منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 11 - 03 - 2023, 06:59 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,281

أيوب | حياتنا وقتية




حياتنا وقتية

يبدأ هذا الأصحاح بصرخات مرة، ونظرة تشاؤمية من نحو الإنسان، بكونها مثقلة دوما بالمتاعب والضيقات التي لا تنقطع، كما يكشف أيوب عن حقيقتها كعشب حقل سرعان ما يذبل بحرارة شمس التجارب، وكظل سرعان ما يتبدد. يبدو أيوب كمن يصرخ إلى الله ليرفع يده عنه فيستريح من عناد التجارب، كما يبدو كمن لا رجاء له في الحياة من جديد بعد موته. لكن من يدقق في كلماته يجدها مملوءة رجاء في الرب، كمخلص للبشرية، وحده قادر أن يحولها عن الخطية إلى البر الحقيقي، ويهبها القيامة والحياة الجديدة بعد زوال السماء والأرض. إنه يتطلع إلى الموت كاضطجاع مؤقت أو رقاد يلحق استيقاظ.
فالأصحاح يقدم جانبين واقعيين، مرارة من تحل به التجارب القاسية، والمجد الذي ينتظره.
يرى البعض أن بعض كلمات أيوب التي تبدو كما لو حملت يأسا شديدًا لم تكن إلا لأنه يضع نفسه موضع الضعفاء حتى متى أعلن رجاءه في عمل الرب يكون مثل سيده القادم "فيما هو مجرب يقدر أن يعين المجربين".
وجد أيوب أن الحديث مع أصدقائه بلا نفع، فرفع قلبه إلى الله يناجيه فيما يخص حياة الإنسان على الأرض. يرسم أيوب صورة مؤلمة لحياة الإنسان. فيرى أنها قصيرة، وبصعوبة يمكن أن تشغل اهتمام الله، وبالتأكيد لا تشغله عقوبة الإنسان [1-3].
ليس من يقدر أن يجعل الإنسان طاهرًا [4]، فلماذا لا يتركه الله ينعم بالملذات حسبما يقدر أن يقتني، حتى وإن كان ليس إلاَّ عاملًا أجيرًا؟ [5-6]
يقارن أيوب بين شجرة مقطوعة ومصير إنسانٍ ميتٍ. يمكن للشجرة أن تعود للحياة، أما الإنسان فلا يستطيع [17-12؛ راجع 10: 21-22].
لو كانت ليست هذه هي النهاية: الهاوية أو حالة الموت، وأن الله سيستدعيه في النهاية ليلتقي معه وجهًا لوجه، لكان يمكنه أن يحتمل الآلام الحاضرة، ويذهب بفرحٍ ليلتقي مع الله، إذ يشعر أنه نزع عنه خطاياه إلى الأبد [13-17].
لكن نور الرجاء سرعان ما يتبدد بمجرد ظهوره، وإن كان يعود فيظهر ثانية في الأصحاح 19. الإنسان ليس مثل شجرة حية، وإنما مثل جبلٍ يتفتت، يبلى شيئًا فشيئًا بواسطة الله، ويفقد كل اهتمام هو وعائلته.


1. حياة الإنسان على الأرض

اَلإِنْسَانُ مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ قَلِيلُ الأَيَّامِ،
وَشَبْعَانُ تَعَبًا (غضبًا) [1].
يشترك أيوب مع أليفاز في أن الإنسان مولود للتعب والمشقة. يقول الحكيم: "لأن كل أيامه أحزان، وعمله غم، أيضا بالليل لا يستريح قلبه، هذا أيضًا باطل هو" (جا 2: 23). هكذا عندما يركز الإنسان على ما يحلّ به يتطلع إلى الحياة بنظرة مُرة. أما إذ رفع قلبه إلى الله، فيرى في الحياة عطية إلهية، ويدرك خطة الله خلف ما يحل به من متاعب، فتتهلل نفسه بروح الرجاء.
يتطلع أيوب إلى نفسه كما إلى كل إنسانٍ، فلا يجد ما يفتخر به، فإنه مولود المرأة، أي من زرع بشري ضعيف. يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن المرأة هنا تشير إلى الضعف الروحي، فالإنسان الذي يولد من امرأة في ضعفٍ يمتلئ من السخط. وهو قليل الأيام، مهما طال عمره يُحسب عمره كله أيامًا قليلة، وملخص كل حياته أنها أيام مملوءة بالتعب والألم، يندر أن يعبر يوم بدون ضيقة.
* بالحق حال الإنسان بؤس! يلتزم أن يقدم حسابًا عن خطيته، ومع ذلك لم يقدر أن يتجنب الخطية.
لقد اضطر إلى الدخول في محاكمة، ليقف أمام نظر الله القدير، معلنًا أسباب تصرفاته... مع أنه لا يقدر أحد أن يكون طاهرًا من الخطية.
يرجع الذنب إلى بدء الطفولة نفسها، قبل أن يوجد لدى الإنسان القدرة على إدراك للخطأ.
أي حال من البؤس هذا، أن حياته قصيرة والإغراء حلو، والمحن متضاعفة، والغيظ عمل يومي. فإنه حتى في وسط لحظة البهجة توجد مرارة دائمة .
القديس أمبروسيوس
يعلق القديس أغسطينوس على العبارة "شبعان غضبًا" (1:14) بأن غضب الله، إنما باعثه مراحمه ومحبته التي دفعته إلى تجسد الابن الوحيد في ملء الزمان لكي يجددنا وينزع عنا كل جرم الخطايا، سواء الخطية الجدية المتوارثة عبر الأجيال أو تلك التي نمارسها.
* سقط الجنس البشري تحت دينونة عادلة، وصار كل البشر أبناء الغضب. كُتب عن هذا الغضب: "عبرت أيامنا في سخطك، قضينا سنواتنا كقصةٍ قد رويت" (مز 90: 9). ويقول أيوب أيضًا عن هذا الغضب: "الإنسان مولود المرأة قليل الأيام، وشبعان غضبُا" (أي 14: 1). وعن هذا الغضب يقول الرب يسوع أيضًا: "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله" (يو 3: 36 - حديث القديس يوحنا المعمدان وليس السيد المسيح)... يُولد كل إنسانٍ بهذا الغضب، لذلك يقول الرسول: "كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين" (أف 2: 3).
القديس أغسطينوس
* الإنسان "مولود المرأة قليل الأيام"، لأن الله أمره أن يعود إلى التراب (تك3: 19). أما عن كونه شبعان غضبُا (فأيوب يفكر) في اللحظة التي تقبل الإنسان فيها الأمر بحفظ الوصية فعصاها (تك2: 17؛ 3: 6).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
* لاحظوا دقة التعبير: "تذخر لنفسك غضبًا"(رو 2:5)، موضحًا أن الدينونة لا تصدر عن الديّان، إنما هي نتيجة لعمل الخاطيء، إذ لا يقول "يذخر الله لك" وإنما "تُذخّر لنفسك"... إنه يحاول اجتذابك بكل وسيلة، فإن ظللت على عنادك تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة. ولكن لا يتبادر إلى ذهنك أن غضبه انفعال عنيف إنما هو العدالة، هو "استعلان"، حيث ينال كل إنسان ما يستحقه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي ترتكب في هذا العالم.
وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المجازي عن أعمالنا، وأن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.
فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم. لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ .
القديس يوحنا كاسيان
يرى القديس غريغوريوس النيسي أن أيوب يدعو الإنسان هنا "المائت".
* "المائت مولود المرأة قليل الأيام، وشبعان غضبُا" [1]. الكائن الذي يدعوه الكتاب المقدس في تاريخ الخليقة "إنسانًا"...هو بعينه يدعوه أيوب مائتًا ، أما الكتَّاب الوثنيون فبعضهم يدعونه كائنًا بشريًا ، وآخرون "متكلم ناطق".
القديس غريغوريوس النيسي


يَخْرُجُ كَالزَّهْرِ ثُمَّ يَذْوِي،
وَيَبْرَحُ كَالظِّلِّ وَلاَ يَقِفُ [2].
يشبه أيوب حياة الإنسان برمزين:
1. زهر الحقل أو العشب الذي يظهر قليلًا وسرعان ما ييبس بسبب حرارة الشمس ويسقط (إش 40: 7؛ يع 1: 11؛ 1 بط 1: 24).
2. الظل، كأن لا كيان له، سرعان ما يزول. وكما قال بلدد: "لأن أيامنا على الأرض ظل" (أيوب 8: 9).
* إنه "كالزهرة تزهر، ثم يسقط بعد أن يهتز" [2]. لقد أزهر الإنسان في الفردوس حتى أعطى أسماءً لكل الحيوانات (تك 2: 20). لكنه سقط بعد أن اهتز، حيث انجذب بخداع الحية (تك3: 4-5؛ 2 كو 11: 3). بعد هذا "هرب كالظل"، إذ وجد نفسه عاريًا، فهرب من الله، وأخفى نفسه تحت شجرة في الفردوس، حين دعاه الله: "آدم، أين أنت؟" (تك3: 7-9). رجاؤنا انهار، وإذ طُرد الإنسان من الفردوس، فسد وفقد كل معونته، وهلك تمامًا، فبضربة واحدة أُدين مطرودًا دون أن يكون لنا رجاء في الحكم لحسابنا.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
* الحياة في الجسد هي زهرة في عشب. حسنًا قيل بالمرتل: "الإنسان مثل العشب أيامه، كزهر الحقل كذلك يُزهر" (مز 103: 15). أيضًا يقول إشعياء: "كل جسد عشب، وكل مجده كزهرٍ" (إش 40: 6). فإن الإنسان مثل زهرة تختفي، فجأة يُظهر نفسه في يومٍ مفتوحٍ، وفي لحظة ينسحب بالموت حيث يختفي...
حيث ينسحب الإنسان يوميًا إلى الموت، لحظة فلحظة، بحق أُضيف: "يهرب كظلٍ، ولن يبقى على حاله"... لماذا تُشبه حياة الإنسان بالظل لا بالشمس، إلاَّ لأنه بحسب صوت الحق: "لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (مت 24: 12).
حسنًا قيل: "لن يستمر حال كما هو". فإنه ينتقل من الطفولة المبكرة إلى الطفولة، ومن الطفولة إلى الشبوبية، من الشبوبية إلى الرجولة، ومن الرجولة إلى الشيخوخة، ومن الشيخوخة إلى الموت. هكذا في الحياة الحاضرة يلتزم الإنسان بذات خطوات نموه أن ينقص. وهو دائمًا يتدمر بذات العلل التي يظن أنه بها يقتني ما هو لحياته. إذ لا نستطيع أن تكون لنا إقامة ثابتة هنا، فقد أتينا لكي نعبر، وبذات الوسائل التي بها نحيا نعبر بها يوميًا من هذه الحياة.
لم يكن الإنسان الأول قادرًا أن يدرك هذا الانطلاق من الحياة، وذلك قبل العصيان، إذ عبر به الزمن وهو قائم. ولكن بعد العصيان وضع الإنسان نفسه على نوعٍ من منزلق حاله المؤقت. إذ أكل الثمرة الممنوعة في الحال فشل في البقاء.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن هذا الخضوع للتغير الخارجي يصحبه تغير داخلي أيضًا، حيث يجاهد الإنسان ليمارس أعمالًا أفضل. فالذهن دائمًا في حالة تغير، إلاَّ إذا التزم الشخص بضبط ذاته حتى لا ينحدر إلى حالٍ سيئ.
[الذهن الذي هجر ذاك الذي هو قائم على الدوام فقد بقاءه واستمراره على حاله. بينما يجاهد لممارسة أمورٍ أفضل يلتزم أن يواجه ما يقاوم التيار، أما إن تراخي في محاولته للصعود بغير جهد يُحمل إلى الخلف إلى حالٍ أدنى مما عليه.
فالصعود يحتاج إلى جهدٍ، وفي النزول راحة من الجهد. لذلك يحذرنا الرب لكي ندخل من الباب الضيق، قائلًا: "اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق" (لو 13: 24)...
إن لم يوجد جهاد من قلبٍ ملتهب،ٍ فإن مياه العالم لا تُغلب، وتنحدر النفس إلى الأماكن السفلية.]


فَعَلَى مِثْلِ هَذَا حَدَّقْتَ عَيْنَيْكَ،
وَإِيَّايَ أَحْضَرْتَ إِلَى الْمُحَاكَمَةِ مَعَكَ [3].
يقف أيوب في دهشة أن الله العالم بأن حياة الإنسان أشبه بظلٍ لا يدوم، بل سرعان ما يتلاشى، مع هذا يهتم جدًا أن يأتي بأيوب للمحاكمة.
لقد صرخ داود المرتل: "يا رب أي شيء هو الإنسان حتى تعرفه، أو ابن الإنسان حتى فتكر به. الإنسان أشبه بنفخة، أيامه مثل ظل عابر" (مز 144: 3-4). مرة أخرى يقول: "فمن هو الإنسان حتى تذكره، وابن آدم حتى تفتقده" (مز 8: 4).
في تواضعٍ شديدٍ ينظر أيوب أنه ليس بالأهل أن يدقق الله في أخطائه، ولا أن يحاكمه. "يا رب لا تدخل في المحاكمة مع عبدك" (مز 143: 2).
* من يقدر أن يتبرر في عيني الله، إن كان الطفل ابن يومٍ واحدٍ لا يقدر أن يتطهر من الخطية، ولا يقدر أحد أن يفتخر ببره ونقاوة قلبه؟
القديس أمبروسيوس
* "ألم تعطه اعتبارًا، وأحضرته إلى المحاكمة أمامك؟" [3]. هذا لا يخص آدم وحده قبل عصيانه. فإن الله كان مهتمًا به كي لا يخطئ ولا يُطرد من الفردوس. لهذا أمره قبل أن يخطئ: "من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت" (تك 2: 16: 17).
أما بالنسبة لنا نحن أيضًا، فقد أعطانا اعتبارًا، فوضع لنا الناموس المكتوب، وأضاف أيضًا الأنبياء (مت 11: 13).
ماذا كان يمكن أن يقول أكثر من هذا؟ بجانب هذا أعطانا نعمة الإنجيل (أع 20: 24)، خلاله أشار إلينا كيف يمكننا أن نتقبل كرامة بدائية، كيف نتجنب التهديد بجهنم (لو 12: 5)، وأيضًا نطلب الفردوس (مر 13: 33).
طلب من الإنسان أن يدخل في محاكمة، لكي يتقبل الجزاء حسب أعماله (مت 16: 27).
إذ ندرك هذا كله يلزمنا أن نعبر حياتنا بطريقة سليمة، إذ يُعاقب كل أحدٍ ويكلل حسب أعماله. فالذين يتشبهون بآدم يسقطون تحت العقوبة، إذ لم ينتفعوا من الدرس الذي لتأديبهم. أما الذين يحفظون وصايا الناموس، فإنه يجعلنا نرى كيف يصيرون إلى حالٍ أفضل بحفظهم للوصايا (مت 5: 19). سنكون أهلًا لنوال مكافأة مضاعفة من جانب الديان العادل (مت 5: 12)، إذ تسندنا النعمة المعطاة لنا بآدم الجديد (رو 15: 15). فإن هذا هو الطريق الذي يمكننا به أن نتمتع بالسعادة في الملكوت وفي مجد الله الآب والابن والروح القدس.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
مَنْ يُخْرِجُ الطَّاهِرَ مِنَ النَّجِسِ؟ لاَ أَحَدٌ! [4]
في تواضعٍ حقيقيٍ يتطلع أيوب إلى حياته كعشب ييبس أو كظلٍ يتبدد، وفي نفس الوقت يرى حياته دنسة، من يقدر أن يُخرج من هذا الدنس طهارة؟!
وكما صرخ المرتل داود: "هأنذا بالإثم حبل بي، وبالخطية ولدتني أمي" (مز 51: 5). ليس من يقدر أن يطهر أو يقدس الإنسان إلا خالقه، فعملية التطهير هي أشبه بإعادة خلق. " قلبًا نقيًا أخلق في يا الله، وروحًا مستقيمًا جدد في داخلي" (مز 51: 10).
يرى أيوب أن الإنسان يحمل فساد الخطية منذ الحبل به، كقول المرتل: "بالآثام حبل بي، وبالخطية ولدتني أمي". وكأن أيوب يقول لله أنه خاطئ، لأن كل البشرية قد تنجست منذ سقوط الأبوين الأولين، فالكل يحتاج إلى تقديسك وتطهيرك لهم، ليس من يتبرر أمامك.
* بالرغم من أن خدام الله وأصدقاءه يتجنبون الخطايا التي للموت، ويمارسون أعمالًا صالحة كثيرة إلا أننا لا نعتقد أنهم بلا خطايا تافهة، فإن الله لا يكذب حيث يقول: "ليس طفل حياته يوم واحد على الأرض بلا خطية". أضف إلى هذا الطوباوي يوحنا الإنجيلي الذي بلا شك ليس بأقل من يعقوب في استحقاقه، يعلن: "إن قلنا أننا بلا خطية، نضل أنفسنا والحق ليس فينا" (1 يو 8:1). علاوة على هذا، نقرأ في موضع آخر: "الصديق يسقط سبع مرات ويقوم" (أم 16:24).
الأب قيصريوس أسقف آرل
* "من يقدر أن يطهر شيئًا به بذرة نجسة؟" إنه هو وحده الطاهر في ذاته يقدر أن يطهر الأمور النجسة.
فالإنسان الذي يعيش في جسدٍ فاسدٍ تتأصل فيه نجاسة التجربة، إذ يستمدها من مولده. فإن الحَبَلْ به هو نفسه يتحقق بلذة جسدية غير طاهرة. يقول المرتل: "بالآثام حُبل بي، وبالخطايا ولدتني أمي" (مز 51: 5)... لهذا يُجرب الإنسان بغير إرادته. أما من يسيطر على عواطف التجارب السرية، ويغلب دنس الفكر، فيلزمه ألاَّ ينسب هذه الطهارة إلى نفسه، إذ لا يستطيع أحد أن يجعل ما حُبل به في دنسٍ أن يصير طاهرًا، إلاَّ ذاك الذي هو وحده طاهر في ذاته.
المعنى هنا هو أن الطوباوي أيوب كان متطلعًا إلى تجسد المخلص، فرأى أنه هذا الإنسان وحده في العالم لم يُحبل به من زرعٍ دنسٍ، فلم يستمد شيئًا من حبلٍ دنسٍ. إذ لم يأتِ من زرع رجل وامرأة، بل من الروح القدس والعذراء مريم. هو وحده طاهر بحق في جسده، إذ لم يأتِ إلى العالم حسب مسرة الجسد.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* لقد اقتبست العبارة التالية من سفر أيوب: "في عينيك ليس أحد طاهرًا، ولو كان طفلًا عمره على الأرض يومًا واحدً" (4:14-5 LXX). وأضفت: "فإننا مذنبون على شبه معصية آدم"، وهو رأي يعلنه كتابك عن نبوة يونان بطريقة مشرفه وواضحة، حيث تؤكد أن أطفال نينوى الصغار بعدل التزموا أن يصوموا مع الشعب لمجرد خطاياهم الجدية، لذلك فإنه ليس من غير اللائق أن أوجه لك السؤال: أين مارست النفس الإثم الذي تلتزم به حتى في هذا العمر أن تخلص منه بسرٌ النعمة المسيحية؟
* ليس إنسان بلا خطية سواء كانت حياته يومًا واحدًا أو عاش سنوات طويلة. فإن كانت الكواكب نفسها ليست بطاهرة في عيني الله، كم بالأكثر الدودة والفساد هذا الذي صار عليه من خضعوا لخطية عصيان آدم؟

القديس أغسطينوس
* "من سيتطهر من النجاسة؟ لا أحد. ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض" (14: 4). لا يقدر أحد أن يفتخر قائلًا: "أنا طاهر"، سوى المسيح "الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر" (1 بط 2: 22).
,الطفل ابن يوم واحد الذي ليس فيه أية نجاسة، لأنه لا يعرف أن يميز الصالح من الشرير (إش 7: 15-16)، إلاَّ أنه يحمل فساد آدم القديم (1 كو 15: 42) الذي علينا. لكن نعمة آدم الجديد، الذي خلع عنا آدم القديم (أف 14: 22؛ كو 3: 9)، طهر أيضًا فسادنا "بغسل الميلاد الجديد" (تي 3: 5).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي


إِنْ كَانَتْ أَيَّامُهُ مَحْدُودَةً،
وَعَدَدُ أَشْهُرِهِ عِنْدَكَ،
وَقَدْ عَيَّنْتَ أَجَلَهُ،
فَلاَ يَتَجَاوَزُهُ [5].
يتطلع أيوب إلى حياته فيجد حتى عمره يحدده الله مقدمًا. فالله صاحب سلطان وقدرة يحدد عمر الإنسان باليوم والشهر، فلا يقدر أن يتعدى ما هو محدد له. يقول موسى النبي: "إحصاء أيامنا هكذا علمنا، فنُوتى قلب حكمة" (مز 90: 12).
الله هو الذي "يميت ويحي" (2 مل 5: 7)، لا يحدث شيء مصادفة، فحياة الإنسان معروفة لدى الله، وأيامه محددة لديه.
* "وقد عينت أجله (زمنه) فلا يتجاوزه" (14: 5). بالنسبة لكل البشر قد تعين ليس فقط بالسنوات والشهور، بل والأيام والساعات وذلك من جانب خالقنا. فقد "عين زمنًا"، وقد تحدد الزمن ولا يمكن تجاوزه مطلقًا.
ألا تعلمون أن كثيرين يخلصون من المرض المميت، بينما آخرون وهم في صحة جيدة يُختطفون فجأة من الحياة الزائلة؟ البعض يسقطون من أماكن عالية وينزلون في أمانٍ أصحاء، بينما آخرون وهم يمشون يختطفهم الموت في خطوة باطلة. مرة أخرى فإن البعض يخرجون من سفينتهم (أتناء غرقها) ويصعدون على لوحٍ خشبيٍ مجرد، فيصلون في صحة وأمان، بينما آخرون يجدون الموت قرب الميناء، تغرق سفينتهم هناك حيث لا يتوقع أحد أن يكون الموت نصيبهم، لكنه يتحقق بدعوة من الخالق.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
* أنا أعرف أن النفس البشرية روحية وليست جسدية، ممنوح لها العقل والتفكير، وهي ليست من جوهر الله، وإنما مخلوقة عن حياة الله التي وحدها حياة مطوّبة؛ وخالدة لأن شعورها يلزم أن يستمر على الدوام وتشكل مصدر سعادتها أو ويلها. حقًا إنها ليست مدينة لاحتجابها في الجسد إلى أعمالٍ مارستها قبل الجسد، لكنها في الإنسان ليست قط بلا خطية، حتى إن كانت حياتها يومًا واحدًا. من كل الذين يولدون من نسل آدم لا يولد إنسان ما بدون خطية. ومن الضروري حتى بالنسبة للأطفال أن يولدوا من جديد في المسيح بنعمة التجديد. أنا أعرف كل هذا بخصوص النفس .
* ليس من بين المولودين من نسل آدم إنسان وُلد بدون خطية, ومن الضروري حتى للأطفال الصغار أن يولدوا من جديد في المسيح بنعمة التجديد.
القديس چيروم
* بالنسبة لسرب خطايا النفس والإرادة الحرة، أية عظة يمكنها أن تعلن عنها؛ يقول: "من الداخل تخرج الأفكار الشريرة" (مر 7: 21؛ مت 15: 19). ويضيف قائمة بالأفكار التي تدنسنا.
فإن كانت شباك الخطايا منتشرة حولنا من كل جانب، خلال كل الحواس وحركات النفس الداخلية، من يقدر أن يفتخر بأن قلبه طاهر كما يقول الحكمة (أم 20: 9 LXX)؟ أو كما يشهد أيوب بذات الأمر: "من هو طاهر من وصمة؟" (أي 14: 4 LXX
الوصمة التي تلحق بنقاوة النفس هي اللذة الحسية التي تمتزج بالحياة البشرية بطرقٍ متنوعة خلال النفس والجسد، بالأفكار والحواس والحركات المتعمدة والتصرفات الجسدانية.
إذن من نفسه طاهرة من هذه الوصمة؟
كيف يوجد أحد غير مضروب بالخيلاء وغير مدوس تحت قدم الكبرياء؟
من لم يهتز قط بأيدٍ خاطئة، ومن لم تجرِ قدمه قط إلى الشر؟
من لم يفسد قط بتجوال عينيه نحو الفساد أو أذنيه غير المضبوطتين؟
من لم ينشغل قط في تذوقه بمتعة، ومن لم يتحرك قلبه قط بعواطف باطلة؟
القديس غريغوريوس النيسي
* "ليس أحد بلا وصمة، ولو كانت حياته يومًا واحدًا" (أي 14: 4). يئن داود قائلًا: "بالآثام حُبل بي، وفي الخطايا ولدتني أمي" (مز 51: 5). أيضًا يعلن الرسول: "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح، الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه" (رو 3: 23-25). لذلك يُمنح غفران الخطايا للذين يؤمنون، إذ قال الرب نفسه: "هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين، لمغفرة الخطايا" (مت 26: 28).
القديس باسيليوس الكبير
يستخدم العلامة أوريجينوس هذه العبارة لتأكيد ضرورة تعميد الأطفال، إذ ليس أحد بلا دنس ولو كانت حياته يومًا واحدًا.
* يًعمد الأطفال الصغار لمغفرة الخطايا (أع 2: 38). خطايا من هذه؟ متى صنعوا الخطايا؛ أو كيف يمكن شرح الغسل الخاص بالمعمودية أن يُمارس في حالة الأطفال الصغار إلا بحسب التفسير الذي تحدثنا عنه منذ قليل؟ "ليس أحد طاهرًا من دنس، ولو كانت حياته على الأرض يومًا واحدًا" (أي 14: 4-5). يُستبعد دنس الميلاد خلال سرّ العماد. لهذا حتى الأطفال الصغار يُعمدون. فإنه إن لم يُولد الإنسان مرة أخرى من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات.
* كل إنسانٍ يدخل هذا العالم يُقال عنه إنه يحمل فسادًا معينًا. هذا أيضًا يقوله الكتاب المقدس: "ليس أحد طاهرًا من دنس (قذر)، وإن كانت حياته يومًا واحدًا فقط" (أي 14: 4-5). وذلك في الحقيقة يُحدث في رحم (أي 3: 11) أمه، وقد أخذ جسدًا من أصل البذار الوالدية، فيقال عنه أنه "فسد في أبيه وأمه" (راجع لا 21: 11). ألا تعلمون أنه عندما يبلغ الطفل الذكر أربعين يومًا يُقدم على المذبح لكي يتطهر (لا 12: 2) إلخ.، كما لو كان قد تدنس في الحبل به بالبذار الوالدية أو رحم والدته؟ لهذا فكل إنسان "تدنس في أبيه وأمه" (لا 21: 12).
إنما يسوع وحده ربي جاء إلى العالم طاهرًا في ميلاده هذا ولم يتدنس في أمه، لأنه دخل إلى جسم غير مدنس. إذ هو ذاك الذي قال منذ زمن طويل بسليمان: "كنت صالحًا فأتيت في جسد غير مدنس" (حك 8: 20).
العلامة أوريجينوس
* ليس أحد طاهرًا من خطية حتى وإن عاش يومًا واحدًا. حيث أن الرسل والقديسين لم يجسروا أن يقولوا: نحن قديسون. ولا تجاسروا بالقول: "أنا أُسر" بل "أنا سأسر". يعد النبي بخصوص المستقبل ويعترف بأنه لم يفعل ذلك في الماضي: "سأسر الرب". أين أسر الرب "في أرض الأحياء" (مز 116: 9). هذه الأرض هي أرض الأموات، الأرض الأخرى هي أرض الأحياء.
* امسكوا بقدمي المخلص. اغسلوهما بدموعكم، وجففوهما بشعركم. عندما تفعلون هذا تبلغون إلى رأسه. عندما تنزلون في ينبوع الحياة مع المخلص، حينئذ تتعلمون أن تسكبوا الدهن على رأس المخلص. إن كان المسيح هو رأس كل رجل (اكو 11: 3)، يلزم أن يُمسح رأسكم، وبعد عمادكم تمسحون .
القديس جيروم
* "بالآثام حبل بي" (مز 6:51). هل وُلد داود من زنا، بكونه وُلد من يسى (1 صم 18:16)، الرجل البار وزوجته؟ ما الذي يقوله عن نفسه إلا تلك الآثام التي جاءت من آدم؟ حتى رباط الموت قد غُرست في النفس مع الإثم ذاته؟
فإنه ليس إنسان وُلد دون أن تُجلب معه العقوبة، يُجلب معه الاستحقاق للعقوبة.
يقول نبي في موضع آخر: "ليس أحد طاهرًا في عينيك، ولو كان طفلًا، حياته يومًا واحدًا على الأرض" (أي 5:14 LXX )(726).
القديس أغسطينوس
* الذين يريدون أن يقدموا عذرًا لخطاياهم يدعون بأنه لا يوجد أحد بلا خطية. إنهم يلجأون إلى شهادة سفر أيوب حيث يقول: "ليس أحد طاهرًا من قذر، وإن كانت حياته على الأرض يومًا واحدًا. عدد أشهره يُمكن إحصائها" (أي 14: 4-5 LXX).
إنهم فقط ينطقون بهذه العبارة ويجهلون معناها تمامًا. إننا نجيبهم في اختصار. لكي يكون الإنسان بلا خطية هذا له معنيان في الكتاب المقدس. معني أن الإنسان لم يخطئ قط، والثاني أنه يكف عن ارتكاب الخطية.
فإن قالوا هذه العبارة: "بلا خطية" تعني أنه لا يوجد أحد لم يخطئ قط فإننا نوافقهم، إذ لا يوجد أحد بدون خطية. كلنا أخطأنا في وقت ما حتى وإن صرنا فضلاء بعد ذلك.
ولكن إن أخذوا النص بمعنى أنهم ينكرون أن الشخص بعدما يخطئ يمكنه أن يمارس الفضائل ولن يعود بعد إلى الخطية، فرأيهم هذا خطأ. إذ يمكن أن يحدث أن إنسانًا كان قبلًا يخطئ يتوقف عن خطأه وُيقال عنه أنه "بلا خطية".
ربنا يسوع المسيح "أحضر لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها" (أف 5: 27)، ليس لأن أعضاء الكنيسة لم يكن بهم دنس قط، وإنما لأنهم مؤخرًا تحرروا من الدنس. يضيف الكتاب: "ولا غضن"، ليس لأن أعضاء الكنيسة لم يكن فيهم غضن الإنسان القديم (أف 4: 22؛ كو 3: 9) في أيّ وقت، وإنما لأنهم كفوا عن أن يكونوا هكذا .
العلامة أوريجينوس
* هذه أيضًا يمكن أن تؤخذ بخصوص الروح، فإننا أحيانًا نحاول أن نتقدم في بلوغ مكاسب في الفضيلة وبعض المواهب المقدمة لنا، لكننا نُمنع من بعضها... فإنه لا يوجد إنسان يبلغ إلى الدرجة التي يشتهيها، إنما الله القدير الذي يميز ما بداخلنا يضع حدودًا للمكاسب الروحية ذاتها. هكذا بالأمور التي يحاول الإنسان أن يسود عليها ويعجز عن ذلك، لا يعود يفتخر حتى بالأمور التي في سلطانه.
هذا هو السبب الذي لأجله الكارز العظيم الذي حُمل إلى السماء الثالثة واخترق أسوار الفردوس (2 كو 12) بعد نواله هذا الإعلان لم يُعطَ له سلطان ليستريح، وأن يكون بدون تجربة، إنما لأن الله القدير "عيَّن للإنسان حدوده فلا يتجاوزها"، رفعه ليدرك أمورًا علوية، ثم عاد فنزل به ليخضع لضعفاتٍ. هذا حدث لكي لا يتكبر بذاته، بل يلتزم بالتواضع، فيلزم حدوده، وبعد تطلعه إلى قياس حدوده يسعى أن يكون في أمان.
البابا غريغوريوس (الكبير)
جاءت الترجمة السبعينية: "ليس إنسان طاهرًا من وصمة (قذر)". ويعلق العلامة أوريجينوس على ذلك بالقول بأن العبارة لم تقل: "ليس إنسان طاهرًا من خطية" وإنما "من قذرٍ". [فكل نفس ارتدت الجسم البشري لها قذارتها، أما يسوع فقد قبل ذلك بإرادته إذ أخذ الجسم البشري من أجل خلاصنا (إذ حمل فيه وصماتنا). [لتصغ إلى زكريا النبي؛ إنه يقول: "وكان يشوع لابسًا ثيابًا قذرة" (زك 3: 3). يقول زكريا هذا لكي يرد على الذين ينكرون أن ربنا أخذ له جسدًا حقيقيًا، ويدعون أن جسده من مادة سماوية روحية.
يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة بأنه ليس أحد من القديسين يقيم احتفالًا بعيد ميلاده. على العكس نجد في العهد القديم فرعون أقام احتفالًا بمولده، وفي الوليمة قتل رئيس الخبازين وعلقه (تك 40: 20-22)، وهيرودس صنع وليمة يوم ميلاده وقطع رأس القديس يوحنا المعمدان.
2. الموت والعبور من الألم



فَأَقْصِرْ عَنْهُ لِيَسْتَرِيحَ،
إِلَى أَنْ يُسَرَّ كَالأَجِيرِ بِانْتِهَاءِ يَوْمِهِ [6].
إذ اشتدت به الضيقة التي يحسبها أيوب أنها بسماح من الله، يطلب منه أن يرفع يده عنه ليستريح من شدة ما حلّ به. وكما يقول المرتل: "أقصر عني، فأتبلج قبل أن أذهب فلا أوجد" (مز 39:13).
كأنه يقول لله، إن أفضل أيامي مملوءة تعبًا وشقاءً، فاسمح لي أن أتنفس من الضيق المستمر. فالأجير يتطلع برجاء إلى نهاية يومه ليستريح من التعب. أحسب أيامي كأيام أجيرٍ! ليكن فيها تعب، ولكن تتخللها فترات راحة.
* "فأقصر عنه (إلى حين)، ليستريح إلى أن يُسر كالأجير بانتهاء يومه" [6]. يقصد هنا ب "أقصر عنه" انزع عنه عنف الضربة. لكن من يقدر أن يستريح إن ابتعد عن (الله)، مادام الله وحده هو الراحة؟ وقدر ما يبتعد الإنسان عنه يبتعد عن الراحة؟
قدر ما يكون الأجير بعيدًا عن نهاية عمله، يكون بعيدًا عن مكافأة أجرته. لهذا فكل قديسٍ قائمٍ في هذه الحياة، بينما يرى أنه بعيد عن الرحيل من الحياة الحاضرة يحزن بأنه بعيد عن البركة الأبدية.
البابا غريغوريوس (الكبير)


لأَنَّ لِلشَّجَرَةِ رَجَاءً.
إِنْ قُطِعَتْ تُخْلِفْ أَيْضًا،
وَلاَ تُعْدَمُ أَغْصَانُهَا [7].
يتطلع أيوب إلى حياته على الأرض وهي حياة واحدة متى عبرت لا تعود، بينما الشجرة إن قُطعت وتُرك جذُرها في التربة تنبت أغصانًا صغيرة، كأنها غرست حديثًا. فإن رطوبة الأرض وأمطار السماء تؤثر في جذعها لكي تتنفس وتعيش من جديد، أما الإنسان فمتى دفن في القبر لا يقوم في هذا العالم.
يرى أيوب أن الحياةبالنسبة للأشجار أفضل منها للإنسان، فعندما تسقط شجرة يمكن أن تنبت من جذعها شجرة جديدة. عندما تنبأ إشعياء النبي عن إصلاح حال مدن يهوذا بعد خرابها قدم التشبيه التالي: "ولكن كالبطمة والبلوطة التي وإن قطعت، فلها ساق يكون ساقه زرعا مقدسا" (إش 6: 13). فإن بيت يسى - أي إسرائيل - يقطع، كما تقطع بلوطة (سنديانة) عظيمة. لكن الله برحمته العظيمة يسمح لجذع هذه البلوطة أن تنبت من جديد فتأتي بفرعٍ بهيٍ جديدٍ، هو المسيا المخلص الذي من سبط يهوذا. "يخرج قضيب من جذع يسى، وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب..."(إش 11: 1).
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا نبويًا حيث يرى في هذه العبارات نبوة عن موت السيد المسيح وقيامته.
* كان قادرًا أن يموت بآلامه، لكن بمجد قيامته جاء إلى خضرة الحياة مرة أخرى. فروعه التي تنبت هي المؤمنون به الذين يتضاعفون بقيامته فينمون ويتسعون. أصله يبدو كمن قد قدُم في الأرض، إذ أن الكرازة به كانت لغير المؤمنين من اليهود أمر مهين. "جذعه جف في التراب"، حيث الآن قلوب مضطهديه التي أمسك بها روح عدم إيمانهم، فصار كمن هو مُحتقر ومرذول، لأنه كان قادرًا أن يموت بالجسد. ولكن "برائحة المياه نبت" بقوة الله، وجسده بعد موته قام من الأموات. وذلك كما هو مكتوب: "أقامه الله من الأموات" (أع 3: 15)..."وأنبت أوراقًا كغرسٍ جديدٍ"، إذ أن ضعف الرسل، إذ وقت موته خافوا، وبإنكارهم له صاروا جافين، وبمجد قيامته حيّوا من جديد في الإيمان. بالمقارنة بهذه الشجرة، ماذا يكون كل إنسان إلاَّ ترابًا؟
البابا غريغوريوس (الكبير)
* إن كان يوجد رجاء للشجرة المنظورة لحياة جديدة حتى بعد قطعها مادام جذرها ثابتًا، كم بالأكثر بالنسبة للشجرة الممنوحة عقلًا؟ فكما يوجد فأس لهذه الشجرة، يوجد أيضًا فأس للشجرة التي بها عقل (لو 3: 9).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي


وَلَوْ قَدُمَ فِي الأَرْضِ أَصْلُهَا،
وَمَاتَ فِي التُّرَابِ جِذْعُهَا [8].
* ما هو أصل (جذر) الصديق إلاَّ الكرازة المقدسة، إذ هي مصدره، التي يتمسك بها؟ وماذا يعني بالأرض أو التراب إلاَّ الخاطي؟ الذي قيل له بصوت الخالق: "أنت تراب، وإلى ترابٍ تعود". هكذا أصل الصديق "يقدُم في الأرض، وجذعه يموت في التراب"... فبحسب كلمات الحكمة: "في نظر الجهال يبدو أنهم ماتوا، ويكون رحيلهم للبؤس" (حك 3: 2).
أما ذاك الذي أصله يقدم في الأرض وجذعه يموت في التراب، فإنه برائحة الماء ينبت، وذلك خلال إلهام الروح القدس، على مثال سلوكه، ويسبب نبتة الفضيلة في قلوب المختارين. فإن الماء يشير أحيانًا إلى روي الروح القدس، كما كُتب: "إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب"، "من يشرب من هذا الماء الذي أعطيه لن يعطش" (راجع يو 7: 37؛ 4: 14).
تبع ذلك: "تُنبِت أوراقًا كغرسٍ جديدٍ". تنبت أوراقًا على أصل الشجرة المقطوعة، إذ يموت الصديق بالجسد، وبمثال آلامه يقيم قلوب الكثيرين، وبإيمانه المستقيم يظهر اخضرار الحق. ولذلك حسنًا قيل: "كغرسٍ جديدٍ". كل ما يفعله الصديق هنا هو غرس ثانٍ، فمن الواضح أن الغرس الأول لا يكمن في ممارسة الصلاح بل في سبق معرفة الخالق. بينما كل ما يفعله المختارون كما لو كان يُرى لأول مرة هو مستقر في داخلهم، وبعد ذلك ينُفذ في الخارج. حسنًا قيل: وتنبت أوراقًا كغرسٍ جديدٍ (أول)، بمعنى أن يظهر الأخضرار بالتنفيذ العملي لما هو كائن قبلًا في سبق معرفة الخالق.
البابا غريغوريوس (الكبير)


فَمِنْ رَائِحَةِ الْمَاءِ تُفْرِخُ،
وَتُنْبِتُ فُرُوعًا كَالْغَرْسِ [9].
إن كانت المياه تهب جذر الشجرة الميتة حياة، فينبت من جديد، ويعود للشجرة حياتها، فإن الروح القدس يهب المؤمن الحياة الجديدة في مياه المعمودية. يقدم لها القيامة، قيامة النفس من موتها، حتى يتمتع الجسم أيضًا بالقيامة في بوم الرب، وتشترك النفس مع الجسم في الحياة الأبدية.
في مياه المعمودية يدخل بنا الروح القدس إلى الدفن مع المسيح والقيامة أيضًا معه، فنخرج من المعمودية أعضاء جسد المسيح القائم من الأموات الذي لا يشيخ ولا يقدم بل ينمو على الدوام بغير انقطاع متمتعًا بالحياة الجديدة. بهذا يتحقق اتحادنا مع السيد المسيح فننعم بالبنوة لله، إذ نصير خلال الابن الوحيد الجنس أبناء معه بالتبني، أي ليس حسب الطبيعة, وإنما خلال النعمة المجانية. هذا ما قصده الرسول بقوله: "لا بأعمالٍ في برّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمتهِ خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" (تي 3: 5)، "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمتهِ الكثيرة ولدنا ثانيةً لرجاءٍ حيٍّ بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات لميراثٍ لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحلُّ، محفوظ في السماوات لأجلكم" (1 بط 1: 3-4). هذا ما قصده السيد المسيح نفسه في حديثه مع نيقوديموس: "الحقَّ الحقَّ أقول لك إن كان أحد لا يُولَد من الماءِ والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو 3: 5). ولم يستطع نيقوديموس معلم إسرائيل أن يفهم، لأنه لم يكن بعد قد أدرك أن يسوع هذا الذي يحدثه إنما يضم المؤمنين به إلى نفسه في المعمودية بالروح القدس، حتى يهبهم حياته المُقامة كعطية الميلاد الروحي الجديد.
* هل كان ممكنًا أن تتحول عصا موسى التقي إلى حيَّة، وغير ممكن أن تحيا أجساد الأتقياء وتقوم ثانيةً؟ وهل عمل هذا خلافًا للطبيعة؟ وهل لا يعودون هم ثانية بحسب الطبيعة؟!
كذلك عصا هرون ولو أنها قُطعت، لكنها أزهرت دون أن تشتم الماء (أي 14: 9). مع أنها كانت تحت سقف أزهرت أزهارًا كما لو كانت في الحقول. مع كونها وُضعت في مواضع جافة، حملت في ليلة زهورًا وثمر النبات الذي يُسقى لسنين عديدة، فهل قامت عصا هرون من الموت، وهرون نفسه لا يقوم؟!
هل يعمل الله معجزات في الخشب ليضمن له الكهنوت، ولا يتعطف بقيامة هرون نفسه؟
القديس كيرلس الأورشليمي
* "فمن رائحة الماء تفرخ، وتنبت فروعًا" [9]، وذلك بغسل الميلاد الثاني (تي 3: 5)، ذلك في وقت قيامة الأموات. إذ لنا الرجاء في القيامة، بفضل نعمة المعمودية. بهذا ننال محصولًا كغرسٍ جديدٍ، إذ نُغرس في آدم الجديد (1 كو 15: 45)، ولا نعود نرتبط بآدم القديم. ولكن إن حلت علينا الشيخوخة خلال الكسل، إن كان الموت يلتصق بنا خلال الخطية، فلتكن لنا رائحة الماء، خلال البكاء مثل داود وبطرس وغيرهم (2 صم 12: 21؛ مت 26: 75). لأن رائحة العماد يدعوها البعضبحق دموع الندامة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
* إذ رأى الثالوث غير المنقسم ولا منطوق به منذ الأزل سقوط الطبيعة البشرية، وفي نفس الوقت أوجد الماء من العدم، أعدَّ للإنسان الشفاء المزمع أن يتم في المياه. هذا هو السبب الذي لأجله إذ حُمل الروح القدس على المياه ظهر مقدِسًا لها... وربطها بعملية الولادة (الإنجاب). بهذا يليق بنا أن نقرن الحقيقة معًا، فإنه من المهم أن نعرف أنه في اللحظة التي اعتمد فيها يسوع نزل الروح القدس على أمواج الأردن واستقر عليها.
القديس ديديموس السكندري
* انظروا إلى المولدين من الله. هنا الرحم المادي، مياه المعمودية!
* لنا ميلادان: أحدهما أرضي، والآخر سماوي. الأول من الجسد، والثاني من الروح.
الأول صادر عن مبدأ قابل للفناء، والثاني عن مبدأ أبدي.
الأول من رجل وامرأة، والثاني من الله والكنيسة.
الأول يجعلنا أبناء الجسد، والثاني أبناء الروح.
الأول يصيرنا أبناء الموت، والثاني أبناء القيامة.
الأول أبناء الدهر، والثاني أبناء الله.
الأول يجعلنا أبناء اللعنة والغضب، والثاني أبناء البركة والمحبة.
الأول يقيدنا بأغلال الخطيئة الأصلية، والثاني يحلّنا من رباطات كل خطيئة.
القديس أغسطينوس


أَمَّا الرَّجُلُ فَيَمُوتُ وَيَبْلَى.
الإِنْسَانُ يُسْلِمُ الرُّوح،َ فَأَيْنَ هُوَ! [10]
إذ يموت الإنسان يبلى الجسد ويفنى، إذ يصير كالتراب، وتنطلق الروح ولا تعود بعد إلى الجسد في هذا العالم.
بالرغم مما يبدو من بعض كلمات أيوب في السفر كمن لا يعتقد في القيامة، إلا أنه هنا يدعو الموت رقادا" والقيامة استيقاظ من المضطجع، مما يؤكد إيمانه الحي بالقيامة من الأموات.
* "عندما يموت الإنسان ويُجرد ويفنى أسأل: أين هو؟" [10] لا يوجد إنسان بلا خطية سوى ذاك الذي جاء إلى العالم بلا خطية. وبينما نحن جميعًا مقيدون بالإثم نموت بفقداننا للبرّ.
أُعطي لنا ثوب البراءة سابقًا في الفردوس، وتجردنا منه، وصرنا عراة. هذا العري الذي للابن الضال وهبه الآب أن يتغطى، إذ قال عند عودته: "احضروا له سريعًا الثوب الأول" (راجع لو 15: 22).
فإن الثوب الأول هو ثوب البراءة الذي بحق تسلمه الإنسان عند خلقته، لكنه إذ خُدع بواسطة الحية خسره.
مرة أخرى قيل عن هذا العري: "طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يسير عريانًا" (رؤ 16: 15). فإننا نحفظ ثيابنا عندما نحفظ وصايا البراءة في قلوبنا، حتى إذ قد تجردنا نظهر عراة أمام الديان بالإثم، فبالندامة نتغطى وتعود لنا البراءة التي فقدناها.
حسنًا قيل: "أسأل أين هو؟" حيث لا يقف هناك الخاطي حيث خُلق، بينما وهو هنا حيث سقط يُمنع من أن يقف طويلًا. بإرادته فقد وطنه، وبغير إرادته يُسحب من نفيه، الذي فيه يبتهج. إذن أين هو هذا الذي ليس فيه حب الله، أين حقيقة كيانه؟
البابا غريغوريوس (الكبير)
* كان النبي يحزن لبؤس حالنا الواهن، حيث لا يجد الإنسان راحة في حياته، ويفقد كل شيء بمستهل الموت المفاجئ. فقد أعلن له الروح القدس أن الإنسان لا يقوم إلى وقت طويل، حتى يأتي ذاك الذي لا يخيط ما هو قديم مع ما هو جديد، ولا يربط المادة الجديدة بالقديمة (مت 9: 16)، بل يجعل كل شيء جديدًا، وذلك كما قال: "ها أنا أصنع كل شيء جديدًا" (رؤ 21: 5). لأنه هو القيامة (يو 11: 25)، بكر الراقدين (كو 1: 18، رؤ 1: 5). الذي فيه بحق نقبل امتياز القيامة المقبلة. لكن إلى الآن هو وحده قام القيامة الدائمة .
القديس أمبروسيوس


قَدْ تَنْفَدُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ،
وَالنَّهْرُ يَنْشَفُ وَيَجِفُّ [11].
* "كما لو أن المياه تنحدر من البحر، والنهر يجف فارغًا" [11]. عقل الإنسان هو بحر، وأفكار ذهنه كما لو كانت أمواج بحر. أحيانًا يُبتلع هذا البحر بالغضب، ويصير بالنعمة هادئًا، ويجري من البغضة إلى المرارة. ولكن عندما يموت الإنسان "ينحدر الماء من البحر"... "وإذ يفرغ النهر يجف". بهذا تنسحب النفس ويبقى الجسم فارغًا. فإن الجسم الذي بلا حياة يكون كمجرى نهرٍ جاف.
البابا غريغوريوس (الكبير)


الإِنْسَانُ يَضْطَجِعُ (يرقد) وَلاَ يَقُومُ.
لاَ يَسْتَيْقِظُونَ حَتَّى لاَ تَبْقَى السَّمَاوَاتُ،
وَلاَ يَنْتَبِهُونَ مِنْ نَوْمِهِمْ [12].
حُذفت كلمة "الموت" من قاموس الكنيسة، فلم تعد تختبره. وليس من بين أعضائها الحقيقيين من هم أموات بل الكل أحياء، لأنها جسد الرب السري الحي، وإذ الرأس حيّ، لذلك فإن الأعضاء حية.
هي كنيسة واحدة حية، جسد لرأس واحد حيّ، لا تعرف التمزيق، بل يرتبط الكل عبر الأجيال في وحدانية تفوق حدود الزمن.
نحن لا نعتقد بكنيستين، كنيسة أحياء وكنيسة أموات، لكنها كنيسة واحدة، كمَّل بعض الأعضاء جهادهم فانتقلوا إلى الفردوس على انتظار أن نكمل نحن العبيد رفاقهم جهادنا فنعبر إليهم، وينال الجميع المكافأة يوم الدينونة.
إننا كنيسة واحدة، بعض أعضائها كملوا جهادهم وغلبوا وانتصروا، والبعض لا يزالوا يجاهدون، والباقون سيأتون في الأجيال المقبلة، والكل كنيسة حيَّة واحدة، بغض النظر عن اللقاء الجسدي في هذا العالم.
بهذه النظرة الإيمانية، لا نتطلع إلى الأموات كأموات بل كمن ناموا ليستيقظوا. هذا بالنسبة لأجسادهم، أما نفوسهم فهي لا تنعس ولا تنام. استراحت نفوسهم من الجهاد والتعب والألم، لكن لم ينفصلوا عنا، لأن رباطنا ليس بالرباط الجسدي. نحبهم ويحبوننا، نطوبهم من أجل جهادهم، وهم يصلون عنا.
* "والإنسان يضطجع ولا يقوم، حتى تزول السماء" (أي 14: 12). هذا يبدو معناه حتى تصير السماء جديدة. إذ "ستكون سماء جديدة وأرض جديدة" (إش 65: 17 LXX). كما هو مكتوب. فإن ما يزول هو قديم، وما هو قديم سيتغير.
أنصتوا إلى المرتل القائل: "في البدء يا رب أوجدت الأرض، والسماوات هي عمل يديك.
هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوبٍ تبلى، كرداءٍ تغيرهم فتتغير" (مز 12: 25-26). نحن أيضًا قادرون أن ننسج الرداء، لأن ما هو قديم يزول، أما ما هو جديد فيُغتصب "ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السماوات يغُتصب، والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12).
المجمع (اليهودي) زال بقليلين، والكنيسة تغتصبه بالآلاف، وربما المعنى أيضًا أن السماء الآن تظهر زائلة، إذ تمتزج بالسحاب والضباب وظلمة الليل، وببزوغ نهار بلون أحمر ذهبي يظهر بألوان متنوعة مضاعفة. "ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله ينير عليهم" (رؤ 22: 5)، كما قال يوحنا. أو يقول آخر: "ويل للواتي يخطن وسائد وتُطحن بنفوس الشعب" (حز 13: 18 LXX).
القديس أمبروسيوس
* "الإنسان الذي يرقد (في الموت) لا يقيم نفسه. مادامت السماوات قائمة لا تلتئم (أعضاؤه) معًا، ولا يقوم من نومه".
بدعوة الموت رقادًا يقدم لنا أيوب بوضوح الرجاء في القيامة. يقول إننا لا نقيم أنفسنا مادامت السماوات (المنظورة)، قائمة. هذه شهادة أن "السماء ستنطوي كدرجٍ" كما يقول إشعياء "وكل قوات السماوات ستنحل، والقمر سيظلم، والنجوم تتساقط، تسقط كورقة الشجر" (إش 34: 34؛ مت 24: 29). عندئذ عندما يُضرب البوق (مت 24: 30-31؛ 1 كو 15: 25؛ 1 تس 4: 16) تقيمنا الملائكة من الموت كما من الرقاد، بطريقة واضحة بناء على أمر الله وإشارته. فإنكم تجدون كلمات الرب هذه موضوعة في الوقت الذي فيه يتحدث مع تلاميذه عن مجيئه... وإذ يعلن عن ظهور علامة صليبه عند مجيئه أضاف: "سيرسل ملائكته بصوت بوق عظيم"...
أما بالنسبة لنا ليتنا نصغي باهتمام إلى القول: "نلتئم معًا". إنه يعلن كيف عندما تزول السماوات (مت 24: 35) تكون لنا نحن القيامة. إذن سيكون لقيامة الأعضاء موضع، هذه التي الآن منفصلة ومبعثرة في الأرض، وقد عادت إلى الطين. عندئذ تستعيد النسمة بأمر الله (حز 37: 10)، "وتلتئم معًا". فإنه لا يصنع لنا الخالق جسدًا آخر، بل من كل الجوانب هو ذات الجسد الفعلي. على أي الأحوال، سوف لا يكون بذات الطابع، بل يقوم في عدم فساد وعدم موت. إنه يقيمه، وكما يقول بولس: "هذا الفاسد يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم الموت" (1 كو 15: 53).
إذ يفكر أيوب في هذا ويتأمل في مجد المستقبل والحياة الأبدية، كما في انحطاط الحياة الحاضرة، يتمسك بفكرة التحول من هذه الحياة السريعة الزوال، وفي الرجاء في الحياة العتيدة، نسمعه يقول: "آه! إن كان أحد يحفظني من جهنم!"
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
* "هكذا يرقد الإنسان ولا يقوم". يبدو هذا صعب جدًا، لماذا نتعب ونجاهد، إن كنا لا نجد بعد مكافأة القيامة؟
كيف يُقال: "لا يقوم"، مع أنه مكتوب: "كلنا سنقوم، لكن ليس كلنا نتغير". وأيضًا: "إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فنحن أشقى جميع الناس". ويقول الحق نفسه: "كل الذين في القبور يسمعون صوته ويقومون، ويذهب الذين صنعوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين صنعوا السيئات إلى قيامة الدينونة" (1 كو 15: 51، 19؛ يو 5: 28، 29). لكن العبارة السابقة إذ تضيف: "إلى أن تزول السماوات لا يستيقظون، ولا يقومون من نومهم". فمن الواضح أنهم سوف لا يقومون إلى أن لا تعود توجد السماوات، فإن لم تأتِ نهاية العالم لا يستيقظ الجنس البشري إلى الحياة من نوم الموت...
علاوة على هذا فنلاحظ لماذا بعدما دعا الإنسان ميتًا قبلًا، أشار إليه بعد ذلك أنه ليس بميتٍ بل هو نائم، وأنه لن يقوم مرة أخرى من نومه حتى تتفتت السماوات، التي لا تعني سوى أن نفهم بوضوح أنه بالتشبه بالشجرة التي تنتعش من جديد للحياة، يشير إلى الإنسان كخاطي ميت، أي ليس فيه حياة البرّ. ولكن عندما يتحدث عن موت الجسد يفضل أن يدعوه هذا ليس موتًا بل رقادًا. بالتأكيد يعلمنا الرجاء في القيامة، حيث يقوم الإنسان بسرعة من النوم، سيقوم في لحظة بإيماءة من خالقه، يقوم من موت الجسم.
فإن كلمة "الموت" ترعب أصحاب العقول الضعيفة، أما لقب "النوم" فغير مخيف. لذلك إذ يوصي بولس تلاميذه يقول: "أريد أن لا تجهلوا أيها الإخوة بخصوص الراقدين، ألاَّ تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم. فإننا إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فإنه هكذا الذين رقدوا في يسوع سيحضرهم الله معه ثانية (1 تس 4: 13-14).
البابا غريغوريوس (الكبير)


لَيْتَكَ تُوارِينِي فِي الْهَاوِيَةِ،
وَتُخْفِينِي إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ غَضَبُكَ،
وَتُعَيِّنُ لِي أَجَلًا، فَتَذْكُرَنِي [13].
يشتاق أيوب إلى القبر كمكان يختبئ فيه مؤقتا من غضب الله. هنا يختلف هدفه عما كان لديه سابقا حين كان يطلب الموت والقبر (7: 9-10: 18-21).إنه ينسب ما يحل به إلى غضب الله، لأنه تعلم ان البار يكون دوما مطوبًا ولا تحل به المصائب كالأشرار.
في وسط آلامه المرة يشتهي الموت، عالمًا أنه سينحدر إلى الهاوية، لكن إلى حين مترقبًا عمل الخلاص الإلهي، فينصرف الغضب ويتمتع بالقيامة المجيدة.
إن كان أيوب يئن من ضعف الحياة البشرية على الأرض بكونها أضعف من حياة شجرة، لكنه وسط آلامه يشتهي أن يختبئ في القبر ليستريح من الألم ولا يعود إليه بعد. يدرك أيوب أن الموت هو اختباء في القبر الذي مفاتيحه في يد الله، يفتح ليدخل أولاده، ثم يعود فيخرجهم في يومه العظيم.
إذ يتطلع أيوب إلى أجساد المؤمنين في القبر يرى أنه لا يزال توجد أثار للغضب، حتى متى قام الجسد وتمتع بالمجد ينتهي كل أثر للغضب تمامًا، بهذا يُباد سلطان الموت.
تدخل الأجساد في القبور إلى تعيين أجل الخروج إلى الحياة الجديدة الأبدية، كما دخل نوح وعائلته في الفلك، وأغلق الله عليه، لا ليحفظهم من الدمار فحسب، وإنما ليدخل بهم إلى العالم الجديد، وكأن أيام القبر أفضل من الأيام الحالية.
يرى القديس أمبروسيوس في هذه العبارة (أي 14: 13-17) أن الله تحدث في أيوب وعرف بالروح القدس أن ابن الله ليس فقط يأتي على الأرض، وإنما ينزل إلى الهاوية ليقيم الأموات، وأن ما حدث فعلًا فيٍ أيامه كان شهادة للأمور الحاضرة ونموذج للأمور المقبلة.
* يا لها من عبارة رائعة تقوينا من جهة القيامة!
كيف تبدو هذه العبارة في توافق مع كلمات الرب التي نقرأها في الإنجيل! إنه يقول: "حينئذ يبتدئون يقولون للجبال أسقطي علينا، وللآكام غطينا" (لو 23: 30). لأن غضب الرب سيظهر في نهاية العالم. لهذا فضل أيوب البار أن يقوم في الدينونة، وليس في وقت غضب الرب الذي يكون مرعبًا حتى بالنسبة للبار.
"وتعين لي زمنًا، فتذكرني" (أي 14: 13). يُفهم أيوب أنه يتنبأ أنه سيقوم في وقت آلام الرب كما هو واضح مما جاء في نهاية السفر (أي 42: 17LXX ) حيث جاءت الترجمة السبعينية "مكتوب أنه سيقوم مع أولئك الذين يقيمهم الرب". ومع هذا فهو لا يكف عن أن ينتحب، وكلما أدرك أن القيامة تنتظره كلما عظمت اشتياقاته أن يهرب من هذه الحياة. إذ يرى نفسه يُسلم في أيدي خصومه، وأنه يسقط تحت سلطان الشرير.
القديس أمبروسيوس
* "يا من تدافع عني في الجحيم" [13]. قبل مجيء الوسيط بين الله والناس، كل شخص حتى وإن كانت حياته طاهرة ومُزكاة، فإنه دون شك نزل إلى سجن الجحيم. الإنسان الذي سقط بعمله، صار عاجزًا بعمله أن يعود إلى راحة الفردوس. فقد سُجل أن سيفًا ملتهبًا وُضع عند مدخل الفردوس بعد خطية الإنسان الأول، والذي دُعي "المتحرك"، حتى يأتي اليوم الذي فيه يتحرك...
"حتى تحفظني مخفيًا إلى أن يعبر سخطك تمامًا". فإن سخط الله القدير ينجز قوة كل يوم، فيُبتلع الذين يعيشون بطريقة جائرة بعقوبات لائقة...
في هذا الأمر يلزم أن نعرف أن تعبير "سخط" لا يليق بالكائن الإلهي، حيث لا يوجد في طبيعة الله البسيطة قلق. فقد قيل له: "لكن أنت، يا ضابط السلطة تحكم في هدوء وتأمرنا باهتمامٍ عظيمٍ زائدٍ" (حك 12: 18). ولكن لأن نفوس الصديقين تحررت يومًا ما بمجيء الوسيط من مواضع الجحيم، وليست مواضع عقوبة، لذلك فالصديق سبق فرأى وطلب قائلًا: "حدد لي زمنًا، متى تأتي وتذكرني".
هكذا ليت الطوباوي أيوب، إذ يعرف هذا المجيء لمخلصنا إلى الجحيم يطلب ما قد سبق فرآه يحدث في المستقبل. ليقل: "وأنت فلتحدد لي زمنًا فيه تذكرني"، يكمل: "هل تظن أن الإنسان الميت يحيا ثانية؟" [14]
حين كان ربنا قريبًا من آلامه نطق بصوت الضعفاء، قائلًا: "يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39). ولكي يزيل خوفهم أخذ (الخوف) فيه (نيابة عنهم).
مرة أخرى أظهر بالطاعة القوة بقوله: "لكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك". هكذا يكون الأمر عندما يهددنا... يلزمنا في الضعف أن نصلي ألاَّ يكون (ما نخشاه)، لكننا مستعدون أن تتم إرادة خالقنا، حتى وإن كانت ضد إرادتنا.
على هذا المثال يليق أحيانًا أن يتبنى الأقوياء كلمات الضعف، حتى بكرازتهم القوية يمكن لقلوب الضعفاء أن تزداد قوة. هكذا عندما نطق الطوباوي أيوب كلمات كمن هو في شكٍ، قائلًا: "هل تظن أن إنسانًا ميتًا يقوم ثانية؟" للتو أضاف عبارة تؤكد يقين إيمانه حيث يقول: "كل الأيام التي فيها الآن أنا أناضل، انتظر حتى يحل تغيري" [14].
البابا غريغوريوس (الكبير)
* [في رسالةٍ يعث بها القديس إلى أرملة شابة، رجلها كان واليًا، جاء فيها:] فإن هذا الموت ليس بموت، إنما هو نوع من الهجرة والانتقال من سيئ إلى أحسن، من الأرض إلى السماء، من وسط البشر إلى الملائكة ورؤساء الملائكة، بل ومع الله الذي هو رب الملائكة ورؤساء الملائكة...
فبقدر ما تحزنين لأن الله أخذ إنسانًا هكذا كان صالحًا ومكرمًا كان يجب أن تفرحي أنه رحل إلى مكان أكثر أمانًا وكرامة، متخلصًا من مضايقات الحياة الحاضرة الخطيرة، إذ هو الآن في أمان وهدوء عظيم.
إن كان لا حاجة لنا أن نعرف أن السماء أفضل من الأرض بكثير، فكيف نندب الذين رحلوا من هذا العالم إلى العالم الآخر؟!
لو كان زوجك سالكًا مثل أولئك الذين يعيشون في حياة مخجلة لا ترضي الله، كان بالأولى لك أن تنوحي وتبكي، ليس فقط عند انتقاله، بل حتى أثناء وجوده حيًا هنا. لكن بقدر ما هو من أصدقاء الله، يلزمنا أن نسر به، ليس وهو حيّ هنا، بل وعندما يرقد مستريحًا أيضًا.
وإذ يلزمنا أن نفعل هذا، استمعي ما يقوله الرسول الطوباوي: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا" (في 23:1).
القديس يوحنا الذهبي الفم


إِنْ مَاتَ رَجُلٌ، أَفَيَحْيَا؟
كُلَّ أَيَّامِ جِهَادِي أَصْبِرُ،
إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بَدَلِي [14].
ليست مسرة الله في موت الإنسان، بل أن يرجع إليه فيحيا. هذا ما يدفع أيوب لاحتمال كل أيام جهاده، حتى تتبدل أيامه الحاضرة بالحياة الأبدية الجديدة.
كان أصحاب أيوب وهم معزون متعبون، يقدمون له الرجاء في الدعوة إلى ما كان عليه إن اعترف بريائه وشره المخفي، وقدم توبة صادقة، ورجع إلى الله. أما أيوب فكان يتعزى بذلك فإنه حسب نفسه كميتٍ، لا يعود إلى الحياة على الأرض من جديد، قائلًا: "إن مات رجل، أفيحيا؟" لكن هذا لا يدفعه إلى التراخي، ولا إلى اليأس، إنما يقول: "كل أيام جهادي أصبر إلى أن يأتي بدلي". أي بديل ينتظره أيوب؟ هذا الذي قال عنه الرسول بولس: "سيتغير شكل جسد تواضعنا" (في 3: 21). هذا هو البديل، عوض العظام اليابسة الملقاة في بقعة تصير حياته جيشًا عظيمًا جدًا جدًا (حز 37: 10). هكذا تصير النفس بكل طاقاتها والجسد بكل قدراته جيشًا للرب مجيدًا وعظيمًا، حيث يشارك السيد المسيح مجده. بهذا يترنم المرتل: "وجسدي أيضًا يسكن مطمئنًا" (مز 16: 9). هذا هو الإبدال المفرح حيث يلبس الفاسد عدم الفساد، والمائت عدم الموت.
جاء سؤال أيوب: " إن مات رجل، أفيحيا؟" جاء الرد بالإيجاب بواسطة رب المجد يسوع وما ورد في أسفار العهد الجديد (يو 11: 23-26؛1 كو 15: 3-57).
* "إن كان الإنسان حتمًا يموت، هل سيقوم، وقد أتم أيام حياته...؟ إني أنتظر حتى أوجد ثانية" (أي 14: 14). إنه يدعو القيامة وجودًا جديدًا... لقد عرف أيوب الساحة لا بكلمات مديح صادرة عن اللسان، وإنما بالأعمال. كلمات المديح هي أمراضه وقروحه ونياته. كان عاريًا تمامًا، وكان أكثر بهاءً ممن يرتدي ثيابًا موشاة بالذهب. فإن سريره الذي كان يرقد عليه هو كوم مزبلة، لكنه كان أكثر تألقًا من الذين يجدون مسرتهم في الذهب والحجارة الكريمة. فإن الله يتحدث معه شخصيًا، والملائكة بجانبه، وكل الخليقة تعلن مجد المصارع، هذا الذي دون أن يمد يديه، يسقط العدو.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
* "لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة" (رو 10:6).
مات لا لأنه مائت بطبعه، لكنه مات بالجسد ليضع نهاية للخطية. وهو حيّ في حياته التي لا تزول كإله.
ابن الصليبي
* لأنه محب البشر فقد رحب بالموت الذي بدونه لهلك العالم في خطاياه.
القديس كيرلس الأورشليمي
* دُفن وحده ولكنه أقام الجميع، نزل وحده ليرفعنا جميعًا، حمل خطايا العالم كله وحده ليطهر الكل في شخصه، وكما يقول الرسول:
"نقوا أيديكم إذن وتطهروا" (يع8:4)، فالمسيح غير محتاج للتطهير تطهر لأجلنا.
القديس أمبروسيوس
* كن مصلوبًا مع المسيح، مماتًا معه، كن مدفونًا معه، لكي تقوم معه، وتمجد معه، وتملك معه.
القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس


تَدْعُو، فَأَنَا أُجِيبُك.
تَشْتَاقُ إِلَى عَمَلِ يَدِكَ [15].
الله في عدله يرفض المعصية، ولا يقبل الإثم (17:14)، لكنه إذ يدبر الخلاص يشتاق إلى الإنسان عمل يديه.
في وسط الشدة يصرخ أيوب إلى الله، وكأن الله لا يسمع له، أما إذ يحين وقت القيامة، فالله يدعوه أن يقوم فيستجيب أيوب، يلتقي مع الله الذي يشتهي إلى عمل يديه، حيث يحمل أيوب انعكاس بهاء مجد الله عليه.
* "تسألني، فأجيبك" [15]... مادمنا نخضع للفساد لا نجيب خالقنا بأية وسيلة، متطلعين إلى أن الفساد بعيد عن عدم الفساد، وليس من تشابه يليق بإجابتنا. أما عن هذا التغير فقد كُتب: "عندما يظهر نصير مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يو 3: 2). بالحقيقة سنجيب الله، الذي يدعو، لدى الأمر "بعدم الفساد الأسمى"، نقوم في عدم فسادٍ. ولأن المخلوق لا يقدر أن يتأهل لذلك بنفسه، إنما يتحقق هذا بعطية الله القدير وحده، وهو أن يتغير إلى مجد عدم الفساد الفائق، لذلك بحق أضاف: "ستبسط يمينك لعمل يديك". وكأنه يقول بكلماتٍ واضحة: لهذا السبب مخلوقك القابل للفساد قادر أن يُمسك في عدم الفساد، لأنه يرتفع بأيدي سلطانك، ويُحفظ بنعمة اهتمامك. فإن المخلوق البشري، بهذا وحده، بكونه مخلوقًا، يرث في ذاته الانهيار إلى أسفل مما هو عليه، لكن الإنسان ينال من خالقه أن يلتزم بأن يرتفع إلى ما هو أعلى منه وذلك بالتأمل، ويمسك في نفسه عدم الفساد. إنه يرتفع إلى الرسوخ في عدم التغير وذلك بيمين خالقه.
من يقدر أن يقدِّر سخاء الرحمة الإلهية، أن يحضر الإنسان بعد الخطية إلى علو مجدٍ كهذا؟ الله يضع في اعتباره الأمور الشريرة التي نفعلها، ولكن برأفته يغفرها في رحمة. وهكذا أضيف: "الآن تحصي خطواتي، وتصفح عن خطاياي" [16].
البابا غريغوريوس (الكبير)
3. الاستعداد للموت

أَمَّا الآنَ فَتُحْصِي خَطَوَاتِي!
أَلاَ تُحَافِظُ عَلَى خَطِيَّتِي [16].
يقول الحكيم: "لأن طرق الإنسان أمام عيني الرب وهو يزن كل سبله" (أم 5: 21).
* "أنت تحصي خطواتي، ليست خطية واحدة من خطاياي تهرب منك" [16]. يقول: أود أن أخلص، لأني أنا عمل يديك، وليس لأني بار بأية كيفية، ولا لأني أطلب العدالة منك، ولا لكي تنسى آثامي، فإنه ليس من الممكن لأي ذنبٍ أن يهرب منك.
القديس يوحنا الذهبي الفم


مَعْصِيَتِي مَخْتُومٌ عَلَيْهَا فِي صُرَّةٍ،
وَتُلَفِّقُ عَلَيَّ فَوْقَ إِثْمِي [17].
يقول الرب: "أليس ذلك مكنوزا عندي مختومًا عليه في خزائني؟!" (تث 32: 34).
هذا عن يوم الدينونة المفرح، أما الآن فيبدو لأيوب أن الله يحصي خطواته، ويختم على معاصيه كما في صرة، كما يُختم على ورق الاتهام ضد المتهم. يشعر أيوب كأن الله يدقق في كل تصرف يمارسه أيوب ويقيد كل خطاياه ضده، وتُحسب عليه كل آثامه.
* "أنت تختم معاصي، كما لو كانت في حقيبة، لكنك تشفي آثامي" [17]. تُختم معاصينا كما لو كانت في حقيبة، حيث أن كل ما نفعله بتصرفٍ خارجيٍ، إن لم نغسله بالندامة يُحفظ في سرية أحكام الله كما في وضعٍ خفيٍ، حتى يظهر يومًا ما من حقيبة السرية إلى علانية الحكم. قيل أيضًا بموسى: "ألم يوضع هذا في مخزن معي، ويختم عليه وسط خزائني؟ في يوم الانتقام أجازي عنها" (تث 32: 34). ولكن إن كنا نُسحق بضربة التأديب من أجل الشرور التي نفعلها، ونحزن عليها بالندامة، فإنه "يختم" و"يشفي" آثامنا، حتى لا يترك شيئًا هنا لا نُعاقب عليه، ولا يُحفظ لنعاقب عليه في الدينونة...
هكذا فإن إثم مُضطهده (شاول الطرسوسي) الذي طرحه أرضًا، فقد فعل معه هذا بأن ختم وشفي، قائلًا عنه لحنانيا: "إنه إناء مختار لي يحمل اسمي أمام الأمم وملوك وبني إسرائيل. فسأريه كم ينبغي أن يتألم لأجل اسمي" (أع 9: 15).
البابا غريغوريوس (الكبير)


إِنَّ الْجَبَلَ السَّاقِطَ يَنْتَثِرُ،
وَالصَّخْرَ يُزَحْزَحُ مِنْ مَكَانِهِ [18].
إن كان الأصدقاء الثلاثة يوجهون اللوم لأيوب لأنه عوض التوبة والرجوع إلى الله في نظرهم يتهم الله بالظلم، فإن أيوب يوضح أنه إن حلّ به ضعف، وبدا كمن فقد رجاءه، فذلك من ثقل الضربة. إنه كالجبل الذي مع ثباته ينتثر، وكالصخرة التي لا تتحرك، لكن تحت الشدة تتزحزح من مكانها، وكالحجارة التي تفتتها قطرات الأمطار المتوالية وتجرفها السيول. هكذا يشبه نفسه كالجبل والصخرة والحجارة... لكن التجربة قاسية للغاية!



الْحِجَارَةُ تَبْلِيهَا الْمِيَاهُ،
وَتَجْرُفُ سُيُولُهَا تُرَابَ الأَرْضِ [19].
وسط آلامه يصارع أيوب بين عجزه عن احتمال الألم ورجائه في التمتع بالمكافأة الأبدية. لقد كشف الألم ورجاءه في التمتع بالمكافأة الأبدية. كشف عن رجائه في استبدال وتغيير حتى جسده لكنه يخشى أن يتزحزح هذا الرجاء خلال طول مدة الضيقة. فنحن نرى مع طول الزمن بعض الجبال تتناثر، والصخر يتزحزح من مكانه، والحجارة تبليها المياه المتساقطة عليها باستمرار، وتجرفها سيول المياه كتراب الأرض. إنه يصرخ ألا يدوم صبره.
* يشِّبه دمار الإنسان هكذا... يوجد نوعان من التجارب:
نوع يعبر في الذهن، حتى بالنسبة للإنسان الصالح، يحدث هكذا فجأة. إنه يُجرب فجأة، حتى بعدم توقعه ما يحدث يُصاب بدوارٍ ويسقط أرضُا ولا يرى سقوطه.
ويوجد نوع آخر يأتي قليلًا قليلًا في الذهن، وباقتراحات حسنة يفسد النفس المقاومة، وذلك ليس بإفراطها الزائد بل بإلحاحها تفسد قوَى البرّ.
عندما يوجد النوع الأول من التجربة الذي يقوم بهجومٍ مفاجئٍ، غالبًا ما ينزل بالصالح أرضًا، يُقال: "وبالتأكيد تسقط الجبال إلى العدم، وتتحرك الصخرة من موضعها" [18]، ويُقصد بذلك الذهن الذي موضعه كان البرّ، وبدافع مفاجئ تتحرك إلى الخطية.
مرة أخرى إذ يوجد نوع آخر من التجربة، يسكب نفسه بهدوء في قلب الإنسان، ويرهق مفسدًا كل صلابة ثباته، فيُقال: "المياه ترهق الحجارة". بهذه الكيفية، حيث أن المداهنة الناعمة للشهوة التي لا تُصفِحْ عنها تمتص صلابة النفس، وتسلل العادة الشريرة ببطء يتلف غاية الذهن الصامدة والقوية. لهذا أضيف: "وبغسل الأرض تتآكل قليلًا قليلًا". فإنه كما بفيض المياه تتآكل الأرض قليلًا قليلًا، هكذا تزحف العادة الشريرة بدرجاتٍ خفيفة، فيُبتلع حتى الذهن القوي. بحق قيل: "وأنت بنفس الطريقة تهلك الإنسان"...
لنرى كيف داود "الجبل العالي" الذي استطاع أن يتأمل أسرار الله العظيمة بروح النبوة، انهار بسقطة مفاجئة، حيث اشتهى وأخذ امرأة رجلٍ آخر، وقتل رجلها على حساب جيشه. عندئذ سقط الجبل بسقطةٍ مفاجئةٍ، عندما غُلب هذا العقل الذي اعتاد أن يسكن مع الأسرار السماوية، وذلك بتجربة مفاجئة، وانحدر إلى فسادٍ رهيبٍ كهذا...
دعونا أيضًا نرى "المياه تقلق الحجارة، وبغسل الأرض تتآكل قليلًا قليلًا"، وذلك في سليمان بإفراطه في العلاقات النسائية ومعاشرته لهن، انزلق إلى هذا الطريق حتى بَنَى هيكلًا للأوثان، هذا الذي سبق فشيد هيكلًا لله...
هكذا يضع الطوباوي أيوب كلا النوعين من التجربة، سواء التي تحدث فجأة في إفراط، أو تدخل بهدوءٍ وبطريقٍ طويل. ليتأمل سقطات زملائه من الخليقة (الجبال والصخور والأرض)، فمنها يستطيع ما يحدث في الخارج أن يجد مفتاحًا لتأملاته.
البابا غريغوريوس (الكبير)


وَكَذَلِكَ أَنْتَ تُبِيدُ رَجَاءَ الإِنْسَان.
تَتَجَبَّرُ عَلَيْهِ أَبَدًا فَيَذْهَبُ.
تُشَوِّهُ وَجْهَهُ وَتَطْرُدُهُ [20].
يطلب أيوب التدخل الإلهي قبل حلول ساعة موته وهو في تذمرٍ بلا رجاء.
في لحظات الموت يتغير وجه الإنسان، إما بسبب المرض، أو حالة الهزال التي تحل بالإنسان قبيل موته. يفقد الإنسان جماله وبهاءه وعظمته، حتى يجد أقرباؤه أن دفنه تكريم له. وكما يقول إبراهيم: "أعطوني ملك قبر لأدفن ميتي من أمامي" (تك 23: 4، 8).
"حطمت رجاء الإنسان"... يقول الأب هيسيخيوس الأورشليميأن هذا هو السبب أن يقول داود: "أحييني يا الله، فإن المياه قد وصلت إلى نفسي" (مز 69: 1). فإنه إذا سقط أبوانا آدم وحواء في العصيان طُردا من الفردوس وصدر الحكم: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، وصارت الأرض تخرج شوكًا وحسكًا، فأي رجاء لآدم بعد حلول مثل هذه اللعنة؟ لذلك يكمل أيوب حديثه: "لقد رفضته إلى الأبد، وهو قد ذهب!"


يُكْرَمُ بَنُوهُ وَلاَ يَعْلَمُ،
أَوْ يَصْغِرُونَ وَلاَ يَفْهَمُ بِهِمْ [21].
يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن أيوب يتطلع إلى أبيه آدم وقد عبر إلى الجحيم، فلم يعد يدري بما حل بأولاده، أي بالبشرية التي هي نسله. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه (مت 16: 26)؟
* لو أن رحلة الرب في الجسد لم تحدث، ما كان المخلص قد دفع للموت ثمنًا. ما كان يحطم سلطان الموت بقوته. لو أن الجسد الذي خضع للموت هو شيء والجسد الذي أخذه الرب شيء آخر، عندئذ ما كان يمكن للموت أن يبطل من ممارسة أعماله، وما كانت آلام الإله المتجسد لها نفع؛ نحن الذين مُتنا في آدم ما كان يمكننا أن نحيا في المسيح.
القديس باسيليوس الكبير
* نحن نعرفه أنه بكر الذين استراحوا، بكر الأموات. دون أي نقاش البكر هو من ذات سمات وطبيعة بقية الثمار... لهذا كما أن بكر الموت كان في آدم هكذا بكر القيامة هو في المسيح .
القديس أمبروسيوس
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن هذا هو موقف النفوس التي لم تتمتع بالخلاص، أما نفوس الصديقين أو [النفوس المقدسة فهي إذ ترى بهاء الله القدير في داخلها، لا تستطيع أن تتخيل إلى لحظة أن أمرًا ما خارجًا لا يعرفونه. أما الأشخاص الجسدانيون، فإذ يركزون كل همهم في أولادهم (في الأمور الزمنية)، لذلك يعلن أيوب أنهم بعد ذلك يجهلون الأمور التي يحبونها هنا بكل قلوبهم، حتى إن كان "أولادهم في كرامةٍ أو هوانٍ، لا يعرفون".]


إِنَّمَا عَلَى ذَاتِهِ يَتَوَجَّعُ لَحْمُهُ،
وَعَلَى ذَاتِهَا تَنُوحُ نَفْسُهُ [22].
مع شوقه العجيب إلى الموت للهروب من الضيقة الشديدة، يخشى ساعة الموت لأنها رهيبة، حتى تبدو نفسه كمن تنوح على الجسد الذي تفارقه.
* حسنًا قيل: "نفسه فيه تحزن عليه"، وذلك فإن كل من يريد أن يفرح بنفسه يصير فيما بعد بذات السبب في ويل حيث يعبر من مصدر فرحه الحقيقي. لأن الفرح الحقيقي للنفس هو الخالق. لذلك يليق بالإنسان أن يبقى في حزن أبدي في داخله بتركه خالقه، وبحثه عن الفرح في نفسه.
البابا غريغوريوس (الكبير)
من وحي أيوب 14

إليك أصرخ وسط مرارتي،

بك وحدك أتحدي الموت!


* إذ تحوط بي الضيقات المتلاحقة،
في ضعف اصرخ إليك:
إني مولود المرأة، كلي الضعف،
حياتي مملوءة تعبًا،
كيف احتمل كل هذه التجارب؟
حياتي كعشب الحقل، كادت شمس التجارب تحرقني تمامًا.
حياتي كظلٍ تعبر، ولكن إلى أين أذهب؟
أيامي أنت قد حددتها، وعينت أجلي فلا أتجاوزه،
هب لي راحة في لحظات عمري.

* في ضعفي تنطمس عيناي عن رؤية القيامة.
أغير من الأشجار التي تقطع، فتنبيت جذورها،
وأرى في حياتي أنها عابرة بلا عودة.
ظننت في الأشجار أنها تمارس الحياة أفضل مني.
في غباوتي اشتهي المياه التي تجعل جذع الشجرة ينبت،
ولا أرى المياه الحية، روحك القدوس العجيب،
يقيم مني ابنا لله، فأتمتع بحياة أبدية.
أسر بشجرة مغروسة على مجاري المياه،
إن قطعت تنبت جذورها ساقًا جديدة،
ولا أدرك أنك غرستني على مجاري الروح القدس،
وإن قام عليَّ إبليس بكل جنوده وخططه،
لن يقدر أن يحطم أبديتي المجيدة!
* لم تكن عصا هرون تحتاج إلى مياه هذا العالم لكي تفرخ وتزهر.
هب لي ألا أعطش إلى مياه العالم،
بل أطلب مياه الروح واهب البرّ والقداسة.

* إذ أرى نهرًا نفد ماؤه فجف،
أظن أنني أرقد ولا أقوم.
لكني علمت أنني لن أقوم حتى تزول السماء،
حينئذ تيقظني كلمتك.
أدرك أنني كنت مختفيًا إلى حين لأستريح من التجارب،
وإذ تأتي أنت شفيعي وبديلي،
تدعوني للقيامة، فأقوم.
تدعوني للحياة الأبدية، فيهرب مني الفساد.
حينئذ أدرك شوقك إلى عمل يديك.
أتمتع بحبك الأبدي وسط أمجادك الفائقة.
هوذا الجبل الثابت قد ينتثر،
والصخر قد يتزحزح من مكانه.
والحجارة تفتتها قطرات الأمطار المتواترة.
لكن نعمتك تقيمني من الفساد إلى عدم الفساد.
رد مع اقتباس
 


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
كُل السعاداتِ وقتية
كل الامور المحيطة بكم هي امور وقتية
كل الامور المحيطة لكم هي امور وقتية
ترنيمة العالم عطاياه وقتية
مشكلتك وقتية .. اما الرب فابدي هو


الساعة الآن 05:00 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024