رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
خدمته للجميع لأَنَّ الأُذُنَ سَمِعَتْ فَطَوَّبَتْنِي. وَالْعَيْنَ رَأَتْ فَشَهِدَتْ لِي [11]. لا تقوم هذه الكرامة على غناه، ولا على سلطانه، وإنما على سلوكه العملي، فالكل شهدوا له خلال سماع الأذن لحكمته وأحكامه، ورؤية العين لحبه وحنانه. لقد كان يتمثل بالله العادل المحب للبشر، فشهد الكل له. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في شخص أيوب الطوباوي رمزًا للكنيسة المطوٌَبة، فإن الكنيسة لها تقديرها وتكريمها وتطويبها من كل الذين يسمعون لها، ويرون حياتها المقدسة. تبقى الكنيسة مُضطهدة من المقاومين، لكنها مطٌوبة ومهوبة ومكرمة. لأَنِّي أَنْقَذْتُ الْمِسْكِينَ الْمُسْتَغِيثَ، وَالْيَتِيمَ وَلاَ مُعِينَ لَهُ [12]. تطويب الكل له يقوم على أعمال محبته، فلم يكن يستريح حتى يجد المسكين راحته، ولا يلذ له طعام حتى يجد اليتيم فيه عونًا له. يطالبنا القديس باسيليوس الكبير أن نتمثل بأيوب البار الذي صار أبًا للأيتام ومعينًا لهم (أي 29: 12). وقد قدم مفهومًا روحيًا عميقًا لهذا العمل الأبوي. فتبني الأيتام لا يقف عند مساندتهم ماديًا، وإنما يمتد لاحتضان الصغار لتكريس قلوبهم وحياتهم للرب. ففي إجابته على السؤال: "في أي عمر يُسمح للشخص أن يكرس نفسه لله، وفي أي وقت يًحسب نذر البتولية آمنا؟ يجيب هكذا: [مادام الرب يقول: "دعوا الأولاد يأتون إليٌ" (مز 10: 14)، ويمتدح الرسول من يعرف الكتاب المقدس من طفولته (2 تي 3: 15)، ومن يوجه أطفاله أن يُبنوا "بتأديب الرب وإنذاره" (أف 6: 4)، يبدو لنا كل أوقات الحياة، حتى المبكرة جدًا مناسبة للقبول للتلمذة (الرهبانية). حقًا يلزمنا أن نقبل أولئك الأولاد المحرومين من والديهم تحت رعايتنا، فنصير آباء للأيتام، مقتدين بأيوب (أي 29: 12).] * ليوضح لماذا يعلنون أنه مطوٌَب. يقتبس أعماله الصالحة، قائلًا: "لأني أنقذت المستغيث من يد المضايقين"، لكن يأتي هذا بعد أن ينسب الاستحقاق لله أولًا الذي حفظه وصانه حتى يمجد الرب (1 كو 31:1). * انظروا إنه لا يفتخر بأنه حاد عن الشر، ولا أنه قدم ذبائح كما فعل اليهود، إنما يفتخر أنه يتمم ما يريده الله (إنقاذ المساكين). يقول: "اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة" (إش 17:1). لاحظوا إنه لا يستبد بسلطانه، إنما يستخدمه متى كانت هناك حاجة إليه. كان أبًا ومدافعًا عن الجميع. لم يستخدم غناه في الظلم، ولا مجده للافتخار، ولا حكمته للشر، بل أن ينقذ الذين تثقلوا من ضغط الأشرار. القديس يوحنا الذهبي الفم الآن تنقذ "اليتيم الذي لا معين له"، حيث يهرب كل واحدٍ من شهوات العالم المُضطهد... ويجري إلى حضن الكنيسة المقدسة، فيجد فيها عون النصح. ربما يُفهم ب "اليتيم" أي مؤمن فبالموت عن الآب الصالح (يصير يتيمًا)، حيث يحرم منه إلى حين، ولا يُحرم من السلوان. البابا غريغوريوس (الكبير) بَرَكَةُ الْهَالِكِ حَلَّتْ عَلَيَّ، وَجَعَلْتُ قَلْبَ الأَرْمَلَةِ يُسَرُّ [13]. كان الذين تحت ضغوط مدمرة يجدون نجدتهم فيه، فينجون، وتحل بركتهم عليه، إذ لا يكفون عن الدعاء له، وكانت قلوب الأرامل المنكسرة تُسر وتبتهج بأعمال محبته وحنوه. إن كان الله ينسب نفسه للمرذولين والمحتاجين ومنكسري القلوب بكونه أب اليتامى وقاضي الأرامل، فإن أيوب وجد مسرته في الاهتمام بكل هذه الفئات المتألمة. * كم قدَّر القديس أيوب سمو الموت، إذ قال: "لتحل بركة ذاك الذي اقترب إلى الموت عليّ" (أي 29: 13)... إن رأينا أي فقير في لحظة الموت، فلنعينه على نفقتنا. ليقل كل شخص: "لتحل بركة الشخص الذي قارب الموت عليّ". إن رأينا أحدًا في ضعف لا نتخلى عنه. إن رأينا أحدًا في آلامه الأخيرة، لا نتركه... ليت كل شخصٍ وهو يموت يمدحك؛ كل شخصٍ يموت عن شيخوخة أو مصابًا بجرحٍ خطير أو يعاني من مرضٍ، وهو في لحظة الموت. هذه العبارة جلبت بركة لكثيرين جدًا... لتكن آخر كلمات ينطق بها الشخص قبل موته هي أن يردد اسمك، وإذ تفارق نفسه جسده تحل بركته عليك. *إذا كان من واجبنا أن نقدم الرحمة للجميع، ألا يلزمنا بالأولى أن نقدمها لذاك الصالح (المؤمن الذي يعاني من السجن)؟! وإن لم ينل منك شيئًا وقت الخطر حين يُقاد للموت، فتظن أن أموالك أفضل من حياة الرجل الذي يموت، أية خطية ترتكبها! لذلك ينطق أيوب بقوله الرائع: "بركة ذاك الذي في طريقه للهلاك والموت فلتحل عليٌ" (أي 13:29) . القديس أمبروسيوس البابا غريغوريوس (الكبير) لَبِسْتُ الْبِرَّ فَكَسَانِي. كَجُبَّةٍ وَعَمَامَةٍ كَانَ عَدْلِي [14]. لم تكن تصرفاته الحانية -إذ لم يسمح لأحدٍ أن يُظلم أو يُهان، ولا لمحتاجٍ أن يُذلَّ- تمثل دورًا معينًا يلتزم به، بل كانت ثوبه الذي لم يخلعه. لقد حسب هذه الأعمال ليست أمرًا ثانويًا في حياته، بل هي أمر ضروري، بدونها يتعرى أمام الله نفسه، فيرجع إلى حال أبويه آدم وحواء، وهما يستظلان تحت التينة في خوفٍ ورعدةٍ، مع عريٍ وخزيٍ! حسب أعمال البٌر ليست هبة منه يمنحها للغير، بل عطية إلهية تكسوه بالمجد. إنها عمامة (إكليل) ملوكية! لم يكن يلبس تاج الملوكية للافتخار والكرامة، إنما كان تاجه هو العدالة والرحمة. لم تكن كرامته في الثوب الملوكي الأرجواني ولا التاج ولا الصولجان لكن كرامته ودفئه في ثوب البرّ وإكليل الحق. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن أيوب لبس البٌر كعباءة، أو كمن يرتدي ثوب القاضي. ليس من أحدٍ قام بتعيينه قاضيًا للناس، لكن حياته الفاضلة المقدسة دفعته لهذا العمل، وأخضعت الناس لقبول حكمه في القضايا برضا. كما أن حياة موسى الفاضلة هيأته للعمل القيادي، هكذا بالنسبة لأيوب، فإن ممارسته للعمل القضائي جاء طبيعيًا من حياته الفاضلة. * يقول: "لبست البٌر"، فإنه يوجد أشخاص لهم مكانة أعظم من غيرهم، لكنهم كثيرًا ما يمارسون الظلم. لم يكن هذا حال أيوب، إذ عاش على الدوام في طريق البرّ. "لبست البٌر مثل عباءة"، أي هو حلتي للتزين. البعض يستاءون من هذا العمل، يتذمرون ويشعرون أنه عمل مرهق وشاق، لكنني أنا لست هكذا... ومع هذا من أقامه كقاضٍ؟ هذا صادر عن شخصه، بسبب فضيلته، وذلك كموسى. هذا ما يليق أن يكون عليه الرجال. أما من يجحد الفضيلة، فيجعل عليه ولاة. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس القديس أمبروسيوس القديس أغسطينوس هكذا نتطلع بعيني القلب إلى كل الاتجاهات، فنكون حريصين بكل اجتهاد في كل جانبٍ. لذلك بحقٍ قيل أيضًا بسليمان: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة" (أم 23:4). فقبل التحفظ أضاف أولًا "كل". بالتأكيد يليق بكل أحدٍ أن يفحص نفسه باجتهادٍ من هذا الجانب وذاك الجانب. ومادام هو في هذه الحياة يعرف أنه موضوع في معركة يخوض فيها ضد أعداء روحيين، لئلا يفقد المكافأة التي ينالها خلال مجموعة معينة من الأعمال بمجموعة أخرى. لئلا من جانب يسد الباب في وجه العدو، لكنه يفتح بابًا له من جانب آخر. فإنه إن كانت مدينة ما بمتاريس واقية عظيمة ضد أعداء مخادعين، ومحصنة بأسوارٍ قوية، ويحميها حرس لا ينامون من كل جانب، لكن وُجدت فتحة وحيدة غير محصنة وذلك خلال الإهمال، فإن العدو بالتأكيد يدخل... فذاك الفريسي الذي صعد إلى الهيكل ليصلي، لنسمع كيف كان لمدينة نفسه حصون، إذ يقول: "أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشر كل ما أقتنيه". ذاك الذي يقول: "أشكرك" بالتأكيد وضع حصونًا غير عادية. ولكن لننظر أين ترك فتحة بلا دفاع تجاه خطط العدو. "إني لست مثل هذا العشار" (لو 11:18-12). ها أنتم ترون كيف فتح مدينة قلبه لخطط العدو خلال مديحه لنفسه، المدينة التي عبثًا أحكم إغلاقها بالصوم والصدقة. البابا غريغوريوس (الكبير) كُنْتُ عُيُونًا لِلْعُمْي،ِ وَأَرْجُلًا لِلْعُرْجِ [15]. وهبه الله أن يكون عيونًا للعميان، حيث يقدم مشورة الصالحة لمن هم في حيرةٍ. وكان أرجلًا للعرج، حيث لا يقف الأمر عند تقديم النصيحة، بل بالحب يحل الكل ليكون أرجلًا تقود العرج في طريق الحق، فيبلغ بهم عمليًا إلى الحياة المتهللة في الرب. * "كنت عيونًا للعمي وأرجلًا للعرج" [15]. لم يقل قد خففت من أحزانهم، ولا كتمت شعورهم بالعمى، بل "كنت عيونهم"... في كل موضع حولت لهم الظلمة إلى نورٍ. القديس يوحنا الذهبي الفم * بالكرازة تنير الكنيسة العميان، بينما تسند العرج بمعونتها لهم. فإن الأعمى هو ذاك الذي لا يرى إلى أين هو ذاهب، والأعرج هو ذاك الذي ليس له القدرة أن يذهب إلى الموضع الذي يراه. غالبًا ما تُرتكب الخطية، إما بالجهل (العمي) أو الضعف (العرج)؛ فإما لا يعرف الإنسان ما يلزم أن يشتهيه، أو لا يقدر أن يفعل كل ما يشتهيه. البابا غريغوريوس (الكبير) أَبٌ أَنَا لِلْفُقَرَاءِ، وَدَعْوَى لَمْ أَعْرِفْهَا فَحَصْتُ عَنْهَا [16]. لم يكن مدافعًا عن الفقراء وسخيًا معهم فحسب، وإنما قدم أبوة صادقة، فلم يستنكف كملكٍ أن يدعو نفسه أبًا للفقراء. إذا قُدمت له قضية لا يتسرع في الحكم، بل يهتم بالاستماع إلى كل الأطراف، وفحص كل الجوانب بدقةٍ، فلا يجيب على أمرٍ قبل أن يسمعه (أم 13:18)، ولا يصدر الحكم لأول وهله لمجرد المنظر. "الأول في دعواه محق، فيأتي رفيقه ويفحصه" (أم 17:18). خلال أبوة أيوب الحانية لم يكن يهتم فقط بمن يسأله أن ينقذه من الظلم، وإنما يهتم أيضًا بمن لا يسأله. يجد لذته في البحث عن النفوس المحطمة لإنقاذها، فيفحص الدعاوى التي لم تُقدم له ولا عرفها. ربما يتساءل شخص ما: إن كنا نود أن نحمل نوعًا من الحنو أو الأبوة نحو الآخرين فهل نهتم بأمورهم الجسدية، بينما طلب السيد المسيح ممن دعاه للعمل معه أن يترك الموتى يدفنون موتاهم، ويتفرغ هو للخدمة الروحية (لو 60:9). يجيب البابا غريغوريوس (الكبير)على هذا التساؤل قائلًا: [فوق كل شيء يلزم على الذين يشرقون بالمواهب الروحية ألا يتجاهلوا تمامًا شئون إخوتهم الضعفاء، بل يلزمهم أن يعهدوا بهذا الأمر إلى آخرين لكي يديره من يناسبهم ذلك.] * حقًا، طوبى لذاك الذي لا يُخرج المسكين من بيته فارغ اليدين. ليس من هو أكثر طوباوية من ذاك الذي يشعر باحتياجات الفقراء وضيقات الضعفاء والعاجزين. ففي يوم الدينونة ينال الخلاص من الرب، الذي يحسب نفسه مدينًا له من أجل أعمال الرحمة التي أظهرها. القديس أمبروسيوس القديس يوحنا الذهبي الفم لقد أعلنت العطية النبوية في أكثر وضوح أننا لا ندعوه أبًا حسب الطبيعة، بل بعمل نعمة الله بالتبني. ولكي تتعلم بأكثر تدقيق من الكتاب المقدس الإلهي أنه ليس فقط يُدعى "أبًا" من هو أب طبيعي بل وغيره أيضًا، اسمع ماذا يقول الرسول؟ "لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباء كثيرون، لأني ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1 كو 15:4). كان بولس أبًا للكورنثويين، ليس لأنه ولدهم حسب الجسد بل خلال التعليم، وولدهم مرة أخرى حسب الروح. اسمع أيضًا أيوب: "أب أنا للفقراء". لقد دعا نفسه أبًا، ليس لأنه ولدهم جميعًا، بل من أجل اهتمامه بهم. القديس كيرلس الأورشليمي هَشَّمْتُ أَضْرَاسَ الظَّالِمِ، وَمِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ خَطَفْتُ الْفَرِيسَةَ [17]. قدرما قدم أبوة حانية للفقراء، لم يخشَ عنف الأشرار الظالمين المتكبرين. "هشمت أضراس الظالم". لم يقل أنه ينتقم منهم أو يقتلهم، لكنه يهشم قوى الشر والعنف، وينزع الفريسة من بين أسنانهم، ويخلصها بشجاعة، كما أنقذ داود الشاه من فم الأسد. * "أهشم أضراس الظالم". هذا ما يوصي به الرسول: "ليت من يحكم يعمل باجتهاد" (أنظر رو 8:12). "ومن بين أسنانه خطفت الفريسةٍ". لاحظوا صعوبة العمل. هؤلاء الذين بالفعل قد اُفترسوا وأُمسكوا، فإنه يقوم بإصلاح أمورهم... لاحظوا أيضًا أن فضيلته لا تُقارن في كل الأحوال. إن استدعى الأمر يعاقب، وإن استدعى الأمر يسند الآخرين. القديس يوحنا الذهبي الفم يظهر بالأضراس الخطط الخفية (لإبليس)، ويظهر بالأسنان ممارسة الخطية علنًا. قال المرتل عن هذه الأضراس والأسنان: "اللهم كسٌر أسنانهم في أفواههم. أهشم أضراس الأشبال يا رب" (مز 6:58). البابا غريغوريوس (الكبير) الأبثيوناس |
|