؤ 16: 7). "لان أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بزناها، وانتقم لدم عبيده من يدها" (رؤ 19: 2). * إن كان ذاك الذي تدعوه الآب هو دياننا، وإن كان لا يحابي الوجوه، فلنسرع إذن ونبذل كل الجهد خلال رحلتنا هنا على الأرض بكل مخافةٍ وسلوكٍ مقدسٍ... بهذا نعرف أن هذا الآب بعينه هو الذي يهبنا الوعود، وهو الذي يحفظنا دون أية عقوبة. القديس ديديموس الضرير القديس يوحنا الذهبي الفم القديس إيريناؤس لأَنَّهُ يُجَازِي الإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُنِيلُ الرَّجُلَ كَطَرِيقِهِ [11]. يعمل الله دائمًا بعدلٍ، فهو لن ينسى الأبرار، ولا يسمح للأشرار أن يزدهروا في النهاية. إنه سيتعامل مع كل إنسانٍ حسب استحقاقه. لم يكن يعني بهذا أنه يحكم على أيوب بأنه شرير بسبب ما حلّ به، وذلك كما اتهمه أصدقاؤه الثلاثة، وإنما يظن أنه يصحح مفهومًا غامضًا أو خاطئًا لأيوب عبّر عنه في مرارة نفسه. لننتظر، فإن الله سيكافئ الأبرار وأيضًا يجازي الأشرار إن أصروا على شرورهم، وذلك في الوقت المناسب. لقد قال الرب عن الملك الشرير يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: "لا يندبونه قائلين: آه يا أخي أو آه يا أخت. لا يندبونه قائلين: آه يا سيد أو آه يا جلاله. يدفن دفن حمار، مسحوبًا ومطروحًا بعيدًا عن أبواب أورشليم (إر 32: 18-19). كما قيل: "لكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة. الذي سيجازي كل واحدٍ حسب أعماله (رو 2: 5-6). "وإن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحدٍ، فسيروا زمان غربتكم بخوف" (1 بط 1: 17). "وها أنا آتي سريعًا وأجرتي معي لأجازي كل واحدٍ كما يكون عمله" (رؤ 22: 12). *لماذا لا يعاقب الله كل البشر بالرحمة بطريقة بها لا يسمح لأحد أن يتقسى ضده؟ (هذا التساؤل يصدر) بسبب الشر الذي تأهل إليه من صاروا قساة، أو بسبب أحكام الله الغامضة التي كثيرًا ما تكون خفية لكنها لن تكون ظالمة. الأب قيصريوس أسقف آرل فَحَقًّا إنَّ اللهَ لاَ يَفْعَلُ سُوءًا، وَالْقَدِيرَ لاَ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ [12]. يكرر أليهو هذا المبدأ مؤكدًا أن الله لا يفعل شرًا، ومسهبًا في الحديث عنه. تحت كل الظروف لا يمكن خرق هذا المبدأ ولا إلى لحظةٍ واحدةٍ. لقد عاب على أيوب أنه وإن كان يعتنق نفس المبدأ، لكنه تحت ضغط الآلام الشديدة، ظن أن الله يمكن أن يخطئ في حكمه، فيحل الظلم عوض العدالة (أي 34: 5؛ 8: 3). قال الرب للشيطان: "قد هيجتني عليه لابتلعه بلا سبب" (أي 2: 3). وكما يقول البابا غريغوريوس (الكبير) قد يسمح الله بالأحزان بلا سبب (يستحقه الإنسان)، ولكن لن يدينه بلا سبب. يسمح الله لصديقيه بالأحزان لأجل تنقيتهم أو تزكيتهم، لكنه لا يسمح لهم بالأحزان في يوم الدينونة. * تحصل على عالم النور عوض ألمٍ مريرٍ تتحمله لأجله ليومٍ واحدٍ. إن صبرت على الجوع قليلًا من أجل حبه، عندئذٍ تلتهب رغبتك لرؤية وجهه. إن ظهرت الظلمة على وجهك من الأعمال لأجله، يجمّلك بمجده إلى الأبد بلا نهاية. إن تعريت مما هو لك، يُلبسك نوره، ويخفي عنك ما هو لك. إن تركت ما تملكه، تقتنيه في نفسك أبديًا. الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي) إنه سيمسح عَرَقْ التعب. إنه سيجفف كل دمعة، ولا يكون بكاء بعد. هنا أسفل يلزمنا أن نئن وسط التجارب، إذ يتساءل أيوب: "ما هي حياة الإنسان على الأرض سوى محنة؟" (أي 7: 1). القديس أغسطينوس |
|