رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
هول متاعبه وحيرته أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنْ عَدَّاءٍ تَفِرُّ وَلاَ تَرَى خَيْرًا [25]. سرعة العدائبن (الذين يجرون المركبة) غالبًا ما تُستخدم في العصور القديمة لنقل الرسائل العاجلة. كان الملوك يحتفظون ببعض هؤلاء العداء لخدمة القصر الملوكي. حينما أرسل الملك حزقيا دعوة إلى جميع إسرائيل ويهوذا للاحتفال بعيد الفصح في أورشليم "ذهب السعاة بالرسائل من يد الملك ورؤستائه، في جميع إسرائيل ويهوذا" (2 أي 30: 6). وفي أيام إرميا يبدو أنه كانت هذه الخدمة قد استقرت وانتظمت، ففي نبوته عن خراب بابل قيل: "يركض عداء للقاء عداءٍ، ومخبرٍ للقاء مخبرٍ، ليخبر ملك بابل بأن مدينته قد أخذت عن أقصى" (إر 51: 31). كذلك استخدم الفارسيون رسل سريعين. اُستخدموا عندما صدر الأمر بقتل جميع اليهود في الإمبراطورية (إس 3: 13، 15)، وأيضًا عندما صدر الأمر للانتقام من أعدائهم: "فخرج البريد ركاب الجياد والبغال، وأمر الملك يحثهم ويعجلهم" (إس 8: 14). *اخبرني أي شيء ثابت في هذا العالم؟ الثروة التي غالبًا ما لا تبقى حتى المساء؟ أم المجد؟ أستمع ماذا يقول رجل بار: "حياتي أسرع من عدًّاء (a runner). القديس يوحنا الذهبي الفم * خُلق الإنسان لهذا الهدف، أن يرى خيرًا، الذي هو الله. ولكنه إذ لم يرد أن يقف في النور، هرب من النور، وفقد عينيه. على نفس المستوى تعهد الأمور الجسدية بالخطية. فخضع للعمى وصار غير قادر على رؤية النور الداخلي... لكن عندما نفكر في مثل هذه الأمور متشككين على الدوام (في الله كصانع خيرات) تلح علينا أسئلة صعبة ونحن صامتون: "لماذا يخلق الله شخصًا سبق فرأى أنه سيهلك؛ لماذا وهو الأعظم في القوة والصلاح لم يضع في ذهنه أن يخلق الإنسان عاجزًا عن أن يهلك؟ وإذ في صمته يتساءل الفكر هكذا، يخشى الإنسان أنه في تهوره خلال هذه الأسئلة يسقط في الكبرياء، فيتراجع نحو التواضع الذي يحجم أفكار القلب. وكلما صار في محنٍ أشد - وسط المتاعب - يتألم بخصوص تفسير المعنى السري للأحداث، لذلك يكمل:" إن قلت لا أتكلم بهذه الطريقة، أغير ملامح وجهي وأصاب الحزن" [27]. البابا غريغوريوس (الكبير) تَمُرُّ مَعَ سُفُنِ الْبَرْدِيِّ. كَنَسْرٍ يَنْقَضُّ إِلَى صَيْدِهِ [26]. هجرته أيام رخائه كسفينة تُسرع نحو مينائها الآمن، وكالنسر الذي ينقض على فريسته في لمح البصر، كما لا يبقى للسفينة أثر بعد عبورها، ولا للنسر في الجو بعد انقضاضه على الفريسة، هكذا عبرت أيام الرخاء وليس من أثرٍ لها. هوذا الزمن يسرع بالإنسان كما إلى الزوال، سرعان ما يعبر بنا إلى الأبدية، فلا يكون للزمن موضع في أبديتنا. *"حياتنا أسرع من العدٌاء runner تعبر فلا يُرى شيء. إنها كممر سفينة أو كنسر طائر يطلب طعامًا" (9: 25-26 LXX)، هكذا تعبر حياة الإنسان. ما نقوله ننساه، ولا تبقى علامة لعبورنا ظاهرة سوى أنها مملوءة حزنًا وآسى. "ضُربت في كل أطرافي. هل وُجد وسيط بيننا لكي يوبخ ويفصل بيننا" (أي 9: 28، 33 LXX). القديس أمبروسيوس الأب هيسيخيوس الأورشليمي إِنْ قُلْتُ: أَنْسَى كُرْبَتِي، أُطْلِقُ وَجْهِي وَأَبْتَسِمُ [27]. يبدو أن أيوب بدأ يتطلع إلى ما وراء الزمن ليجد أن كربته ستنحل يومًا ما ولا يكون لها وجود، حين تنطلق نفسه من هذا العالم، فتصير كل حياته كظل قد عبر لا أثر له. قال في نفسه أن ينسى ما هو عليه من كربٍ، يترك همومه ويتعزى أو يبتهج (يضحك). إن أراد أيوب البار ألا يتكلم وسط ضيقته، ووضع في قلبه أن يتجاهل ما حلّ به، فإن ملامح وجهه تشهد عن عنف التجربة وتنطق بقسوة العاصفة وعنفها دون أن ينطق بكلمة. * الشرور التي تحل عليكم ستعبر، وذاك الذي تنتظرونه بصبرٍ سيأتي. أنه سيمسح عرق التعب. أنه سيجفف كل دمعة، ولا يكون بكاء بعد. هنا أسفل يلزمنا أن نئن وسط التجارب، إذ يتساءل أيوب: "ما هي حياة الإنسان على الأرض سوى محنة؟" (أي 7: 1). القديس أغسطينوس أخَافُ مِنْ كُلِّ أَوْجَاعِي عَالِمًا أَنَّكَ لاَ تُبَرِّئُنِي [28]. يرى أيوب أنه أن دخل حتى مع نفسه في حوار بخصوص آلامه ربما يخطئ في حق الله، لذا يخشى التفكير فيها إذ لا يقدر أن يتبرر. خشي أن يعاتب الله من أجل سماحه له بهذه الآلام، لأنه يعلم أنه بهذا لا يبرئه الله، بل يكون ذلك ضده. * "كنت أخاف من كل أعمالي، عالمًا أنك لا تبرئني، عندما أكون مذنبًا" [28- 29]. ما هي الأعمال التي مارسها الطوباوي أيوب، هذه قد أوضحها هذا التاريخ المقدس. فقد تعلم أن يسترضي خالقه بتقديم محرقات كثيرة. بحسب عدد أبنائه - كما هو مكتوب - كان يبكر في الصباح وقدم محرقات عن كل واحدٍ منهم، مطهرًا إياهم ليس فقط من الأعمال الدنسة، بل ومن الأفكار الشريرة. سجل لنا بشهادة الكتاب المقدس: "لأن أيوب قال ربما أخطأ بني، وجدفوا على الله في قلوبهم" (1: 5). مارس مشاعر العطف حيث أعلن عن نفسه عندما أزعجه أصدقاؤه: "ألم أبكِ لمن عسر يومه؟" (30: 25). لقد تعهد القيام بدور الحنو، إذ يقول: "كنت عيونًا للعمي وأرجلًا للعرج" (29: 15). احتفظ بنقاوة الطهارة في قلبه؛ في هذا يكشف نفسه بكل وضوح في وقارٍ: "إن غوى قلبي على امرأة" (41: 9). بلغ أعلى قمة التواضع من أعماق قلبه، إذ يقول: "إن كنت قد رفضت حق عبدي وأمتي في دعواهما علي" (31: 13). لقد وهب بسخاء عظيم، قائلًا: "أو أكلت لقمتي وحدي، فما أكل منها اليتيم؟" (أي 31: 17)... مارس الضيافة قائلًا: "غريب لم يبت في الخارج، فتحت للمسافر أبوابي" (31: 32). وفي وسط كل هذه الأمور، لتكميل فضائله بأسمى طريق للحب، أحب أعداءه أنفسهم. يقول في هذا: "إن كنت قد فرحت ببلية مبغضي، أو شمت حين أصابه سوء، بل لم أدع حنكي يخطئ في طلب نفسه بلعنة" (31: 29-30). إذن لماذا كان القديس خائفًا من أعماله (9: 28)، مادام قد مارس على الدوام أعمالًا تجعل الله يلين أمام العصيان؟ كيف هذا؟ كيف يخاف حتى من هذه الأعمال العجيبة في ذعر، حيث يقول: "أخاف من كل أعمالي" [28] إلا إذا استنتجتا من أعمال القديس وكلماته أننا بالحق نريد أن نسر الله بعد أن تغلبنا على العادات الشريرة يلزمنا أن نخاف من ذات الأعمال الصالحة التي نمارسها. فإنه يوجد على وجه الخصوص أمران يلزم أن نخشاها بصورة جادة في ممارستنا للأعمال الصالحة وهما: الكسل والخداع. قيل بالنبي حسب الترجمة القديمة: "ملعون من يعمل عمل الرب بخداع ورخاوة" (إر 48: 10). فالإنسان يرتكب جريمة الخداع في عمل الرب عندما يحب ذاته بمبالغة من أجل الأعمال الصالحة التي فعلها. فيبذل كل وسعه أن يحول الأعمال الصالحة إلى مكافأة. كذلك يليق بنا أن نضع في ذهننا أنه يوجد ثلاثة طرق يُمارس فيها الخداع. إن يكون هدفه إما كسب المشاعر الخفية لزملائه المخلوقين، أو طلب المديح، أو نوال نفع خارجي (مادي). على نقيض ذلك قيل بالنبي عن الإنسان المستقيم: "طوبى لمن ينفض يديه عن كل منفعه" (راجع إش 33: 15)... وذلك إن كان لا يهدف إلى نوال مجد باطل من زملائه، ولا إطراء من شفاههم، ولا هبات من أياديهم... لهذا لأن الأعمال الصالحة ذاتها لا تقدر أن تهرب من الخطية الكامنة ما لم تُحرس بمخافة شديدة. لذلك بحق قال القديس في هذا الموضع: "كنت خائفًا من كل أعمالي". البابا غريغوريوس (الكبير) أَنَا مُسْتَذْنَبٌ، فَلِمَاذَا أَتْعَبُ عَبَثًا؟ [29] يرى أيوب أنه عبثًا يُتعب نفسه لكي يتبرأ أمام الله. * من يعرف وهن الطبيعة البشرية ينال خبرة قوة الله. الأب مكسيموس المعترف الأب هيسيخيوس الأورشليمي * لا تقدر نفسي أن تثبت في التواضع الحقيقي، وترى صغر ذاتها، وتفكر في فقر طبيعتها، ما لم تبهرها ثروات الله الخفية، ويُحركها سمو منظرها. فالفقر يُترك بالغنى، والظلمة تُبغض بإشراق النور. ويُشعر بتواضع النفس من سمو الله العجيب، من شعر بعظمة الله، يرى صغر ذاته. القديس مار يعقوب السروجي وَلَوِ اغْتَسَلْتُ فِي الثَّلْجِ وَنَظَّفْتُ يَدَيَّ بِالأَشْنَانِ [30]. *الثلج هو دموع التواضع الذي فيها تسمو كل الفضائل الأخرى في عيني الديان الحازم... فإن البعض يحزنون، ولكن في غير تواضع، وذلك إذ يحزنون يبكون، ولكن هذه الدموع عينها يقدمونها وهم مستخفين بحياة إخوتهم، أو في تعالي على تدبير خالقهم. هؤلاء لهم ماء ولكن ليس ثلجًا (snow water)، ولن يمكنهم أن يغتسلوا، لأنهم لا يغتسلون بدموع التواضع. أما من يغتسل ويتطهر من الخطية بالثلج، فهو الذي في يقين يقول: "القلب المنكسر والمتواضع لا ترذله يا الله" (مز 51: 17). * يمكن أيضًا أن يُفهم "الثلج" بمعنى آخر. فإن الماء الصادر عن ينبوع وفي مجرى نابع عن الأرض، أما الثلج فيسقط من السماء. كثيرون جدًا يحزنون مولولين على أمور أرضية... إنهم يجرحون بالألم في صلواتهم، ولكن من أجل الأفراح بالملذات الزمنية لذلك فإنهم لا يغتسلون بالثلج، لأن دموعهم نابعة من أسفل... أما الذين يحزنون لأنهم يتوقون إلى مكافآت في العلا فهم يغتسلون ويتطهرون بالثلج، حيث تفيض عليهم الندامة السماوية. إذ يطلبون الأبدية بدموعٍ وحزنٍ، وقد التهب فيهم الشوق إليها، وبهذا ينالون من العلا الوسائل التي بها يتطهرون. * ماذا يُقصد بالأيدي سوى "الأعمال"؟ فقد قال النبي لأشخاص معينين: "أياديكم مملوءة دمًا" (إش 1: 15)، قاصدًا "أعمالكم مملوءة قسوة". البابا غريغوريوس (الكبير) هذه المشورات (الشيطانية) ليست فقط تترك الجراحات بغير شفاء، بل تدفع بها إلى أضرار خطيرة ومهلكة. وهنا تظهر الحاجة إلى عفة مملوءة حذرًا، حتى تقمع شهوة الكبرياء البشرية، حيث يسر الإنسان بنفسه، ولا يريد أن يرى في نفسه أنه مستحق للوم. فإذا أخطأ يستنكف من الاعتراف بخطئه، وبدلًا من أن يتهم نفسه بتواضعٍ مشفي، يبحث لنفسه عن عذر يقدمه بزهوٍ مميت. ولأجل قمع هذا الكبرياء، نجد ذاك الذي طلب العفة من الله بقوله "ضع يا رب حارسًا لفمي وبابًا حصينا لشفتي، ولا تمل قلبي إلى كلام شر"، يخشى لئلا "يتعلل بعللٍ". فإن هذا "التعليل" أكثر من كلام الشر .. فالشرير ينكر أنه شرير، بالرغم من ارتكابه الشر الذي لا يقدر أن ينكره. فإذ لا يقدر أن يخفي عمل الشر، لأنه واضح أنه قد ارتكبه، يبحث كيف ينسب الشر إلى غيره ظانا بهذا أنه يُبعد نفسه عما يستحقه. وإذا لا يرغب في نفسه أن يكون مجرمًا، يضيف إلى خطئه خطأ بتقديمه تبريرات. وبدلا من أن يتهم نفسه بخطاياه يقدم أعذارًا دون أن يدري أنه بهذا ينزع عن نفسه العفو لا العقوبة. القديس أغسطينوس فَإِنَّكَ فِي النَّقْعِ تَغْمِسُنِي، حَتَّى تَكْرَهَنِي ثِيَابِي [31]. كان يُظن في القديم أن ماء الثلج له خاصية تطهير الجلد. كانوا يظنون أن الجلد يصير أبيض بواسطة ماء الثلج، وأنه يمنع العرق. وكان البعض يظن أن الشخص الأسود يمكنه أن يصَّير البشرة بيضاء باغتساله بالثلج. ليس من طريق للتبرئة أمام الله، فالثلج يعجز عن تنظيف جلده، والاشنان (الصابون أو المطهر) عن تنظيف يديه. ليس من جدوى في ذلك، فإنه كلما حاول الإنسان أن يبرئ نفسه يجد نفسه مغموسًا في الوحل (النقع)، حتى يكره ثيابه ويعاف لمس نفسه. ولعل أيوب يرى أنه ليس فقط باطلًا يبرئ نفسه أمام من هم حوله، بل مع كل محاولة للتبرئة يكشف الله ضعفاته الخفية، فيرى نفسه غائصًا في الوحل الكريه في نظر الناس. لم يكن أيوب يجسر على الحوار مع الله كما لو كان إنسانًا مثله، فليس للخزف أن يحاور الخزاف. * واضح أن البشر يدعون أبرارًا ويُقال عنهم أنهم بلا أخطاء، ولكن إن تسلل إهمال إليهم يسقطون. يحتل الإنسان دائمًا المكان الوسط، فيمكن أن ينزلق من أعلى الفضيلة إلى الرذيلة، ويمكن أن يقوم من الرذيلة إلى الفضيلة. لن يكون في أمان، بل يلزمه أن يخشى تحطيم سفينته حتى في الجو الحسن، بهذا لا يمكن لإنسانٍ أن يكون بلا خطية. يقول سليمان: "لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ" (7: 20) كذلك في سفر الملوك: "ليس إنسان لا يخطئ" (2 أي 6: 36). كذلك يقول الطوباوي داود "الأخطاء من يشعر بها؟ من الخطايا المستترة أبرئني ومن خطايا الكبرياء احفظ عبدك" (مز 19: 12-13). وأيضًا: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي" (مز 143: 2). والكتاب المقدس مملوء من مثل هذه العبارات. القديس جيروم * تستطيع في يوم واحد أن تقتني كل أبدية يا أخي، وفي يومٍ واحدٍ تفقدها. أعطيت لك آلاف الأيام على الأرض لتُستخدم لخلاصك الأبدي أو دينونتك الأبدية. مطوب مئات المرات اليوم الذي تتوب فيه عن كل أعمالك الشريرة وكلماتك الدنسة وأفكارك، وتعود إلى الله بصرخة تطلب الرحمة. هذا اليوم أفضل لك من ألف يوم آخر! ما هو هذا اليوم المبارك؟ إنه يوم إدانة الإنسان لنفسه. عندما يبزغ فجر ذاك اليوم فإن الإنسان الذي يدين العالم كله حتى ذلك الحين حين يتطلع إلى نفسه أنه أعظم الخطاة على أرض الله. يشعر بالخجل أمام الله، وأمام كل إنسان وأمام كل شيء خلقه الله على الأرض. هذا الخجل يلتهب فيه كنارٍ، عندئذ يعرف ويعترف: "أنا أعظم الخطاة على أرض الله، كل البشر الآخرين أفضل مني... يا رب أرحمني، يا رب أنا الخاطي واغسلني من وحل خطاياي، حتى ابدأ أتشبه بخليقتك." لا تتوقع يا أخي أن يوم التوبة المبارك يأتي من ذاته، بل تمسك به في أول يوم يلتقي فيه بك، وقل: "أنت هو اليوم المبارك الذي فيه أشتري الحياة الأبدية ". الأسقف نيقولاي فيليميروفيش البابا غريغوريوس (الكبير) |
|