كيف أُغرم نيتشه بالترحال، رغم حالته الصحية المتردية؟
ج:عاش " نيتشه " يعشق الموسيقى والقراءة والكتابة، فكان إنتاجه من الكتب غزير جدًا، وهوى الترحال وأُغرم به فانتقل من مكان إلى آخر في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، كالطير الذي لا عش له، مفضلًا إقامة مجتمع عالمي، معتقدًا أن المستقبل للمواطن العالمي، فالسوبرمان لا يقترن بموطن معين، إنما جميع الأوطان هي وطنه، مثل نابليون وجوته وبيتهوفن وشوبنهَور، وعاش نيتشه حياته بلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء ولا إله، فقد كان يتعبَّد في محراب ذاته ويشعر بالاستعلاء على كل أحد، لم يعتز بالقومية الألمانية، إنما كان فخورًا بجذوره البولندية، وأيضًا الشعب الألماني لم يحفل به أثناء حياته ولم يهتم بآراءه الصادمة.
ويقول عنه " بولس سلامة": "كان مترجرجًا لا يطمئن به بلد، ولا يستقر في أرض. فكذلك أضحت فلسفته رجراجة تثب من أفق إلى أفق، ومن واد إلى ربوة، ومن صخر إلى كثب.. فهو شريد شاذ، لا زواج ولا وطن.. لا يكاد يعتنق فكرة حتى يفرُّ منها إلى سواها، دائم التجوال ودائم البحث عن جديد. كذلك شأنه في التفكير وفي الصداقات.. أو لم يكتب وهو تلميذ في الخامسة عشرة من سنه: لا يحق لأحد أن يتجاسر فيسألني عن وطني، فلستُ مرتبطًا بالمكان ولا بالزمان الذي يمر، إني طليق كالهواء.. وهو دائم التناقض لا يتروى ولا يبرم أمرًا، فتراه دائم العراك مع أصحابه ومع نفسه.. ولا ريب أن كبرياءه كانت من الأسباب التي جرت عليه وعلى الملائكة من قبله ما جرت من النكبات. ألم يكتب إلى أمه وهو بعد تلميذ رخص العود: لن يؤثر عليَّ أحد، لأني لم أرَ حتى الآن من هو فوقي. وكتب إلى أخته.. لا أحسب في مقدوري التعلق بأحد، لأن ذلك يفترض إني لقيتُ إنسانًا في مرتبتي.. لقد كان الرجل في عزلة رهيبة، أليس هو القائل: اشتهيت البشر ونشدتهم فلم أجد سوى ذاتي، ولقد سئمت من ذاتي.. ولقد كتب إلى أخته في سنة 1888م قبل انتهاء حياته العاقلة بقليل: لا يكاد يبلغني صوت صديق، أنا الآن وحدي، ولقد مرت بي سنون أقفرت من العزاء" (37).
ويقول "د. عبد الرحمن بدوي " عن نيتشه وعدم استقراره " هذا الذي طارده شيطانه طوال حياته، وأبعد بينه وبين الواقع، فحرمه الاستقرار والثبات على شيء ما من الأشياء، أو علاقة ما من العلاقات، وجعله مضطربًا كل الاضطراب، قلقًا لا يعرف الاطمئنان سبيلًا إلى قلبه ولا الاستقرار منفذًا في حياته. فحرمه أول ما حرمه من البيت والأبوة والزوجة. ولا يكاد يستقر في مكان حتى ينتقل عنه إلى مكان آخر، فظل طوال حياته شريدًا طريدًا" (38).
أما عن حالة الصحية المترديَّة فقد تكاثرت الأمراض عليه نحو عشرين عامًا، لا يكاد ينتهي من مرض ألاَّ ويبدأ في مرض جديد، فكان يعاني من قصر نظر شديد، وكانت عيناه تتورمان لأقل مجهود تبذلانه، أو تبكيان بكاءًا شديدًا. وإذا أستمر في عمله على الرغم من ذلك، أصابهما التهاب شديد يحرم صاحبهما من القراءة، حتى أنه وهو في سن الخامسة والعشرين كان يستعين بمن يقرأ له ويكتب، وكان يسير بخطى بطيئة متثاقلة، كمن يسير في بحر لا يدري أغواره، ولا يستطيع أن يعاين نور الشمس أكثر من ساعة ونصف كل يوم، وبينما كان ينقل المرضى والجرحى من الجنود في حرب ألمانيا مع فرنسا سنة 1870م أصيب بالدوزنتريا، ويقول "دكتور عبد الرحمن بدوي " عن الآلام التي كانت تنتاب نيتشه " تارة في صورة أوجاع في الرأس وصداع يصحبه إبراق في العينين، وطورًا على شكل قئ مؤلم مختنق، يتلوه شعور عام بشيء يشبه الشلل، وطورًا ثالثًا يكون هذا المرض إغماء يفقد صاحبه الشعور لمدة غير قصيرة.. ثم شعور بضغط في الدماغ يستمر طويلًا، ولا يكاد ينقطع عنه من بعد إلاَّ سويعات بسيطة وأوقات متناثرة نادرة" (39).
والأمر العجيب أن " نيتشه " لم يمل المرض، بل تعايش معه، وأفتخر به، فتراه يقول "تألم فالألم مصدر العظمة" (40). ولم يضق " نيتشه " بمرضه، بل كان يشعر أن المرض هو الذي يخلص الروح ويحرّرها، فقال " لا أريد أن أودع هذه الفترة من المرض والألم دون أن أعترف بالجميل الذي طوَّق عنقي به، والذي لا أزال أنعم بآثاره التي لا تفنى ولا تنفذ " والمرض لدى نيتشه يجمع بين شاطئين، شاطئ الألم المظلم وشاطئ الشفاء الباهر النور، وأعتبر أن الألم شرط لبلوغ السرور، وأيضًا الألم يجعل العقل يسمو والإنسان يزداد في الروحانية. ولعل حياة المرض المتصلة والآلام المبرحة التي كابدها نيتشه تفسر لنا حلمه ببلوغ الإنسانية مرحلة " الصحة العظمى". وفي سنة 1879م استقال من التدريس في جامعة باذل بسبب المرض، وظل أستاذًا على المعاش وعندما تعافى نيتشه من المرض قليلًا خلال الفترة 1881-1884م كتب " الفجر" و"العلم المسرور " والجزء الأول والثاني من " زرادشت".