في الليالي طلبت حبيبي
3: 1- 5
ويتتابع النشيد. نادت العروس عريسها لكي يعود. ولكنه ذهب وكأنه لم يسمع صوت ندائها. فذهبت تطلبه، تبحث عنه. راحت في الليل تجوب الشوارع مثل امرأة يائسة، مثل مغرمة مجنونة تبحث عن عريسها ولا تنتظره في بيتها، لا تنتظر ساعة عودته إليها. بحثت عنه فلم تجده.
والتقت بحرّاس الليل. وتركت الحياء خارجًا وسألتهم عن حبيبها. أي جواب أعطوها؟ هذا لا يهمّ. بل ما يهمّ هو السؤال: "أرأيتم مَن يحبّه قلبي"؟ فهي لا تطب إلاّ أن تنضمّ إلى حبيبها وتتمسّك به ولا تتركه من بعد.
وكانت ساعة اللقاء. لم يعتذر الحبيب ولم يقل كلمة عن سبب غيابه. بل ترك الحبيبة تمسك به، تدخله إلى بيتها. إن مبادرة السعادة تعود كلها إلى العروس التي ذهبت تطلب عريسها، فأعادته إلى "البيت". هذا ما فعلت في هذه القصيدة الثانية. أما في القصيدة الأولى (2: 3) فالعريس هو الذي أدخل عروسه إلى قاعة الوليمة.
ويتجاوب الحبيب مع الحبيبة عبر القرار (الردّة) الذي وجّهه إلى بنات أورشليم: "لا تنهضن الحبيبة ولا تنبّهنها حتى تشاء". هي الآمرة والسيّدة في قلبه. هذا ما يفعله الحبّ في قلب العريس، هذا ما يفعله الحبّ في قلب الله.
(آ 1) طلبت العروس عريسها على السرير، فكان طلبُها تكذيبًا لخياناتها السابقة. نقرأ في أش 57: 8 بلسان الرب: "جعلت وراء الأبواب والقوائم رموز آلهتك (ما يذكّرك بهذه الآلهة). ابتعدت عني وتعرّيت وصعدت على سريرك. اشتريت لنفسك محبّين ونظرت عورتهم ". وفي هو 7: 14: "لا يصرخون إليّ من قلوبهم: فحين يولولون على أسرّتهم... يفكّرون عليّ بالسوء".
السرير هو فلسطين (رج 1: 16). نجد هنا صيغة الجمع "ل ي ل وت " الليالي. قد نكون أمام ليالٍ متعدّدة. وبالأحرى أمام ساعات الليل التي لا تنتهي كما في آ 2- 4. ولقد دلّ تفسير 2: 17 أن هرب الظلال والاستيقاظ يرمزان في الكتاب المقدّس إلى حدث الخلاص الذي يأتي بعد المحنة. مقابل هذا، يكون الليل والظلمة صورة عن انتظار طويل تعرفه النفوس التي يضيّق عليها الألم. نقرأ في أش 5: 30: "السواد والضيق في أرضها"، والنور تحجبه الظلمة". وفي 8: 22: "وينظر إلى الأرض فإذا الشدّة والظلمة وسواد الضيق ". رج 9: 1؛ 21: 11؛ 26: 9؛ 49: 9؛ 59: 9؛ 60: 1- 6؛ عا 5: 18-20 (يوم الرب هو لكم ظلام لا نور، سواد لا ضياء له)؛ يوء 2: 2 (يوم ظلمة وغروب، يوم غيم وضباب)؛ صف 1: 15؛ مز 112: 4.
"طلبت... طلبت فما وجدت ". لقد قصد الشاعر هذا التكرار. فـ "طلب ووجد" (أو: ما وجد) الرب عبارة نجدها مرارًا عند الانبياء. في أش 51: 1 (يطلبون برّ الرب) ؛ 65: 1 (وُجدت لمن لا يطلبونني)، زك 8: 21- 22 (لاستعطاف الرب والتماس وجهه)... أما النص الأقرب إلى نش فنجده في إر 29: 13؛ هو 3: 5؛ 5: 6، 15.
في إر 13:29 (تطلبونني فتجدونني إذا طلبتموني بكل قلوبكم) طلب بنو اسرائيل الربّ. وبما أنهم طلبوه بكل قلوبهم فهو سيجعلهم يجدونه كما يعيد أسراهم. إذن، لا ينتظر الله إلا بحثًا صادقًا لكي يُعيد في الحال حضوره كما يعيد الشعب إلى أرضه. وهذا النصّ هو صدى لتعليم هوشع. فنحن نقرأ في هو 5: 3: "وبعد ذلك (أي بعد المحنة التي حلّت بهم) يرجعون (يتوبون) ويطلبون الربّ إلههم من جديد، وداود يكون ملكًا لهم. يعودون بخوف إلى الرب وجودته في آخر الأيام ". وسيشدّد هوشع على التوبة الناقصة التي لا تستطيع أن تصل إلى هدفها. "سيذهبون مع غنمهم وبقرهم ليطلبوا الرب فلا يجدونه، لأنه تخلّص منهم " (انفصل عنهم، تخلّى عنهم) (هو 5 :6). فما ينتظره الله لكي يتحنّن على شعبه، ليس حركات طقسيّة، بل سلوكًا أخلاقيًا يسير بحسب وصاياه. "روح الزنى في داخلهم، وهم لا يعرفون الربّ " (5: 4). ويعلن 5: 15 بصريح العبارة متطّلبات الرب: "أمضي راجعًا إلى موضعي (أي أتركهم وحدهم) إلى أن يعترفوا بخطيئتهم ويلتمسوا وجهي. في ضيقهم يبكّرون في طلبي ".
لقد عزم الرب أن يختفي ما دامت التوبة غير صادقة. وستدلّ الآيات التالية في هوشع على أن المخطئين ما زالوا يعيشون في السراب. فالعاطفة التي تعيدهم هي صادقة، لأنهم يهتمّون بأن "يعرفوا الله "، ولكنهم يتصوّرون أنهم يكتفون بمهلة يومين لكي يعود إليهم رضى الله. إنهم بهذا يتجاهلون المجهود الطويل الذي تطلبه توبة جديّة. لهذا، لا يعدهم الرب بشيء، بل يذكّرهم بخطاياهم السابقة، ويشدّد على وسع المهمّة الأخلاقيّة المطلوبة منهم (هو 6: 1ي).
هذه النصوص التي ذكرناها تتيح لنا أن نفهم ما وراء نش 2: 1ي. ظنّت العروس أنها "امتلكت " العريس. ولكنه اختفى فجأة. هذا يعني أن استعدادات تلك التي طلبته لم تكن كاملة.
(آ 2) وحضّت العروس نفسها على أن تقوم وتطوف في المدينة. أجل، لقد حزمت أمرها. كانت نائمة فقامت. كانت شبه ميتة فعادت إليها الحياة، وأخذت تطوف في المدينة (أش 23: 16؛ جا 12: 5). أية مدينة؟ هنا نجد أل التعريف كما في أم 1: 21 (عند مدخل المدينة)، فيدلّ النصّ على مدينة أورشليم. وإذ تذكر مرارًا بنات أورشليم، وإذ يلمّح النصّ إلى الهيكل في 4: 1، 17؛ 3: 4؛ 5: 10- 16، فهذا يدلّ على أن المدينة المقدّسة هي في قلب نظرة الشاعر.
نقرأ "ش و ق ي م ". في العربيّة: السوق، الأسواق. وفي الأشوريّة "سوقو" ثم "ر ح و ب و ت "، الأمكنة الرحبة والواسعة، الساحات التي هي قريبة من باب المدينة. هنا يجتمع الناس.
"أطلب مَن يحبه قلي " (حرفيًا: نفسي). عبارة قرأناها في 1 :7 وسوف نجدها أربع مرات في هذا المقطع: آ 1، 2، 3، 4. هذا ما يترجم عمق الحبّ الذي كاد يضيع من الجنون حين رأى أن المحبوب قد مضى.
يقول الشرّاح إن هذا المشهد ليس بواقعيّ، والمرأة لا تذهب في تلك الليالي إلاّ إذا كانت مجنونة. لهذا نكون أمام استعارة ورمز. حين عادت الأمّة إلى أرض فلسطين بعد أيام المحنة والمنفى، لم "تشعر" بخيرات ذاك الذي ظنّت أنه جاء معها. هي فلسطين، ولكن الليل ما زال مسيطرًا. والليل هو زمن القلق والألم. أخذت تطلبه في مدينة أورشليم حيث يجب أن يُوجَد، وهو الذي اختار أورشليم مقامًا له. إن هذه المعطيات توافق الحالة النفسيّة التي نجدها في عدد من النصوص التي تذكر حقبة ما بعد المنفى، ولاسيمّا أشعيا الثالث.
(آ 3) نقرأ فعل "م ص ا" الذي عنى في آ 1، 2: وجد. أما هنا فهو"لقي، التقى". يقول الشرّاح إن حراسة المدينة في الليل تعود إلى الحقبة المكدونيّة، أي بعد الاسكندر الكبير. هل هذا يعني أن نش دوّن في زمن متأخّر. ولكن ذُكرت حراسة الليل في نح 4: 3 (أقمنا حراسًا نهارًا وليلاً). ونصّ نش هنا يعود إلى أش 62: 6: "على أسوارك يا أورشليم أقام الرب حرّاسًا لا يبتعدون نهارًا و ليلاً" (رج 52: 8).
يرى أش 62 أن الحرس يقومون على أسوار أورشليم، فيذكّرون الرب بمدينتهم المدمّرة المقفرة. ويتمنّون أن يعيد بناءها، وأن يعود إليها مع المسبيّين (آ 7، 10، 11). حينئذ لن تعود أرض إسرائيل مقفرة، لن تعود "المدينة المهجورة"، بل "المدينة المطلوبة" للزواج. كما افتدى الرب شعبه، ها هو يطلب مدينته (آ 12). ونرى في أش 52: 8 الحرّاس ينظرون إلى عودة الربّ مع الأسرى، وهو يستعدّ لتدشين ملكه في نهاية الأزمنة (آ 7، 9، 12).
استعمل نش بحريّة هذه المراجع، ولكن ظلّ الموضوع التقليديّ هو هو. فحين تسأل العروس الحرّاس، فهي تجعلنا أمام صورة عن الضياع وتمنٍ بتدشين حقبة من السعادة لا غيوم فيها. "امتلكت " عريسها وها هي قد أضاعته. هذا هو وضع الشعب بعد عودته من أرض المنفى. وهو يرجو حدثًا قريبًا يكون نهائيًّا، ها هو ينتظر الخلاص.
الحرّاس "يطوفون في المدينة". في آ 2 أ، كانت العروس "تطوف في المدينة". تكرار تعوّدنا عليه في نش (رج 5: 7). ويأتي سؤال لا تسبقه أيّة مقدّمة (كما في آ 2. أقوم. لا نجد: فقالت في نفسها).
لا تقدّم العروس نفسها للحرّاس. لا تعتذر، هي لا تعرف ماذا تقول. هي تتبع اندفاع عاطفتها، وكأن الناس الذين تحدّثهم يعرفون مَن هو حبيبها. هذا ما يفهمنا مرّة ثانية ارتباط هذا النص بما في أشعيا.
وهؤلاء الحرّاس الذين سوف نراهم في 5: 7، سيأخذون موقفًا معاديًا. إنهم يمثّلون القوة الغريبة التي تسيطر على أورشليم (نح 5: 15؛ ملا 1: 8) والتي في فلكها يدور عدد كبير من أعداء الجماعة العائدة.
(آ 4) "ك م ع ط ": قليل جدًا، ما كدت (أتجاوزهم). كنت عبرت (مبتعدة) عنهم. "ع د. ش ": الى أن يدلّ على الوقت الذي يمتدّ. " (انتظرت) حتى وجدت ".
"لا أرخيه ". هل تروي العروس حدثًا مضى، أو هلِ تلمّح إلى شيء حصل في تاريخ اسرائيل؟ إن السمات الاسكاتولوجيّة التي أشرنا إليها سابقَا، تجعلنا نظنّ أن العروس تتطلعّ إلى المستقبل، إلى شيء تنتظره بحرارة، إلى موضوع أملها وهي قلقة. من هنا العذاب الذي يحزّ في قلبها فتحاول أن تشركنا فيه.
"حتى أدخله ". نجد فعل "ب ي ا" في سياقه العاديّ في 2: 4. ويرى بعض الشرّاح أن نهاية الآية مأخوذة من 8: 2 (أقودك وأدخل بك إلى بيت أمي). بعد أن وجدت العروس حبيبها، لا تستطيع أن تبقى في شوارع المدينة خلال الليل. ونرى في إدخال العريس إلى بيت أم العروس ذروة في آمال الحبيبة ونهاية مبتغاها.
يبقى أن نعرف معنى "بيت أمي " و"خدر مَن حبلت بي ". هناك آراء عديدة نوردها فتدل على تنوعّ التفاسير. (1) جاءت العروس بالعريس إلى خدرها الذي هو خدر أمّها. وقد تكون الأم توفّيت لأنها لا تظهر أبدًا في نش. (2) لم ترضَ الأم عن علاقة ابنتها بالحبيب فلامتها. وفي النهاية امتنعت الأم فأدخلت الحبيبةُ حبيبَها وقدّمته إلى أمّها. (3) هكذا يكون العريس مقبولاً، فتعترف به عائلة العروس. (4) رأى ممثلو الفرضيّة العباديّة شبهًا بين آ 1- 4 (موضوع العريس الذي ضاع ووُجد، مع حدث الحرّاس) وسطرة نزول عشتار إلى الجحيم: تباحثت مع حرس الأبواب السبعة، واستعادت تموز، وانتهى كل شيء بزواج مقدّس. ويرى أصحاب هذه الفرضيّة أن هذه السطرة (حسب تث 23: 18- 19 ؛ 2 مل 23: 7) وُجدت في هيكل أورشليم من خلال رجال ونساء مكرّسين في الهيكل. وقابل آخرون مع سفر القضاة، فرأوا في العريس الذي ضاع ووُجد صورة عن تابوت العهد الذي أخذه الفلسطيّون المسيطرون على شاطئ البحر، ثم عاد على مراحل إلى أورشليم، وأدخل إلى معبد داود ثم إلى هيكل سليمان.
"خدر الأم " هو المعبد أو الهيكل. والأم تدلّ إمّا على مدينة أورشليم وإمّا على الشعب (بشكل تكراركما في 3: 11؛ 8: 5 ب). هذه الملاحظة الأخيرة هي صحيحة، وهذا ما نكتشفه في تفسير 1: 5. أما عبارة "بيت أمي " فهي ترادف "خدر مَن حبلت بي "، كما في 6: 9 و8: 5 (رج هو 2: 7). وقد رأينا في 1: 4 أنّ "أخدار الملك " (ح د ر ي و) تدلّ على الهيكل الذي يرتبط مع مُلك الرب الاسكاتولوجي.
هذا يعني أن "البناء الذي شيّدته أمي " هو "بيت أمي " و"خدر مَن حبلت بي ". وهكذا تكون رغبة اسرائيل الحارّة بعد أن وجدت إلهها الذي هو ملكها أيضاً (1: 4)، أن يجعلها على عرشه باحتفال في معبد شيّدته الأجيال السابقة. هذا هو التمنّي الرفيع التي تعبّر عنه نهاية القصيدة الثانية.
(آ 5) هذه الآية قد قرأناها في 2: 7، وسوف نقرأها في 8: 4. وهكذا تبدو بشكل ردّة أو قرار يتكرّر في نش. وهي تأتي بعد صورة تعبّر عن امتلاك العروس للعريس امتلاكًا تامًا.
إن 2: 7 اختتم القصيدة الأولى. و3: 5 اختتم القصيدة الثانية. وهنا وهناك تفهمنا الردّة أن حبّ العروس لم يصل بعد إلى درجة من الكمال لتستحقّ أن تمتلك العريس حقًا. فالعودة التامة والطوعيّة إلى ما يطلبه الربّ، هما الشرط الذي لا غنى عنه لكي يعود الرب إلى هيكله ووسط شعبه.
* في الليالي على فراشي
لقد غاب العريس وكأنه لن يعود أبدًا. إنه صامت لا يقول كلمة. فهتفت العروس: "في الليالي على فراشي طلبت مَن يحبّه قلبي، طلبته فما وجدته ".
كم حصل من تبدّل لدى تلك التي هتفت في نشوة من الفرح: "سريرنا أخضر" (1: 16)! ها هي بالأحرى مستعدّة لأن تقول مع صاحب المزامير: "دموعي كل ليلة تفيض فأغمر بها فراشي ". لم يعد السرير سرير الأعراس، بل سرير المرض والحمّى دون أن يكون هناك علاج أو دواء. "في الليل، على فراشي، طلبت ".
فالحبيب الذي كان لها في فترة ظنّت أنها ستدوم إلى ما لا نهاية، والحبيب الذي قال لها في ما مضى إنه يجد العذوبة في صوتها، هذا الحبيب ما عاد يسمع صوتها. إنه لا يشعر بأنينها وتشكّيها. اختفى ولم يشفق عليها.
وترد أربع مرّات في هذه الآيات كلمة تصوّر كل نشاط العروس الآن: "طلب (بحث، فتّش). طلبت في الماضي. أطلب الآن. سأطلب في ما بعد. وبعد كل محاولة نجد صدى لهذه العبارات في كلمات تدلّ على اليأس: "ما وجدته ". غاب العريس وغاب معه كل السحر الروحيّ والإلهيّ، سحر الكروم والأزهار. انصرف صاحب العذوبة وتبعته عذوبته مع بهجته: فرح الزهور، رائحة الكروم، غنى الثمار... وخرجت من الحبيبة ثقة الحبّ، ومن الحمامة جمال الوجه وعذوبة الصوت. ومن الجميلة نعمة الشبه بالله. وبقي للحبيبة عزلتها. وللحمامة تنهّدها. وللفاتنة شكلها. وانغلقت نخاريب الصخر، وانغلقت مخابئ السفوح، فلم يعد من ملجأ للحمامة سوى قلبها.
"طلب، وجد". فالحبيب والحبيبة يطلب الواحدُ الآخر، ينادي الواحد الآخر، يضيعّ الواحد الآخر، فيطلبه ويجده ويتمّ العناق. لقد كان يوحنا الصليب في السجن فرأى أن عزلة سجنه أقسى من غياب الحبيب الذي هرب فطلبه بدون توقّف. ولكنه طلبه "في الليل ".
والبحث القلق لدى العروس جعلها تترك كل تحفّظ كل فطنة. ذهبت وحدها في عزّ الليل. لم تهتمّ لنفسها. كانت في الساحات وشوارع المدينة. وهكذا نشرت ولهها بشكل علنيّ. لم يوقفها ما يقوله الآخرون، ولا الخاطر التي تتعرّض لها. تاهت عبر "الأسواق الضيّقة" كما في الأماكن الرحبة، وفتشت في كل زاوية. فلم يكن لطلبها من نتيجة. فذاك الذي لم تجده في صلاتها الحارّة وتوسّلها، لا يستطيع البشر أن يردّوه إليها. ليس هو هنا ولا هناك. ولا يستطيع أحد أن يردّه إليها. وهو لا يُوجد إلاّ في الساعة التي فيها يكشف عن نفسه بكل حريّة وساعة يشاء.
تأوّهت تريزيا الأفيليّة أنه ليس من العدل. أن عليها أشغالاً عديدة، وأن ليس لها كثير من الوقت لتكرّسه للتأمّل. فيجب على الرب ان يكون هنا في ذلك الوقت. ولكنه يختفي ويصمت. هذا ما لا تستطيع أن تحتمله. قالت: "آ 5، يا ربي! أما يكفيك أن تتركني في هذه الحياة التعيسة التي أحتملها حبًا بك، فأقبل أن أعيش على الأرض حيث كل شيء يمنعني من التمتعّ بك. حيث يجب أن آكل وأشرب وأتاجر وأتعامل مع البشر، وأتحمّل كل شيء من أجل محبّتك. أنت تعرف يا رب أيّ عذاب يشكّله لي كل هذا. فهل يجب بعد الآن أن تختبئ في اللحظات القليلة التي بقيت لي لكي أتنعّم بك؟ كيف تتكيّف رحمتك مع هذا الوضع؟ كيف يستطيع حبّك لي أن يحتمل هذا؟ أظن يا رب أنه لو أمكن لي أن أختبئ عنك كما تختبئ عني، فحبّك لا يحبّ هذا. أنت معي وتراني دائمًا. فهذا لا يُحتمل يا رب. أرجوك أن تعتبر أنك تجرح تلك التي تحبّك حبًّا عظيمًا".
والعروس التي تجري كالمجنونة عبر المدينة، عبر أورشليم، عبر العالم، لا تحمل على شفتيها إلاّ اسمًا واحدًا: "ذاك الذي يحبّه قلبي ". فهي لا تسمّيه باسم آخر. ويعود هذا الاسم أربع مرات في هذه الآيات فتدلّ عودته على حنان قلبها وتمزّقه. وقد طبّق آباء الكنيسة هذا المقطع من نش على مريم التي بحثت بقلق واضطراب عن يسوع عبر شوارع أورشليم عينها. وقالت له هي أيضاً، هي حبيبة الله الحقيقيّة: "يا ابني، لماذا فعلت بنا كذلك؟ ها أنا وأبوك نطلبك معذّبين " (لو 2: 48).
* لقيني الحرّاس الطائفون في المدينة
غير أن العروس لا تكتفي بأن تطلب بنفسها حبيبها في كل مكان. بل هي تسأل المارّين. تسأل الحرّاس الذين يطوفون في المدينة: "أرأيتم ذاك الذي يحبّه قلبي "؟
مَن هم هؤلاء الحرّاس؟ هل هم أولئك الذين قال عنهم الله بفم أشعيا: "على أسوارك يا أورشليم أقمت حراسًا لا يسكتون نهارًا ولا ليلاً" (62: 6- 7)؟ هل هم حرس وضعهم الاحتلال يجوبون شوارع المدينة في الليل ليقمعوا كل تحرّر؟ ما هو أكيد هو أن الحبيبة لم تنل منهم جوابًا. لم يظهروا تجاهها شفقة ولا اهتمامًا ولا جوابًا.
يجب أن نقول أيضاً إنها حين سألتهم، أعطتهم إشارة خاصة عن حبيبها لا تساعدهم على التعرّف إليه. "هل رأيتم ذاك الذي يحبّه قلبي "؟ أي سؤال هذا يطرح على "شرطيّ "! فماذا سيجيب؟ أترى هؤلاء الحرّاس يعرفون أفكارها. تسألهم عمّن تحبّه. فكأن لا اسم له. ولكن كيف يمكن أن يكون للحبيب اسم آخر غير الاسم الذي هو لها؟
ونقابل هنا بين جري حبيبة نش عبر شوارع أورشليم، وجري مريم المجدليّة إلى قبر يسوع الفارغ في صباح القيامة. نحن أمام طلب الحبّ عينه. نحن أمام العجلة عينها في المدينة نفسها، وخلال الليل. قلق واحد. دموع واحدة. ذات الاسئلة غير المفهومة تُطرح. لا أعرف أين وضعوه. قل لي أين وضعته (يو (20: 13- 15). لا شكّ في أن يوحنا حين كتب هذا المشهد تذكّر ما قالته العروس: "هل رأيتم ذاك الذي يحبّه قلبي "؟
لا يستطيع الطائفون في المدينة أن يقدّموا جوابًا إلى العروس. فالحبيب لم يلجأ إلى المدينة ولا إلى خدره. فعلى العروس أن تطوف في الشوارع والساحات، أن تتوجّه إلى الذين يهتمّون بمراقبة المدينة. بعد ذلك، سوف تصل إلى ذلك الذي تحبّه. يجب أن تتجاوز كل شيء لكي تجده في النهاية.
* وما إن تجاوزتهم حتى لقيت حبيبي
لا العالم، ولا البشر، ولا حرّاس المدينة يستطيعون أن يعطوني حضور الحبيب. يجب أن أذهب أبعد من كل هذا. هو سرّ حضور لا ينكشف إلاّ في تجاوز متواصل. ولقد عاد غريغوريوس النيصي مرارًا إلى هذا الموضوع الرئيسيّ في كل روحانيّة حقيقيّة. قال: "إن التعليم الذي تقدّمه لنا الكتب المقدّسة هنا هو: من رغب أن يرى الله، فهو يراه حين يتبعه. مشاهدة وجهه مستمرّة. ليس هنا إلاّ طريقة واحدة لكي ندرك ذاك الذي يسمو على عقلنا، هي أن لا نتوقّف من أن نطلبه دائمًا فنتجاوز ما سبق وأدركناه منه ".
ونسمع صوت الحبيبة يعلن الآن: "وجدتُ مَن يحبّه قلبي ". أين وجدته؟ هذا ما لا تقوله. في الواقع ليس هو في مكان آخر إلاّ في قلبها. فالحبيب يقيم دومًا في أعماق ذاتنا لا في الخارج. فالعروس وجدت الحبيب في نفسها، وحين نزلت إلى عمق بحث لا حدود له. هناك وجدته إن كنا نستطيع حقًا أن نجده.
قال يوحنا الصليب: "لكي نجد الحبيب بقدر ما يمكن أن نجده في هذه الحياة، يجب أن نلاحظ أن الكلمة المتّحد مع الآب والروح القدس يسكن جوهريًا في أعماق النفس الحميمة حيث يختفي. ولهذا، فالنفس التي تجده في اتحاد الحبّ، يجب عليها أن تجرّد إرادتها عن كل الأشياء المخلوقة، أن تدخل في اختلاء روحيّ وداخليّ، وهناك تقيم علاقات مليئة بالحبّ والوداد مع الله. لهذا توجّه القديس أوغسطينس إلى الله في الاعترافات فقال: "يا رب، ما وجدتك خارجًا عني. وهذا يعني أني طلبتك بشكل سيّئ. طلبتك في الخارج وأنت فيّ ". إذن، الله هو مخفيّ في النفس، وهناك يطلبه المتأمّل الحقيقيّ فيسال: أين تختبئ يا صديقي"؟
وكما اختفى الحبيب فجأة وبشكل سرّي، ها هو يتركها تكتشفه. بدون سبب ولا علّة. بدون إشارة تجعلنا نتوقّعه. حسب حرّيته المطلقة. ولكن أي سعادة الآن في هذه الصيحة: وجدته. لا تقول العروس: وجدته ثانية بعد أن أضعته، بل وجدته. فاكتشافه هو دومًا جديد وكأنه يحدث للمرّة الأولى. فكأني به لم يأتِ بعد. وصوله هو "حضور" دائم.
وفعل "وجد" هو اللفظة التي يتناقلها التلاميذ الأولون على خمس دفعات في إنجيل يوحنا، والتي سيتناقلها عدد كبير بعدهم حين يخبر الواحد الآخر لقاءه مع يسوع. "وجدت، وجدنا". يا ليتنا نكون من هذه النفوس التي تطلبه، تبحث عنه! قال يسوع: "أطلبوا تجدوا. مَن يطلب يجد" (لو 11: 9- 10).
* أمسكته ولا أرخيه، لا أطلقه
والآن، بعد أن "امتلكت " الحبيبة حبيبها من جديد، فليست مستعدّة لأن تتخلّى عنه. فقالت: "أمسكته ولن أطلقه ". لقد تمسّكت بذلك الذي وجدته. تمسكت به ولا تتركه يذهب أيضاً. هذا ما تعتبر أنها فعلته. وهي أكيدة وفخورة بهذا "الصيد" الذي حصلت عليه! أتظنّ أنها استولت عليه بالقوّة، وأنها تستطيع أن تتصرّف به على هواها؟ وتضع أمامها المشاريع. تريد أن تجتذبه إلى خدر أمها. "لن أطلقه حتى أدخله بيت أمي وخدر مَن حبلت بي ".
هذا ما أفرح فرنسيس السالسي فقال: "لا تفكّر هذه العروس إلاّ في أن تجعل حبيبها يأمرها، كعبد حبّ. وتتخيّل أن عليها أن تقوده على هواها، وتدخله إلى بيت أمها. فالروح الذي يدفعه الحبّ الوله يسمح لنفسه أن "يتفوّق " بعض الشيء على ذلك الذي يحبّ ".
أن ترغب العروس في البقاء الآن وحدها مع مَن تحبّ، هذا ما نفهمه. ولكن هل كان من الضروريّ أن تلحّ على ذلك فيصل بها الإلحاح إلى ترك التحفّظ وإفشاء السرّ، فتطلب منه أن يكون معها في بيت أمها؟ ولكن يجب أدن لا ننسى أن العروس هي شعب اسرائيل. ورغبة هذه العروس المنفيّة بعيدًا عن ارضها وعن هيكل الربّ عريسها، هي أن تجد من جديد أورشليم، المدينة التي وُلدت فيها. هي أن ترى الملك عريسها يعود إلى هيكله، إلى قدس أقداس هيكله، إلى خدر مَن حبلت بها، إلى ينبوع حياتها.
ولكن لا يكفيها أن تراه يعود إليها، إلى وسط شعبه. فهي تطلب أكثر من ذلك. إنها تريد أن تدخل ذاك الذي تحبّه إلى "بيت أمّها وخدر مَن حبلت بها" لتولد به من جديد. يُحبل بها من جديد على يده من أجل "ولادة جديدة". فهي تحسّ أنها إن أرادت أن تكون حقًا له، أن تتّحد به اتحادًا حميمًا، يجب أن تولد منه من جديد. لا تريد فقط أن ترتبط بحياته، بل أن تأخذ منه حياتها لتكون أخيرًا تلك المحبوبة التي تحوّلت إلى المحبوب. قالت إحدى المتصوّفات: "لكي يتمّ في نفسي مثل تجسّد الكلمة: فأصبح له بشريّة "زائدة" فيها يجدّد سرّه كله ".
هذا ما قاله يسوع لنيقوديمس: يجب أدى تُولد من جديد، أن تولد عن علُ، أي منه (يو 3: 3). وهكذا تصبح الحبيبة عروسه وابنته. فهذان هما الزوجان الجديدان في العهد الجديد حيث العروس هي معًا زوجة العريس وابنته، كما كانت حواء بالنسبة إلى آدم، وكما ستكون الكنيسة التي وُلدت من جنب المسيح زوجها على الصليب (يو 19: 34- 37).
* أستحلفكنّ يا بنات أورشليم
هنا كان من المفروض أن تنتهي القصيدة الثانية: مع هذا التمنّي العجيب الذي عبّرت عنه العروس بأن لا تكون هي التي تحيا بعد الآن، بل حبيبها فيها كما قال القديس بولس في غل 2: 20. غير أن رغبات الحبيبة تبدو أسرع من توبة قلبها الكاملة. لهذا قال الحبيب: "أستحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء ووعول البرّ، لا تنبّهن الحبيبة ولا توقظنها حتى تشاء".
هكذا كانت القصيدة الأولى قد انتهت: دعا العريس بنات أورشليم إلى احترام العروس في رقادها. ولكن قد نظنّ هذه المرّة أننا أمام نوم هو نوم الاتحاد. لهذا يقوله بعض الشرّاح: "يتمّ الاتحاد في الإعجاب وملء العطاء". ولكن هذه الردّة (هذا القرار) التي تعود ثلاث مرات على شفتي الحبيبة، تدلّ على أننا لم نصل بعد إلى التماهي الكامل مع الحب.
لا شكّ في أن الحبيبة استسلمت إلى الحبيب بحبّ صادق جدًا، وأنها رغبت أن يجعل منها الاتحاد مع عريسها كائنًا واحدًا. ولكن كم هي بعدُ سريعة العطب! "الروح مستعدّ ولكن الجسد ضعيف ". هذا ما قاله يسوع لبطرس الذي احتجّ فقال: "أنا متسعدّ لأبذل حياتي من أجلك ". قال بطرس هذا الكلام بصدق تام، ولكننا نعرف ما الذي حدث بعد ذلك الوقت بقليل.
سوف ننتظر نهاية نش لكي ينتصر الحبّ في العروس انتصارًا تامًا ونهائيًّا. غير أنه ينمو ويتعمّق من مرحلة إلى مرحلة. والحبيب في هذه المرّة لم يدلّ على دهشته ولا على قلّة صبره.
فهو يعرف أنه يحتاج إلى الحياة كلّها لكي يحقّق عمل الارتداد والتأليه. إنه يعرف أن الربيع، مهما كان جميلاً، ليس الصيف. وصبر العريس هو صبر كل محبّ. "لا تنبهن الحبّ، لا توقظنه حتى يشاء".
خاتمة
في القصيدة السابقة، بدت الخلفيّة التاريخيّة للآيات الأولى (1: 5- 11) وكأنها خلفيّة المنفى. ثم انتقل المشهد إلى فلسطين (1: 12- 2: 6): وصلنا إلى امتلاك متبادل بين العروسين، إلى استعادة أرض الموعد. وهكذا نحسّ أننا في أوّل أيام العودة. في القصيدة الثانية، صار الشعب في فلسطين. لم نعد في بداية البناء. والتلميح إلى الثعالب الصغار يجعلنا بعد بناء الهيكل الثاني، أي بعد سنة 515.
وعلى المستوى اللاهوتيّ، الدرس الذي نستخلصه من القصيدة الثانية هو الذي استخلصناه من القصيدة الأولى، وهذا ما يشير إليه القرار: لا يتمّ البناء بشكل نهائيّ قبل أن تستيقظ العروس، أي أن تتوب توبة كاملة. غير أننا نلاحظ هنا تشديدًا على وضع دراماتيكي. فصورة الربيع في آ 11، 13، 15 ب، لا تدلّ على استيقاظ العروس بقدر ما تدلّ على قرب المجيء (رج المعنى الاسكاتولوجيّ للربيع في مت 24: 29- 33؛ مر 13- 28- 29؛ لو 21: 29- 31).
دُعيت العروس إلى أن تخرج من "سباتها" لكي تتنعّم بالربيع. ليس الربيع الصيف، رغم كل تفتّح الحياة وكل الخصب الذي يحمله. إنه يعلنه بشكل مباشر يدلّ الربيع على خصب عاد إلى أرض فلسطين، إلى بركة الله المستعادة. وفي النهاية، أساس هذه الاعتبارات هو المجازاة على هذه الأرض. ولكن خيرات الأرض هي بركات من الله تكافئ أمانة عباده.
اتخذ العريس المبادرة فجاء إلى العروس التي ظلّت بعيدة عن متناوله. ثم بعد أن تركها تمسكه، مضى واختفى. حينئذ انطلقت العروس تبحث عنه. رغب الواحد بالآخر رغبة جامحة، ولكنهما لم يستطيعا حقًا أن يكونا الواحد للآخر. وهكذا نفهم ضرورة توبة كاملة لنحصل على اتحاد كامل ونهائيّ