التسبيح والتمتع بالقوة الإلهية
عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، وَعَظِيمُ الْقُوَّةِ.
لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ .
إذ هو الخالق القدير، ليس فقط خلق تلك الكواكب التي لا تُحصي، وإنما يحصي عددها ويدعوها بأسماء، وكأنه يهتم بكل كوكبٍ.
ربما يتساءل أحد، قائلًا: إنني لن أنكر عظمة الخالق، ولا قدرته الفائقة، لكن أين رعايته لي، وأنا أعاني من ضيقات كثيرة؟ إني اشعر مع أرسطو أنه خلق العالم وأوجد قوانينه الطبيعية، حركه ثم تركه، يبقي في سماواته لا علاقة له بخليقته.
لهذا يجيب المرتل: "لفهمه لا إحصاء". هو يحصي الكواكب ويدعوها بأسماء، أما فهمه فليس من كائنٍ يقدر أن يعرف أسراره وخطته. وكما جاء في إشعياء: "أما عرفت أم لم تسمع. إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا، ليس عن فهمه فحص، يعطي المعيي قدرة، ولعديم القوة يكثر شدة... أما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة النسور، يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون". (إش 40: 28-31)
عظمة الرب وقدرته، ليس فقط أنه عظيم وقدير، وإنما يجعل الملتصقين به عظماء وقديرين، يهبهم ما يبدو مستحيلًا. وكما أن صلاح الله يتجلي في أن يحول حتى ما يبدو شرًا إلي خيرٍ وصلاحٍ، يحولنا من الضعف البشري إلى جبابرة بأس.
بروح الوداعة نثق في وعوده، فننعم بقوة خلاصه. يقول الرسول: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء، لأنه من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا؟!" (رو 11: 23-24)
* "عظيم هو ربنا". إذ يمتلئ المرتل بالفرح يفيض بكلماته بقوة، ومع ذلك كان إلى حدٍ ما عاجزًا عن التكلم...
"وعظيمة هي قوته، ولا عدد لفهمه". ذاك الذي يحصى الكواكب هو نفسه لا يُمكن أن يُحصى.
كيف نفسر هذا؟ من يمكنه أن يتأهل حتى لتخَّيل معنى "ولا عدد لفهمه"...؟ مهما احتوى هذا العالم من أمورٍ غير محدودة، فهي غير محدودة بالنسبة للإنسان، لكنها ليست كذلك بالنسبة لله، فهي محصية حتى بالنسبة للملائكة.
فهمه يتعدى كل آلات حاسبة، إنها غير محصية بالنسبة لنا. الأعداد نفسها من يعدها؟ ماذا إذن بالنسبة لله الذي به كان كل شيء؟ وأين صنع كل الأشياء؟ ولمن قيل: "أنت نظَّمت كل الأشياء في مقياسٍ وعددٍ ووزنٍ"؟ (حك 11: 20) أو من الذي يقدر أن يعِّد أو يقيس أو يزن، المقياس والعدد والوزن أنفسها، بينما وضع الله نظامًا لكل الأشياء؟ لهذا "لا عدد لفهمه".
لتخمد الأصوات البشرية، ولتسكن الأفكار الإنسانية، ليتها لا تمتد نحو الأمور التي لا يمكن وصفها كي ما تصفها
القديس أغسطينوس
* لا تسأل كيف (يجمع شعبه) وبأية وسيلة، فعظمته بلا حدود، إذ يقول: "ليس لعظمته حدود" (راجع مز 145: 3). وكما أن عظمته بلا حدود هكذا أيضًا فهمه...
معرفته عجيبة؛ من ثمَّ يقول المرتل أيضًا: "عجيبة هذه المعرفة فوقي، ارتفعت لا أستطيعها". (مز 139: 6) وبالتالي أحكامه لا تُفحص، لذا يقول: "أحكامك لجة عظيمة" (مز 36: 6). مادام هو عظيمًا، وقويًا، ولا يمكن إدراكه، لا تكن فضوليًا تسأل كيف يحدث هذا
* بعد أن تعلم أسرار حكمة الله الخفية، يقول إن هذه الحكمة لا يُمكن بلوغها ولا إدراكها، "عظيم هو ربنا، وعظيم القوة، لحكمته لا حدود" ، بمعنى أنه ليس من طريق لإدراكها .
القديس يوحنا الذهبي الفم
الرَّبُّ يَرْفَعُ الْوُدَعَاءَ،
وَيَضَعُ الأَشْرَارَ إِلَى الأَرْضِ
مسيحنا الذي جاء ليقيم ملكوت الله في داخلنا، يهبه لنا إن سلكنا بروح الوداعة والتواضع.
"الرب يرفع الودعاء، ويضع الأشرار إلى الأرض". يريد الله أن جميع الناسيخلصون، وإلي معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). فمن يعترف بضعفه، ويسلك بروح التواضع يرفعه الرب كما بجناحي حمامة، ويطير كما في السماء. وأما من يُصر على شره، فبثقل الخطية يهبط مع فرعون وجيشه في الأعماق كحجرٍ (خر 15: 5).
حينما يقول المرتل "يضع الأشرار إلي الأرض"، إنما يعني أنه تحت إصرار الأشرار علي شرهم، يسمح الله لهم أن يهبطوا تحت ثقل خطاياهم إلي الأرض، ولا يستطيعوا القيام أو الانطلاق نحو السماوات. وذلك كما أصر فرعون على مقاومته للحق الإلهي، فتركه يمارس قسوة قلبه.
يرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة وردت بعد القول: "لا عدد لفهمه"، وذلك لأنه إذ يشعر الإنسان بعجزه عن فهم الأسرار الإلهية، يليق به أن يكرِّم الكتاب المقدس، كلمة الله، حتى إن بدا له أنه غير واضح، وبروح الوداعة ينتظر ليعطيه الرب فهمًا، دون أن ينتقد غموض الكلمة، أو يتهم الكتاب بوجود متناقضات.
إن كان الله يسمح بوجود غموضٍ، إنما لكي نقرع فيفتح لنا. هذا القرع على الباب الإلهي نافع للإنسان.
* لئلا يقول بعض الأغبياء: ماذا تفيدنا المعرفة الدقيقة للكواكب؟ لهذا يشير المرتل أيضًا إلى العناية التي يقدمها للكائنات البشرية بهذه الطريقة. إنه لا يقول: "الرب يعين الودعاء"، بل ما هو أعظم، "يرفع"، كمن يتحدث عن أبٍ محبٍ.
الآن ماذا تعني "يرفع"؟ الفوز الساحق، والسمو، والمسك باليد.
ألا ترون أيضًا قوته في العمل في كل حالةٍ، برفع المتواضعين والهبوط بالمتشامخين؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
* تشير الكلمات: "ليأت إلى (جنته)" (نش 4: 16) إلى إعطاء حرية الاختيار مثل "ليتقدس اسمك" "ولتكن مشيئتك". وكما توضح هاتان الفقرتان حرية الاختيار، فإن صلاة العروس "ليأت إلى" تشير إلى الله مانح ثمار الفضيلة وإلى نزول العريس من أجل حبه للبشرية.
لا يمكن لنا أن نرتفع إلى أعلى السماوات بدون أن ينزل هو إلى الودعاء ويرفعهم (مز 147: 6)، لذلك تنادي النفس التي ترتفع إلى أعلى الله الذي لا حدود له، وتصلي له لكي ينزل من علياء عظمته حتى يتمكن من يعيشون على الأرض أن يقتربوا منه.
وبينما كانت تتكلم، يجيب الرب "هأنذا" (إش 58: 9). سمع الرب ما كان يدور بخلد العروس، ومنحها سؤل قلبها، وأتى إلى جنتها عندما كانت ريح الجنوب تهب، والتقط ثمار أطيابها، واِمتلأ بثمار الفضيلة، وتكلم عن وليمته، قائلًا: "قد دخلْتِ جنتي يا أختي العروس. قطفت مرّي مع طيبي. أكلت شهدي مع عسلي. شربت خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، اِشربوا واِسكروا أيها الأحباء" (نش 5: 1).
هل ترى الآن كيف تفوق عطية العريس ما تطلبه العروس؟ أرادت العروس ينابيع من الأطياب في حديقتها وأن تهبّ على نباتاتها ريح الجنوب في منتصف النهار، وأن ينال راعي الحديقة الثمار حسب اختياره... جعل العريس الأشجار تُنتج الخبز الذي خلطه بعسله بدلًا من الثمار المختارة
القديس غريغوريوس النيسي
أَجِيبُوا الرَّبَّ بِحَمْدٍ.
رَنِّمُوا لإِلَهِنَا بِعُودٍ .
يليق بنا أن نتحدث مع كل شخص بلغته. الله ينبوع الفرح السماوي، فمن يود الحديث معه يلزمه أن يتعلم لغة الشكر أو الحمد، مع الترنيم أو التسبيح. فالقلب الشاكر ينفتح على الله، ويُقال عنه ما قيل عن موسى: "ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه" (خر 33: 11). أما القلب المتذمر، فلن يقدر أن يسمع صوت الله، وإن سمعه لا يفهمه، وبالتالي لا يقدر على الدخول في حوار حب مع خالقه ومخلصه.
* "ابتدئوا للرب بالاعتراف". إن أردت البلوغ إلى فهم واضح للحق، ابتدئ بهذا.
إن أردت العبور من طريق الإيمان إلى بلوغ الحقيقة "ابتدئ بالاعتراف".
أولًا اتهم نفسك، وسبِّح الله... وماذا بعد الاعتراف؟ ليتبع ذلك الأعمال الصالحة.
"رنموا لإلهنا بالقيثارة"... ليس فقط بالصوت، وإنما أيضًا بالأعمال.
القديس أغسطينوس
* بعد الإشارة إلى إنجازات الله، يحثهم (المرتل) على التسبيح، قائلًا: "اصرخوا إلى الرب بالاعتراف (الحمد)"، أي بالشكر في غيرة عظيمة .
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "رنموا لإلهنا بقيثارة". للقيثارة أوتار كثيرة، إذا انكسر أحدها لا يمكن العزف عليها. هكذا الإنسان الصالح، حتى وإن كان قديسًا إن افتقر إلى فضيلةٍ واحدةٍ لا يستطيع أن يشترك في تقديم تسبحته!
القديس جيروم
الْكَاسِي السَّمَاوَاتِ سَحَابًا،
الْمُهَيئ لِلأَرْضِ مَطَرًا،
الْمُنْبِتِ الْجِبَالَ عُشْبًا .
كثيرًا ما يشير السحاب إلي القديسين، الذين إذ تُغفر خطاياهم، لا تثقل نفوسهم لتهبط إلي الأرض، أو تغوص في الأعماق كحجرٍ، بل تطير كسحابٍ نحو السماء، وترتفع من مجدٍ إلي مجدٍ.
الله في حبه للبشرية يهيئ للأرض مطرًا، فيحول البراري القاحلة إلي جناتٍ مثمرةٍ. ما هو هذا المطر إلا نعمته الإلهية التي تنزل إلى قلوبنا، فتقيم ملكوتًا إلهيًا داخلنا؟
"المنبت الجبال عشبًا"، تكسوها بالجمال، وتجعلها صالحة لرعاية الغنم، ويرتفع عليها الرعاة بقطعانهم بفرحٍ وبهجةٍ. هكذا يعمل الله في حياة أولاده، فيقيم منهم جبالًا مقدسة، تصير مراعٍ خضراء ترعى فيها نفوس كثيرة، حيث تجد فيها كلمة الله طعامًا روحيًا ينعشها.
في العبارات السابقة أوضح القديس أغسطينوس أن ما ورد في الكتاب المقدس يبدو أحيانًا غامضًا حتى نقرع على الباب، فيهبنا الله فهمًا، ونتمتع بخبرات مفرحة. كما أوضح أن الله يرفع الودعاء الذين بروح التواضع يطلبون من الله الفهم، ولا يأخذون موقف النقد بروح الكبرياء والتشامخ.
الآن يقدم المرتل تشبيهًا عمليًا. عندما تمتلئ السماء سحابًا تختفي السماء وتبدو غامضة، وإذ تُمطر السحب تأتي الأرض بثمار كطعامٍ للإنسان والحيوان. هكذا السحب هنا هي غموض النبوات في الكتاب المقدس، لكن متى تحققت يدرك المؤمن الأسرار الإلهية، ويتقبل هذا المطر، أي الفهم المقدم لنا من الأعالي، ليجعل أرضنا مثمرة ومتهللة!
* انظروا إلى حكمته، فقد أشار (المرتل) إلى الأمور الصالحة التي للنفع العام والمقدمة لكل واحدٍ، غالقًا أفواه (الأشرار) بذات الفيض الذي يقدمه الله. بمعنى آخر إن كان هكذا يقدم عناية عظيمة حتى بالنسبة لغير المؤمنين حتى يجمع سحابًا، ويرسل مطرًا للشرب، ويهب حيوية للأرض، كم بالأكثر يعمل لنفعكم يا من تُدعون شعبه الخاص.
* لئلا يقول شخص متبلد: بماذا تنفعني السماوات؟ للحال يشير إلى حاجة البشرية، مظهرًا هذه الإضافة لماذا يكسي السماوات بالسحاب. يقول: من أجلكم؛ لكي يمدكم بالمطر، فالمطر هو لأجلكم، حيث يجعل العشب ينمو... إنه يرسل المطر للشرب، ويهب الأرض حيوية وبهجة، وبالأكثر هو لنفعكم أنتم الذين تُدعون شعبه الخاص .
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "المهيئ للأرض مطرًا". تحتاج الأرض إلى المطر، ينبوع التعاليم الإلهية، لتعطي ثمرًا.
"المنبت الجبال عشبًا". الكتاب المقدس يدعو إبراهيم جبلًا، وإرميا وإسحق والأنبياء جبالًا مقدسة. هذه الجبال تضم محاصيل وعشبًا. فالإنسان يحصل على المحاصيل منهم، والحيوانات تحصل على العشب .
القديس جيروم
الْمُعْطِي لِلْبَهَائِمِ طَعَامَهَا،
لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ .
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ويعطي البهائم غذاءها، ولفراخ الغربان التي تدعوه".
إن كان الله قد خلق الحيوانات لخدمة البشر، فإنه يعتني بالحيوانات، فيرسل مطرًا على الجبال، لكي تنبت عشبًا كطعامٍ للحيوانات.
وتمتد رعاية الله إلى فراخ الغربان التي تبدو لنا بلا نفع، لكن الله الذي طبيعته الحب والرعاية يسمع صرخاتها، ويرسل لها طعامها. حقًا إن فراخ الغربان لا نفع لها للإنسان، وعاجزة عن حماية نفسها وتدبير أمورها، والله لا يتغاضى عن صرخاتها التي قد لا يسمعها أحد. كم بالأكثر تكون رعاية الله واهتمامه بالبشر، خاصة الذين يسبحونه، وهم من خاصته.
ليس للبهائم القدرة على النطق، لكن الله يعرف ما تسأله داخليًا، وما تحتاج اليه، فيقدم لها طعامها. كما يسمع لصرخات فراخ الغربان الجائعة، فيهبها طعامًا.
يقول القديس أغسطينوس إن هذه العبارة تحمل مفهومًا رمزيًا. فالقطيع الذي يعطيه الله غذاءه يشير إلى قطيع المسيح العاقل الذي يهبه طعامًا روحيًا يشبع أعماقه. أما بالنسبة للغربان فهي تشير إلى الأمم، وإن كانت قد عاشت زمانًا تتعبد للأوثان وتقاوم الحق الإلهي، غير أن فراخ الغربان تدعو الله لكي تخلص، فقد ترك الأمم آباءهم الوثنيين، ودعوا الله، فقدم لهم الإيمان الحي طعامًا لنفوسهم.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم فيض عناية الله الفائقة، فإنه إن كان يهتم بالسحاب ليجلب أمطارًا تنبت الجبال عشبًا لتجد الحيوانات طعامها، وذلك لصالح الإنسان، فإنه يهتم حتى بفراخ الغربان التي تبدو كأنها بلا منفعة، أفلا يهتم بالأكثر بالبشر الذين يحسبهم خاصته. "والآن هكذا يقول الرب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل: لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك، أنت لي" (إش 43: 1).
* يقول: "انظروا إلى طيور السماء"، ولم يقل: لأنها لا ترتبك بأمور الحياة، ولا تقيم أسواقًا للتجارة، لأنه من البديهي لا يحدث هذا. لكن ماذا قال؟ إنها لا تزرع ولا تحصد.
ورُبّ قائل: ماذا إذن، ألا يجب علينا نحن أن نزرع؟
لم يقل الرب ذلك. ولا يحبنا أن نمتنع عن الزراعة، بل أن نمتنع عن القلق.
وهذا لا يعني أن نكف عن العمل، بل أن يكف المرء عن ضيق الأفق، ولا يربك نفسه بالهموم. لأنه يأمرنا أيضًا أن نأكل، لكن دون أن نقلق.
داود أيضًا منذ القديم يقول بشكل سرِّي: "تفتح يدك، فتُشبع كل حي رضًى" (مز 145: 16). وأيضًا "المُعطي البهائم طعامها، ولفراخ الغربان التي تدعوه" (مز 147: 9)
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "المنبت الجبال عشبًا، والمعطي للبهائم طعامًا". إن كنت إنسانًا ستحصل على فهمٍ روحيٍ للأسفار المقدسة. إن كنت بهيمة للحمل، تحصل فقط على الحرف .
* "لِفِرَاخِ الْغِرْبَانِ الَّتِي تَصْرُخُ". لم يذكر طائر آخر سوى فراخ الغربان، وليس الغربان ذاتها. الغراب لا يخلص، إنما صغاره يُنقذون. نحن صغار الغربان، لأننا وُلدنا من آباء وثنيين. نحن نقرأ أقوال سليمان الحكيم: "العين التي تسخر من أبيها أو تحتقر حديث أمها تقورها الغربان في الوادي"، يقول الغربان وليس فراخ الغربان. لأن الإنسان الذي يشبه الغربان أو يتسم بصفاته لا يمكن أن يخلص. الغراب المبعوث من الفلك لا يعود إليه. كان في الفلك مع بقية المخلوقات أثناء الطوفان، بعد الطوفان طُرد خارجًا.
نحن إذن فراخ الغربان، نصرخ إليه ونخلص .
القديس جيروم
لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ الْخَيْل.
لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ الرَّجُلِ .
يعمل الله بالقليل كما بالكثير، ففي خلاصه لا يحتاج إلى إمدادات عسكرية "قوة الخيل"، ولا موارد بشرية "ساقي الرجل"، إنما يخلص بقدرته الإلهية ومحبته الفائقة للبشرية.
* "لا يُسر بقوة الخيل". قوة الخيل هي الكبرياء. لأن الخيل يبدو كمن يتهيأ ليحمل الإنسان عاليًا...
في الواقع للخيل رقبة ترمز لنوعٍ من التشامخ. ليت البشر لا يتشامخون كمن يستحقون هذا، ويظنون أنهم مرتفعون بامتيازاتهم السامية، كما من فرسٍ جامح
القديس أغسطينوس
* إذ كانوا ضعفاء، وغير مسلحين، ومُجردين من كل شيءٍ، لاحظوا كيف كانوا في حالٍ يجعلهم في رعبٍ، يقدم لهم الله العون في ضعفهم بالكلمات: "لا يُسر بقوة الخيل، ولا يرضى بساقي الرجل."
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "لا يُسر بقوة الخيل". مكتوب في المزامير: "باطل هو الفرس للأمان"، وفي موضع آخر في الكتاب المقدس: "الفرس والمركبة طرحهما في البحر". كانت الوصية ألا يربي ملك إسرائيل خيلًا. لكن سليمان الذي حصل على مركبات من مصر صار ضحية للشهوة.
"لا يرضى بساقي الرجل". يُسر الرب بالذين يتقونه (يخافونه). خوف واحد يطرد مخاوف كثيرة. أليس من الأفضل أن تخاف من واحد، فلا تخاف الكثيرين، من أن تخاف الكثيرين لكن لا تخاف الواحد؟
القديس جيروم
يَرْضَى الرَّبُّ بِأَتْقِيَائِهِ،
بِالرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ .
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يُسر الرب بخائفيه، وبالذين يتكلون على رحمته".
إنهم لا يتكلون على ما لديهم من قوة عسكرية "قوة الخيل"، ولا ما يتمتعون به من قوة جسمانية "ساقا الرجل"، وإنما ما يحملونه من قوة البنوة لله، فيسلكون في تقوى الأبناء، وينعمون بإمكانيات إلهية من قبل أبيهم السماوي.
الله كأبٍ ليس فقط يهتم باحتياجات مؤمنيه كما يفعل مع الحيوانات والطيور حتى فراخ الغربان الجائعة، وإنما يُسر بهم ويحتضنهم. يكمن سروره بهم في تقواهم ويقوتهم في محبته لهم ورحمته عليهم. هذا هو سرّ جمالهم الداخلي وقوتهم.
يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يربط بين مخافة الرب والرجاء في رحمته، فالخوف دون الاتكال على رحمة الله يحطم الإنسان باليأس.
* اللص يُخاف منه، والحيوان المتوحش يُخاف منه، والإنسان الظالم صاحب السلطان يُخاف منه جدًا.
"يُسر الرب بالذين يترجون رحمته". انظروا يهوذا الذي خان ربنا، لقد خاف، لكنه لم يترجَّ رحمته...
حسن جدًا أن تخاف، ولكن فقط إن كنت تثق في رحمة ذاك الذي تخافه. لقد مضى (يهوذا) في يأس وشنق نفسه.
بحكمةٍ لتخف الرب هكذا، بأن تثق في رحمته.
القديس أغسطينوس