قداسة البابا شودة الثالث
التأملات والتدريبات الروحية
التأملات: عمقها، وأنواعها
ما معنى التأمل؟ يتأمل إنسان شيئًا، يعنى أنه يمعن النظر فيه، يدقق يفحص، يحلله، يرى ما أعماقه.
التأمل إذن هو الدخول إلى العمق، سواء في عمل الفكر أو عمل الروح..
هو الوصول إلى لون من المعرفة، فوق المعرفة العادية بكثير، هي معرفة قد تكون فوق الحس. هي معرفة جديدة عليك، مبهجة لروحك، تجد فيها غذاءً ومتعة روحية...
أو التأمل هو تفتحّ العقل والقلب والروح لاستقبال معرفة من فوق!
والتأمل يناسبه السكون والهدوء، والبعد عن الضوضاء التي تشغل الحواس، وبالتالي تشغل العقل وتبعده عن عمل الروح.. إذن فالتأمل يزداد عمقًا، كلما تحررت الحواس من الشغب الخارجي، وكلما تحرر العقل من سيطرة فكره الخاص لكي يستقبل ما تعطيه الروح. ويساعد على التأمل: الرغبة في الفهم، والسعي إلى العمق..
وللتأمل مجالات عديدة، نذكر من بينها:
التأمل في الخليقة والطبيعة، والتأمل بالأكثر في السماء والملائكة، وفي الموت والدينونة وما بعدهما. وأيضًا التأمل في الأحداث، وفي سير الأبرار، وفي الفضيلة عمومًا، وفي وصايا الله...
وهناك نوع آخر أسمى وأعمق، هو التأمل في صفات الله الجميلة. ومنها التأمل في المطلق، في الحق، وفى الخير
على أن موضوعات التأمل هي أكثر من أن نحصيها، بحيث يتأمل الإنسان الروحي في كل شيء، حتى الماديات، محاولًا أن يستخرج منها روحيات تفيده...
على أن الخطوة الأولى التي يقوم بها الذهن في التأمل، هي فتح الباب للروح...
وما المجهود الذي تقوم به أفكارنا وقلوبنا سوى طلب نرجو به من نعمة الله أن تفتح عقولنا لتستقبل ما يسكبه الله فيها...
ومن هنا تظهر أهمية ارتباط التأمل برفع القلب إلى الله، لكي يملأ عقولنا بالفهم الذي من عنده، وما أعمقه! وهكذا يصبح التأمل هبة من الله، تأخذ منه الروح ما يريد أن يعطيه...
إن التفكير العقلي المحض لا ينتج تأملًا...
بل قد ينتج علمًا أو فلسفة وما أشبه.. وهنا يبدو الفرق بين العالم والعابد، بين الدارس والمتأمل، بين الباحث والمستِقبل من الروح!
إن التأمل ليس هو مجرد فكر، إنما هو خلط الفكر بالقلب، وترك العقل كمجرد أداة من الروح. ثم تبتهل الروح لتأخذ من الله ما تعطيه للعقل... فلا تقف يا أخي في تأملاتك عند مستوى العقل... بل اطلب من الله الذي عنده كنوز المعرفة، ليعطيك الفهم العميق...
القراءة في الكتب الدينية والروحية، قد تكون مصدرًا للتأمل:
القارئ السطحي يقرأ كثيرًا ولا يتأمل. أما القارئ الروحي فالقليل من القراءة يكون له نبع تأملات لا ينضب. إنه لا يركز على كثرة القراءة إنما على ما فيها من تأملات. وقد تستوقفه عبارة واحدة، فيغوص في أعماقها، ويظل سابحًا في تلك الأعماق... ويفتح الله قلبه، فيجد في تلك العبارة الواحدة كنزًا عظيمًا، مهما اغترف منه لا ينتهي...
إن تركت القراءة في نفسك تأثيرًا، فلا تقف عند حد هذا التأثير. بل خذها مجالًا لتفكيرك وتأملك، منتظرًا أن يمنحك الله من خلالها شيئًا...
معاملات الله مع الناس، هي أيضًا مجال واسع للتأمل
ليس فقط من جهة الأبرار، وسادتنا الرسل الأطهار الذين أحبهم الله وأحبوه، وكانت له معهم علاقة وطيدة، واستخدمهم في رسالات... وإنما أيضًا معاملة الله للخطاة الذين انتفعوا من طول أناة الله وغنى رحمته، فتابوا وتغيرت حياتهم إلى العكس تمامًا. وأيضًا معاملته تعالى للذين عاندوا وتقسّت قلوبهم...
حقًا إن معاملات الله تصلح للتأمل. وما أكثر الكتب التي نشرت عنها..
اقرأ اذن كثيرًا في الكتب الروحية فالقراءة تشغلك بفكر روحي.
ويظل هذا الفكر يتعمق فيك. والفكر يلد فكرًا من نوعه، ويلد أيضًا الكثير من المشاعر والعواطف والتأملات، ويمنح قلبك نقاوةً وطهرًا...
ومتى قرأت لا تقف عند حدود القراءة والتأمل في ما تقرأ، بل اخلط ذلك بحياتك العملية، واستخرج منه منهجًا تسير عليه، ويدخل في علاقتك بالله والناس. كما أن التأمل في ما تقرأ، يفتح لك طاقات من نور، تشرق على ذهنك.. والتأمل يعوّدك العمق...
واعرف أن موهبة التأمل هي للكل: للأبرار كما هي للخطاة:
فالخطاة لهم قدرة عجيبة على التأمل، وإنما في مجال الخطيئة. فالذي يحب خطيئة معينة، ما أسهل أن يسرح فيها، ويتأملها بعمق، وتملك على فكره وقلبه ومشاعره، ويؤلف حولها قصصًا ولو في خياله
والتأمل موهبة للأدباء والشعراء ومؤلفي الروايات والحكايات..
كذلك فإن الخطاة الذين لهم موهبة التأمل -إذا تابوا- يحولون موهبة تأملهم في مجال روحي، كما فعل القديس أوغسطينوس في كتابه (الاعترافات)، وفي كتابه (مدينة الله)، وفي مؤلفات أخرى...
التأمل في الطبيعة:
ليس مجرد التأمل في مجال الطبيعة، إنما بالأكثر فيما تحمل من روحيات.. كقول داود النبي في المزمور "السموات تحدّث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه. وهكذا نتدرج من الطبيعة إلى عظمة خالقها، كقول أحمد شوقي أمير الشعراء:
هذى الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريك بديع صنع الباري
لهذا كانوا يدرّسون الفلك في الكليات اللاهوتية. لأن النظام الدقيق العجيب الذي فيه، يثبت وجود خالق كلى القدرة استطاع أن يوجده...
إن التأمل في السماء والسماويات، لاشك يرفع عقل الإنسان وقلبه إلى فوق، ويسمو به كثيرًا عن مستوى المادة والماديات...
ويرتبط التأمل بالسماء تأمل آخر في الملائكة وكل القوات السمائية...
وإن كان هذا التأمل أعمق منا، فلنتأمل في أرواح الأبرار الذين انتقلوا إلى السماء، وبخاصة منهم أولئك الذين يرسلهم الله في خدمات على الأرض، ودرجات كل من هؤلاء...
ثم ماذا عن الأبدية، والمجد العتيد في ملكوت الله؟ أليست كل هذه موضوعات للتأمل؟ وإن كان ذلك فوق مستوانا، فلنهبط إلى الأرض ونتأمل الخليقة المحيطة بنا، وقدرة الله في صنعها:
الزهور من حيث جمالها، وتعدد ألوانها، وعطرها وتناسقها.
هذه التي لم يكن سليمان في كل مجده يلبس كواحدة منها. ولو تأملنا الفارق العظيم بين الزهور الطبيعية وغيرها من الزهور الصناعية التي مهما أفتنّ الإنسان في صنعها تبقى بلا حياة، بلا رائحة بلا نمو. هنا عظمة الخالق سبحانه!
نفس الوضع إذا تأملنا في طيور السماء، في تعدد أنواعها وأشكالها، ونغمات أصواتها، وطباعها ورحلاتها وقناعتها، يزيد صورة الله من عظمة الله في خلقه...
صدقوني حتى حشرات بسيطة كالنملة أو النحلة يمكن أن تكون مجالًا للتأمل:
حقًا، إنني في حياتي كلها لم أرى نملة واحدة واقفة بلا عمل! إنها دائمة الحركة، دائمة العمل، لا تهدأ. كما أن جماعات النمل درس عجيب في التعاون والنظام، وفي حمل أشياء في عشرات حجمها، وهى تسير في طابور طويل متجهه نحو هدف ثابت، وباتصالات بعضها بالبعض!
النحلة أيضًا، التي قال فيها أمير الشعراء أحمد شوقي:
مملكة مدبَّرة بامرأة مؤمرّةْ
تحمل في العمال والصناع عبئ السيطرةْ
أعجبْ لعمال يولون عليهم قيصرةْ
إن النظام المذهل الذي تعيشه مملكة النحل هو مجال لتأمل عميق... كيف خلق الله النحل بهذه الإمكانيات والقدرات؟! وكيف تستطيع أن تجمع الرحيق وتصنعه شهدًا؟! وكيف تصنع خلاياها بهندسة متقنة عجيبة؟! وكيف تصنع غذاء الملكات؟! ما أعجبها! وما أعجب خالقها!
إن الإنسان الروحي يستطيع أن يأخذ كل شيء مجالًا للتأمل. ويمكن أن يستخرج من الماديات ما تحمله من دروس روحية.
إن جسم الإنسان -وهو مادة- إلا أنه مجال واسع للتأمل
يكفى أن تتأمل كل عضو فيه، وعلم وظائف الأعضاء: المخ مثلًا وما فيه من مراكز عجيبة، للنظر والسمع والحركة والكلام. بحيث إذا لم يصل الدم إلى مركز منها، يبطل عمله ويصير صاحبه معوقًا!...
كذلك القلب -وهو كقبضة اليد- ولكنه جهاز دقيق جدًا، تتوقف عليه حياة الإنسان، كما المخ أيضًا، ويعوزنًا الوقت إن تحدثنا عن كل أجهزة الجسم البشرى، وكيف تعمل متناسقة في اتزان عجيب. وبعض هذه الأجهزة إذا تلف، لا يقدر كل التقدم العلمي على إرجاعه إلى وضعه الطبيعي... أليس هذه إعجازًا يدل على قدرة الله في خلقه؟! لذلك كانوا قديمًا يدرّسون علم الطب، لأنه يعمّق الإيمان بقدرة الخالق...
وإن كانت قدرات الجسد هكذا، فكم بالأكثر قدرات الروح!!
التأمل في الأحداث...
ليس من صالحنا أن تمر علينا أحداث التاريخ مرورًا عابرًا، دون وقفات من التأمل في يد الله في التاريخ...
هل التاريخ مجرد علم وأحداث، أم فيه أيضًا عبر لمن يعتبر؟!
وفيه أيضًا عمل إلهي يحتاج إلى تأمل. إننا لا يمكن أن ننكر يد الله في التاريخ!!
هل نستطيع مثلًا أن ننكر يد الله في الأحداث التي غيرّت مصير روسيا والاتحاد السوفيتي وقضت على إلحادٍ استمر أكثر من سبعين عامًا، وانتهى بسرعة عجيبة غير متوقعة، مما يدل على تدخل يد الله فيه؟!
حقًا إن فصل التاريخ عن الله وتدخله، هو عمل غير روحي...
هناك أيضًا موضوعات أخرى للتأمل:
كالتأمل في الصلاة وكلماتها. لقد قيل عن الروحيين أنهم "من حلاوة الكلمة في أفواههم، ما كانوا يستطيعون بسهولة إلى كلمة أخرى من عبارات الصلاة". أما الذين يتلون عبارات الصلاة بسرعة وسطحية، فإنهم لا يستفيدون روحيًا...
كذلك التأمل أيضًا في الموت والدينونة ونهاية العالم تهب المصلى مشاعر من وجوب السهر الروحي والاستعداد.
وأيضًا التأمل في أحدى الفضائل وعمقها وطرق التعبير عنها.. والتأمل في صفات الله الجميلة، ويده القوية.. والتأمل في سير الأبرار والشهداء... نرى في كل ذلك غذاءً شهيًا للنفس.
التداريب الروحية
ليس الدين مجرد معلومات، أو مجرد امتلاء من المعرفة الدينية. فالمعرفة وحدها لا تكفى... ماذا يستفيد الإنسان إن كان يعرف كل المعلومات عن الفضيلة، دون أن يسلك فيها؟!
إننا نقرأ الكثير من الدروس الروحية، ونستمع إلى الكثير. ولكن المهم هو ماذا نفعل؟ وما هو تأثير كل هذه المعلومات على حياتنا العملية؟ هل اكتفينا بالمعرفة، أم اهتممنا أن نحوّل تلك المعرفة إلى حياة؟
وهذه هي فائدة التداريب الروحية: تحويل كل المعارف والاشتياقات الروحية إلى ممارسة وعمل والى حياة.
يدخل بها الإنسان في مواجهة عملية مع نفسه، فيعرف حقيقتها، ويدرس ضعفاته ونقائصه وأخطاءه، ويعرف ما هي أسباب أخطائه، وما هو طريق مقاومتها، وما هي العقبات، وكيف يمكن الانتصار عليها؟؟ وهكذا لا يقف عند حدود المعرفة الدينية، ولا يكتفي بمجرد الاشتياقات إلى الفضيلة، إنما يتدرب عمليًا عليها، لاكتساب فضائل جديدة، أو للنمو روحيًا. وبالتدريب يبدأ في أن يجاهد مع نفسه، كما يطلب معونة من الله تسنده وتنميه..
إن الأبرار -في سموّهم الروحي- لم يصلوا إلى درجاتهم العالية دفعةً واحدة. بل تدربوا حتى وصلوا، بجهاد وتعب، وعلى مدى زمني...
فلا يجوز لنا أن نأخذ ما كُتب عن قممهم الروحية كأنه نقطة بدء لنا! ولا نبدأ نحن بما وصلوا إليه في نهاية جهادهم، بل نتدرج... وإن كنا نشتاق إلى اقتفاء أثرهم، واقتناء فضائلهم، فلنتدرب على ذلك خطوة خطوة...
حسن أن يشتهى المرء الحياة الفاضلة. ولكن عليه أن يسير في هذا الطريق بحكمة. وحبذا لو كان ذلك تحت توجيه مرشد روحي قد اختبر ونجح...
والتداريب الروحية تدل على أن صاحبها سهران على خلاص نفسه...
لا تلهيه مشاغل الدنيا عن التفكير في الأبدية ومداومة العمل لأجلها. فهو يحاول باستمرار أن يكتشف أخطاءه، أو الأخطاء التي يكشفها له غيره، ويعمل على تفاديها. لأنه بدون ذلك لا يمكنه أن يتدرب على تركها...
فلا تتضايق إذن ممن يظهر لك عيبًا فيك. بل استفد من هذا الكشف لكي تتخلص من هذا العيب. وأنت من ذاتك أفحص نفسك في ضوء وصايا الله، وأعرف ما ينقصك حتى تجاهد في اقتنائه...
واحذر من تبرير نفسك، ومن تغطية الأعذار بالأخطاء:
فإن عمى الخطأ، هو أن يرى الإنسان نفسه بلا خطأ، وأن يكون بارًا في عينيّ نفسه!! والذي يبرر نفسه، يبقى دائمًا حيث هو، ولا يُصلح من ذاته شيئًا... وكثير من الناس لهم طباع خاطئة ثابتة فيهم، لا يرجعون عنها على مدى الزمن. ذلك لأن نفوسهم -للأسف- جميلة جدًا في أعينهم! وهم يرون أنهم دائمًا بلا عيب ولا نقص. ويهاجمون كل من يُظهر لهم عيبًا فيهم، ويعتبرونه عدوًا أو مدعيًا...
أما أنت فلا تكن كذلك، بل حاسب نفسك بدقة شديدة، ولا تعذر نفسك مطلقًا. فسوف يأتي وقت تقف فيه أمام الله بلا عذر...
وإن كنت تستحي من أن يكشف لك الغير خطأً فيك، فلا شك أنك لا تستحي بنفس القدر إذا ما اكتشفت أخطاءً في نفسك...
لهذا أجلس مع نفسك، وكن صريحًا مع ذاتك إلى أبعد الحدود. ولتكن مقاييسك الروحية عالية في مستواها. ولا تكتفِ بالمستوى العادي، بل حاول أن ترقى بالمقياس الروحي الذي تقيس به نفسك. واطرق نقط الضعف التي فيك، والتي تكشفها لك قراءتك عن سير الأبرار وفضائلهم، أو التي تدركها من سماعك بعض العظات التي تشعر أنها تمس حياتك..
وثق انك لو دربت نفسك على فضيلة واحدة كل أسبوع، أو حتى كل شهر، لأمكنك أن تقتنى عددًا كبيرًا من الفضائل كل عام، أو أن تثبت فيها بكثرة الممارسة. وأعلم أن الفضائل مرتبطة ببعضها البعض. فإن مارست إحداها، ستقودك إلى فضائل غيرها ما كنت قد وضعتها في تدريبك. ذلك لأنها جميعها في ارتباطها مثل حلقات في سلسلة واحدة...
وثق أنك إن بدأت في تداريبك الروحية، فإن نعمة الله ستبدأ معك.
فإن الله لن يتركك وحدك في تداريبك، لأنك قد أظهرت بها أنك جاد وملتزم بالسلوك في الحياة مع الله. وبشعورك هذا سوف تتجاوب معك المعونة الإلهية. وإن كان الشيطان يحاول أن يحاربك بشتى الطرق أن تكسر التدريب أو تنساه، فإن النعمة سوف تسندك لكي تتذكره وتنجح فيه. والمهم هو أنك لا تتراجع ولا تتراخى. بل كن حازمًا مع نفسك...
وإذا دربت نفسك على فضيلة ما، فأعرف أن الثبات فيها هو أهم بكثير من مجرد اقتنائها...
لأنه ما أسهل أن تستمر في إحدى الفضائل يومين أو ثلاثة أو أسبوعًا.. ثم تتخلى عنها. إنما المهم أن تستمر فيها، حتى تصبح هذه الفضيلة عادة فيك، أو تتحول إلى طبع. وهكذا يحتاج كل تدريب إلى مدى زمني حتى يرسخ في أعماق نفسك. لأن كل تدبير لا تثبت فيه زمنًا، يكون بلا ثمر...
لأن الزمن والاستمرارية هما المحك العملي لمعرفة عمق الفضيلة فيك. والوقت أيضًا يعطى فرصة لمعرفة المعوقات التي تقف ضد التدريب، ولمعرفة طرق التغلب عليه
لذلك فإن القفز من تدريب إلى آخر، لا يفيد روحيًا.. وكثيرون يريدون أن يصلوا إلى كل شيء في أقل فترة من الوقت، فتكون النتيجة أنهم لا يصلون إلى شيء، بسبب عدم التركيز...
وليكن التدريب الذي تدرب نفسك عليه واضحًا ومحددًا...
فلا تقل لنفسك: أريد أن أدرب نفسي على حياة الوداعة والاتضاع. بينما تجد عبارة (الاتضاع) غير واضحة أمامك في معناها وتفاصيلها، وهكذا لا تفعل شيئًا! بل ادخل في التفاصيل مثلًا، وقل "أريد في حياة الاتضاع أن أدرب نفسي على أمر واحد فقط وهو إنني لا أمدح نفسي". فإن أتقنت هذا الأمر زمننًا، تقول "أدرب نفسي على ألا أسعى وراء مديح الناس". فإن أتقنت هذا أيضًا، تقول "أدرب نفسي على شيء آخر، وهو أنه إذا مدحني آخر، لا أشجعه على الاستمرار، أو أغيرّ مجرى الحديث. أو على الأقل لا أسرّ بالمديح، بل أتذكر بعض ما أعرفه عن نقائصي، لكي تتوازن مع ما سمعته من مديح"...
ولا تدرب نفسك على محبة الآخرين دون أن تعرف مثلًا تفاصيل هذه الفضيلة. وإن عرفتها، أسلك فيها واحدةً فواحدة...
وليكن تدريبك الروحي في حدود إمكانياتك، تستطيع تنفيذه عمليًا...
ذلك لأن البعض قد يضع لنفسه تدريبًا فوق مستوى إرادته، أو لا تساعده عليه ظروفه! أو في تدربه على فضيلة ما، يقفز إلى مستوى درجة عالية لا يمكنه الاستمرار فيها. وقد يصيبه ذلك بنكسة فيما بعد ترجعه إلى الوراء خطوات...
بل يمكن مثلًا أن يتدرج في التدريب. بحيث لا يأخذ في كل مرة إلا جزءًا واحدًا من تفاصيله، كما ذكرنًا في حديثنا عن الاتضاع...
ولتكن تداريبك في صميم حياتك العملية الواقعية...
فإن ما يصلح لغيرك من التداريب، قد لا يصلح لك أنت... وكذلك لتكن تداريبك في حياة الفضيلة تناسب قامتك الروحية، وتتفق معك حياتك وظروفك من كل النواحي.
ولا تبالغ في تقييم مقدرتك، بل اسلك باتضاع وحكمة...
وإن فشلت في تدريبك في وقت ما. فاستفد من فشلك بأن تعرف أسبابه، وتحاول أن تتحاشاه فيما بعد. وليكن ذلك سببًا في اتضاعك، وأيضًا يدفعك إلى الإشفاق على الذين يفشلون...