رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع والشريعة
"ما جئتُ لأُبطل بل لأُكْمِل" (متى ٥: ١٧) عظة السيد المسيح على الجبل، دُعيت بحق شرعة الدين المسيحي، وقد حرص فيها السيد المسيح على التأكيد أنه ما أتى لينقض الشريعة، بل ليكمَلها. وهذا ما نريد أن نتأمله ونفهمه ونعيشه موضحين أن السيد المسيح أتمَ الناموس ودعا الناس إلى إتمامه، واليوم يدعونا نحن أبناء هذا العصر إلى العمل به وإتمامه، ولكنه تخطَى، في الوقت عينه، الحرف منه إلى الروح، فكانت الشريعة معه وبتعاليمه لا حرفًا يُميت بل روحًا يُحيي. 1. السيد المسيح أتمَ الشريعة قد يظن البعض أن السيد المسيح أراد أن يخرج على الشريعة ويقوَض أركانها، وهذا ظن في غير محله. ذلك أن السيد المسيح، وإن حمل على الفريسيين الذين أفرغوا الشريعة من معناها، فقد حافظ على هذه الشريعة بالذات فأحب الهيكل، وثار على الذين ينتهكون حرمته يوم طرد الباعة منه (مرقس ١١: ١٦)، واعترف بقدسية الذبائح التي تقدَم فيه (متى ٥: ٢٣-٢٤)، حين دعا إلى مصالحة الخصم قبل تقدمة القربان والذبيحة، وما كان ليخاصم الفريسيين حبًا بالخصام، لكنه أطاعهم يوم دعوه إلى ترك الجليل اتقء، لشر هيرودس الذي كان يتربص به (لوقا 13: 31)، وأقرَ ما فرضوه من عشور تناولت النعنع والشَمرة والكمون، ولو عاب عليهم خروجهم على قواعد العدالة (متى ٢٣: ٢٣)، ودعا الناس إلى أن يعملوا بأقوالهم ولا يفعلوا أفعالهم (متى ٢٣: ١-٣)، ولبَى دعواتهم إلى زيارة بيوتهم وتناول الطعام على موائدهم (لوقا ٧: ٤٦ و١١: ٣٧ و١٤: ١). 2. دعا إلى إتمام الشريعة أمر السيد المسيح الأبرص بعد أن شفاه، بإتمام ما تفرضه الشريعة (متى ٨: ٤)، وأوجب على الشاب الغنيَ التقيد بالوصايا كما وردت في الناموس (متى ١٩: ١٥)، وبين في مثل الغنيَ ولعازر الفقير أن الشريعة والأنبياء يعربان عن إرادة الله ويكفيان لمن اتبعهما وعمل بأوامرهما لإرشاده إلى الطريق الصحيح (لوقا ١٦: ٢٩-٣١)، ولكنه بالرغم من ذلك كان وفيًا لروح الشريعة فأعلن أنه نور وهدى، لا قيد ونير، ولذلك قال أن السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت (مرقس ٢: ٢٧). 3.الشريعة كانت حرفًا سما السيد المسيح بهذه الشريعة في درجات الكمال حتى نفذ إلى مطلوبها، فتعمَق في روحها وفهم غايتها فرمى في كل عمل إلى ما يكمن وراءه من نيَة، ورمى في كل نيَة إلى ما تتضمنه من محبة. لذلك لم يسنَ شرائع جديدة، لكنه جلا القديمة منها على حقائقها، فإذا الشريعة القديمة تنهي عن القتل "لا تقتل"، أما يسوع فينهي عن نيَة الإساءة وإغضاب القريب (متى ٥: ٢١-٢٤)، والشريعة القديمة تنهي عن الزنى، أما هو فينهي عن كل نظرة سوء، وشهوة القلب (متى ٥: ٢٧-٢٨)، والشريعة تنهي عن الحلف، أما هو فينهي عن الحلف بالسماء عرش الله وبالأرض موطىء قدميه وبالرأس الذي لا نقدر أن نجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء (متى ٥: ٣٣-٣٧)، وإذا هي تنهي عن الثأر، أما هو فيأمر بالتمنع عن ردَ السيئة بسيئة مثلها (متى ٥: ٣٨-٤٢)، وإذا هي تأمر بمصادقة من يصادقنا ومعاداة من يعادينا، وأما هو فيأمر بمحبة الأعداء والمضطهدين (متى ٥: ٤٣-٤٨)، وهكذا لم يحلَ الشريعة ولكنه أتمَها، فأصبح مصدرها: "المحبة". 4.أصبحت الشريعة روحًا هكذا أصبحت النيَة مركز الشريعة لا العمل الخارجي، فإذا كان الإنسان صالحًا أتى كالشجرة بثمار صالحة (متى ٧: ١٥-٢٠)، وأصبح مقياس الصلاح الإستسلام لإرادة الله الذي يرى الخطايا ويجازي علانيةً، وما عادت تفيد صدقة تجلب على صاحبها المديح، وصلاة تخنق روحها الثرثرة، وصوم يكسو الوجه برقعًا من جهامة، فخير الصدقة عندما تكون سرَاً، وخير الصلاة عندما تكون في مخدع، وخير الصوم عندما يكون صاحبه مدهون الرأس مغسول الوجه، غير عابسِ وحزين (متى ٦: ٤ و٦: ١٨)، وهكذا سقطت التقاليد البالية التي لاتنفذ إلى باطن الإنسان. والباطن منبع الشر ومصدر السوء وقد قال السيد المسيح: "ان ما ينجس الإنسان لا ما يدخل فمه، بل ما يخرج من فمه: الأفكار الرديئة والقتل والزنى والفجور والسرقة وشهادة الزور والتجديف (متى ١٥: ١-٢٠). فالضمير هو ما ينجَس الإنسان ويطهَره، وليس الشريعة كشريعة. فلا يكفي أن يحظر القتل والزنى والسرقة إنما يجب أن يهاجم الداء في مكمنه الداخلي، ويسأصل من جذوره، لذلك يجب أن نذهب حتى إلى القلب فنملأه بمحبة الله والقريب. وهاتان المحبتان مختصر الوصايا والشرائع (متى ٢٢: ٤٠) ومعاملة الناس بمثل ما نريد أن يعاملونا به، هي القاعدة الذهبية التي يجب أن نمشي عليها لنرضي الله والضمير (متى ٧: ١٢)، فلا نريد لأحد إلاَ ما نريده لنفوسنا من الخير، فنصدق الناس القول ونبادلهم المساعدة ونصفح عن الإساءة ولا نضمر الأذية ولا نتكبر ولا نتعجرف بما نقوم به من أعمال برَ وإحسان، وهكذا نكون قد تسامينا بالوصية إلى ينابيعها الفوارة والمليئة بالمحبة. وهكذا تصبح المحبة الشاملة الكاملة المقياس الذي يجب أن نعتمده في أعمالنا على حدَ ما قال السيد المسيح "أعطوا تعطوا ستُعطون في أحضانكم كيلاً حسناً مركوناً" (لوقا ٦: ٣٨). وهو مقياس يبقى فوق طاقة الطبيعة البشرية الضعيفة، فلا يقوى الإنسان إعتماده إذا لم يتَكل على نعمة ربه، وجعل السيد المسيح مثاله الأعلى الذي ما أمرنا بوصية إلاَ ومارسها ومشى عليها وعبَد لنا الطريق التي تمكننا من أن نتأثر خطاه فيها. اللهمَ، أعنا على افتقاء خُطاك والتقيد بوصاياك، فلا نتخذها حرفاً يُميت بل روحًا يحيي حتى نصل إليك انت ينبوع الحياة الأبدية |
|