رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الآباء المؤسسون للرهبنة فى مصر والعالم الأنبا أنطونيوس ابن بنى سويف مؤسس الرهبنة فى العالم.. يعتبره العالم "أب الأسرة الرهبانية" ومؤسس الحركة الرهبانية فى العالم كله، رغم وجود حركات رهبانية سابقة له. وُلد القديس فى بلدة قمن العروس التابعة لبنى سويف، عام 251 م. من والدين غنيين. مات والده فوقف أمام الجثمان يتأمل زوال هذا العالم، والتهب قلبه نحو السماء، وفى عام 269 م، دخل ذات يوم الكنيسة فسمع الإنجيل يقول: "إن أردت أن تكون كاملًا اذهب وبع كل مالك ووزعه على الفقراء، وتعال اتبعنى"، فشعر بأنها رسالة شخصية تمس حياته. عاد إلى أخته الشابة ديوس يعلن لها رغبته فى بيع نصيبه وتوزيعه على الفقراء ليتفرغ للعبادة بزهد، فأصرت ألا يتركها حتى يسلمها لبيت العذارى بالإسكندرية. فى البداية، سكن الشاب أنطونيوس جوار النيل، وكان يقضى كل وقته فى الصلوات بنسك شديد، وإذ هاجمته أفكار الملل والضجر، يجلس ويضفّر الخوص، وأصبح العمل اليدوى من أساسيات الحياة الرهبانية حتى لا يسقط الراهب فى الملل. فى أحد الأيام، نزلت سيدة إلى النهر لتغسل رجليها هى وجواريها، وإذ حَول القديس نظره عنهن منتظرًا خروجهن، بدأن فى الاستحمام. ولما عاتبها على هذا التصرف، أجابته: "لو كنت راهبًا لسكنت البرية الداخلية، لأن هذا المكان لا يصلح لسكنى الرهبان". وإذ سمع القديس هذه الكلمات، قال فى نفسه: "إنه صوت ملاك يوبّخنى"، وفى الحال ترك الموضع وهرب إلى البرية الداخلية، وكان ذلك نحو عام 285 م. استقر القديس فى هذه البرية، وسكن فى مغارة على جبل القلزم شمال غربى البحر الأحمر، يمارس حياة الوحدة. هناك حاربته الشياطين علانية تارة على شكل نساء، وأخرى على شكل وحوش مرعبة. وفى نحو عام 305 م، اضطر أن يكسر خلوته ليلتقى بتلاميذ جاءوا إليه مشتاقين للتدرب على يديه، فكان يعينهم ويرشدهم، وإن كان قد عاد إلى وحدته مرة أخرى. الأنبا أنطونيوس إن كان هذا العظيم بين القديسين هو مؤسس نظام الرهبنة (الوحدة)، فإن حياته تكشف عن مفهوم الرهبنة المسيحية، خصوصا نظام الوحدة: أولًا: خرج للرهبنة بلا هدف كهنوتى، وكانت حركته شعبية لا كهنوتية، لا يطلب التدخل فى التنظيم الكنسى، وحتى حينما أرسل إليه الإمبراطور قسطنطين يطلب بركته، أرجأ الرد عليه، ولما سأله تلاميذه عن السبب، أجاب أنه مشغول بالرد على رسالة الله ملك الملوك، وبعد إلحاح بعث بالرد من أجل سلام الكنيسة. ثانيًا: حبّه الشديد للوحدة، لم يغلق قلبه نحو الجماعة المقدسة، بل كان فى عزلته يؤمن بعضويته الكنسية. لذلك عندما استدعى الأمر نزل إلى البابا أثناسيوس الرسولى (الذى تتلمذ على يدى القديس أنطونيوس)، وبدخوله الإسكندرية ارتجّت المدينة، وخرج الكل متهللين لأن رجل الله قادم. فى البحر الأحمر تأسس ديره. دير الأنبا أنطونيوس بالبرية الشرقية بالبحر الأحمر معنى كلمة دير موناستيريون، وهى كلمه يونانية، أطلقت منذ أوائل القرن الرابع على كل مؤسسة رهبانية قائمة بذاتها فى قلب الصحراء، ولما تجمع الرهبان داخل الأسوار، بدأوا يعيشون معا الحياة المشتركة التى وضعها إعلام الرهبان الأوائل أمثال القديس باخوميوس والأنبا أنطونيوس. موقع الدير يقع دير الأنبا أنطونيوس فى سفح جيل القلزم، وهو أحد سلاسل جبال القلالة القبلية مقابل محافظة بنى سويف، أسفل رابية عالية، ويبلغ ارتفاع موقعه 410 م تقريبا من سطح البحر، وسميت سلاسل جبال البحر الأحمر بجبال القلالة، نسبة إلى القلالى التى كانت مزدحمة بها، ومقابل هذه السلاسل توجد سلاسل جبال القلالة البحرية، وينحصر بينهما وادى عربة. تاريخ الدير أقام الأنبا أنطونيوس فى مغارته، والتف حوله عدد كبير من الرهبان، ما دعا إلى بناء كنيسة يجتمع فيها مع الرهبان، وبعد انتقاله، بدأ الرهبان فى بناء مخزن للطعام ومطبخ وقلالى، على مساحة لا تزيد على 3 أفدنة، يضمها سور من الحجر، في أثناء حكم الإمبراطور يوليانوس الملك الكافر 360 -363 م، وفى أيام حكم الإمبراطور جستنيان، ضاعف مساحته، إلى 6 أفدنة سنة 537م، واستمر ذلك حتى أيام البابا كيرلس الرابع. أما التوسيعات التى أجريت فى هذا الدير، وجعلت مساحته على الوجه الحالى 20 فدانًا تقريبًا فهى التى قام بها البابا كيرلس الرابع فى القرن التاسع عشر، واستمرت من عام 1856-1858 م، وأبرزها بقية السور الذى يضم الأسوار القديمة والكنيسة الجديدة، وهى المكتبة الحالية وصفان من القلالى ومنطقة فى الجهة الغربية، كان يطلق عليها شونة الماعز، وتبلغ مساحتها 5 أفدنة، ومنطقة أخرى فى الجهة القبلية، يطلق عليها بين الأسوار وتبلغ مساحتها 3 أفدنة. قلالى الرهبان القلاية كلمه دخيلة على اللغة العربية، انتقلت إليها من اللغة اليونانية Cell ويقابلها بالإنجليزية Cellule وبالفرنسية Kailon لكن كل هذه الكلمات الأجنبية لها معنى واحد، هو قلاية، أو سكن الراهب. وفى دير الأنبا أنطونيوس مجموعة من القلالى، بعضها قديم والآخر حديث. الحصن هو بناء مكوّن من ثلاثة طوابق، يبلغ ارتفاعه نحو 15 مترا، ويمكن الوصول إليه عن طريق قنطرة خشبية تتحرك بواسطة سلسلة حديدية، تدور حول بكرة مثبتة فى الدور الثالث، لتفصل الحصن عن مبنى الدير ومخازنه، ومن أسفله يوجد طريق تحت سطح الأرض يوصل إلى عين الماء، وقد بنى الحصن فى أيام حكم الإمبراطور جوستنيان سنة 537م، وكان يستخدم فى حماية الرهبان إذا حدث أى هجوم على الدير، حيث كانوا يأخذون معهم الأشياء الثمينة، وما يحتاجون إليه من غذاء وكساء ووقود، وغيره، حتى يمكن لهم البقاء فى الحصن لعدة شهور، إلى أن ينتهى المخرّبون من اعتدائهم . كنائس الدير يعتبر دير الأنبا أنطونيوس أغنى الأديرة فى عدد الكنائس، وهى 7 كنائس. الأنبا بولا وديره بالبحر الأحمر الأنبا بولا والملقب بأول السواح، والسواح درجة من درجات الرهبنة العليا، يصل إليها الراهب بعد سنوات طويلة من التدريب والجهاد الروحى، إلى درجة أنه يصبح غير مرتبط بمكان أو ممتلكات، فمن كثرة زهده، يصل إلى درجة من التجرد تجعله يهيم على وجهه فى الصحراء، ولا يعرف عن حياته الكثير، حيث تقول روايات إنه ولد بالإسكندرية، وأخرى بالأقصر، وتشاجر مع أخيه حول الميراث ثم شاهد جنازة غنى، فأدرك أن العالم باطل وانعزل فى الصحراء، حتى لقائه بالأنبا أنطونيوس قبل موته وهو الذى دفنه. وعاش القديس الأنبا بولا نحو 113 سنة تقريبا، إذ ولد عام 228 م، وتوفى عام 341م، وكان قليل الكلام جدا، فلم يسجل له التاريخ إلا جملة واحدة فقط هى "من يهرب من الضيقة يهرب من الله". أما عن الدير الأثرى على اسم الأنبا بولا الكائن بالبحر الأحمر، فيقع جنوب شرق دير الأنبا أنطونيوس، ويبدأ طريق الدير بعد نحو 25 كم من الزعفرانة، متفرعا من الطريق الرئيسى الزعفرانة – رأس غارب، وممتدا إلى الغرب مسافة 12.5 كم، وتاريخ تأسيس الدير يرجع إلى القرن الرابع الميلادى. وأسس الدير تلاميذ القديس العظيم الأنبا أنطونيوس، وذكر أحد الرحالة ويدعى بسيتمان أنه زار الدير عام 400م تقريبا، وشاهده مبنيا فوق المغارة التى عاش فيها القديس. وتعرض الدير عبر العصور لعدة هجمات من البدو، منها الهجوم الذى حدث عام 1484م عندما هجم البدو على ديرى الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا، حيث قتلوا معظم رهبان الدير وأحرقوا مكتبته الثمينة. وظل الدير مهجورا، حتى قام البابا غبريال السابع، البطريرك الـ95 من بطاركة الكنيسة القبطية (1520-1568 م) بإرسال عشرة رهبان من دير السريان لإعادة تعمير الديرين، ثم تعرّض لهجوم وتخريب ثان من البدو الرحل، وظل مهجورا لمدة 119 سنة، إلى أن جلس البابا يوأنس السادس عشر البطريرك الـ103 (1676-1718م) على الكرسى المرقسى، فاهتم بإعادة تعمير الدير، وأرسل بعض رهبان دير الأنبا أنطونيوس، وعددا من البنائين والفعلة والنجارين، فأصلحوا الكنائس والقلالى والأجراس، ورمموا الأسوار والحصن. وفى أوائل القرن التاسع عشر، قام الأنبا خريستوذولوس، مطران القدس وقتها -وكان أصلا من رهبان الدير- بحركة معمارية واسعة فى الدير، فزاد من مساحة الأرض المزروعة للدير، ورمم الأسوار القديمة والكنائس الأثرية. وخلال الفترة من أعوام (1897-1924) تولى رئاسة الدير الأنبا أرسانيوس الأول، حيث قام بشراء أراض زراعية جديدة للدير بعزبة بوش بمحافظة بنى سويف، وبنى هناك بيتا كبيرا للإدارة، كما بنى مدرسة، وفى يوم 22 فبراير 1948 سيم القمص ميساك أسقفا للدير باسم "الأنبا أرسانيوس الثانى"، فاهتم بتعمير الدير وزيادة مساحة الأرض الزراعية به. الأنبا باخوميوس وأديرة الشركة فى الصعيد ولد الأنبا باخوميوس فى مركز دشنا، محافظة قنا فى عام 292 ميلادى من أبوين وثنيين، تعرف إلى المسيحيين فى أثناء تجنيده فى الجيش الرومانى، وأصبح مسيحيا. ازداد شوق القديس لحياة الرهبنة فذهب إلى الشيخ الناسك الأنبا بلامون الذى كان يحيا حياة العزلة، فقبله بعد اختبارات عديدة، وبعد صلاة طويلة قصّ شعره وألبسه اسكيم الرهبنة، وظل متتلمذا له لمدة سبع سنوات. تأسيسه نظام الشركة أسس القديس باخوميوس أول دير له نحو عام 318م، وكثر حوله عدد الأخوة، فبنى لهم نحو عشرة أديرة، وأسّس أول دير رهبان. وعاش الأنبا باخوميوس وسط رهبانه فى محبة وأبوّة وتواضع كبير، ولم يكن يميّز نفسه عنهم، وبلغ عدد رهبان أديرته نحو عشرة آلاف راهب، وبذلك يعتبر الأنبا باخوميوس مؤسس نظام الأديرة كحركة علمانية. اتَّسم النظام الباخومى بأنه يناسب الكثيرين، فمن جهة الصوم كان الراهب يأكل مرتين كل يوم، ويمارس صلوات جماعية متكررة، كما يقوم بعملٍ يناسب مواهبه وقدراته، مثل النجارة أو الفلاحة أو الطبخ أو الغزل أو البناء أو النسخ، ولكل جماعة رئيس يدير الأمور ماديًا وروحيًا، وكان العمل جزء أساسى من الحياة الروحية. انفتحت الأديرة لغير المصريين مثل اليونانيين والرومانيين، وكان لكل جماعة منهم رئيس يدبِّر حياتهم. الأنبا باخوميس تبقى شخصية القديس باخوميوس بارزة عبر العصور كشخصية قيادية عجيبة، جمعت الآلاف فى الأديرة المتقاربة والبعيدة بالصعيد، يدبِّر أمورها بروح الحب مع الحزم، مهتمًا فى الوقت نفسه بخلاص كل نفسٍ ونموِّها الروحى. اجتمع إليه كثيرون، وبنوا أديرة واتّخذوا لهم عيشة مشتركة. بعض قوانين الرهبنة الباخومية أولا: كان مفروضا على طالب الرهبنة أن يعرف معنى الرهبنة، وهى: الصوم بمقدار، والصلاة بمداومة، وعفّة الجسد وطهارة القلب وسكوت اللسان وحفظ النظر والتعب بقدر الإمكان، والزهد فى كل شىء. ثانيا: كان القديس باخوميوس يديم الصلاة بنسك زائد وسهر، وإذا أراد أن يرقد، لم يكن يرقد ممتدا، ولا على مصطبة، بل كان يجلس مستندا إلى الحائط، وإذا مضى إلى موضع خارج الدير مع الأخوة، واضطروا للمبيت، كان يفرض عليهم أن يحفر كل واحد منهم لنفسه حفرة فى الأرض، مثل مراقدهم فى الدير، قائلا لهم: "الواجب على الإنسان الراهب أن يتعب نفسه فى مرقده، لكون روح الزنى يقفز على الرجل ليجربه بشدة لا سيّما إذا رقد ممتدا براحة". ثالثا: على الجميع الالتزام بالعمل اليدوى، سواء كان راهبا أو رئيس رهبنة، وكان الأنبا باخوميوس يشاطر رهبانه أعمالهم اليدوية، فيخرج معهم إلى الحقول لمزاولة الزرع والحصاد، ويحمل مؤنته بنفسه. رابعا: كان العقاب ضرورة لا بدّ منها فى حياة الشركة، فكان يوبخ للهفوات حتى البسيطة منها. دير الأنبا باخوميوس بحاجر إدفو يقع فى سفح الجبل فى حاجر إدفو- أسوان، وكان قبل عام 1975م يصلى فيه بعض الكهنة المنتدبين من القرى المجاورة، إلى أن استقر الأمر على القمص أيوب حنا لرعاية الدير عام 1975م، وكان الطريق إلى الدير غير ممهد، ولم تكن الكهرباء قد وصلته، وحالة المبانى آيلة للسقوط، كما أنه على مقربة من مدافن المسيحيين، إلى أن أشرق على الدير فجر جديد برعاية الحبر الجليل الأنبا هيدرا، أسقف أسوان، ولأن نيافته يعشق الحياة الرهبانية، فقد أولى هذا الدير رعاية خاصة، وأحب المكان حبا عجيبا، إلى درجة أنه قبل تعمير الدير كان نيافته يصلى فيه التسبحة بمفرده، وقام بتعميره وأنشأ فيه العديد من القلالى التى تتسع للرهبان الذين ازداد عددهم بالدير. وأنشأ منارتين بارتفاع 35 مترا فوق الجبل، ليكون الدير مقصدا لطالبيه من كل مكان، وعمارتين مخصصتين للضيوف والزوار والآباء الكهنة وطالبى البركة، وعمارة لاستضافة الآباء الأساقفة، ومكتبة للرهبان، وقاعة لبيع المعروضات، وكنيسة كبيرة على اسم السيدة العذراء، أشبه بكنيسة العذراء الزيتون. القديس أبو مقار وأديرة وادى النطرون القديس مقاريوس هو أب برية شيهات -ميزان القلوب- المسماة حاليا وادى النطرون. وُلد القديس مقاريوس عام 300 م فى بلدة شبشير، بمحافظة المنوفية. كان والده كاهنا وترهبن مقاريوس أو أبو مقار، وأسّس أهم الأديرة، حيث اختار المكان المعروف الآن بدير البراموس، وحفر لنفسه مغارة، وبدأ يتعبَّد بنسك كثير، وسرعان ما ذاع صيته، واجتمع حوله عديد من المريدين الذين أحبوه حبا جما بسبب أبوته وحكمته والنعمة التى كانت عليه. دير أبو مقار انحدر القديس مقاريوس من شمال وادى النطرون إلى أقصى جنوبه، بعد أن اكتظت المنطقة الشمالية بالرهبان، وكان قد ابتنى لهم كنيسة وترك لهم تلميذه بفنوتيوس يدبر حياتهم، نحو سنة 360م. حينما كان عمره قد بلغ الستين عاما. وفى جنوب الوادى وعلى طرف السطح الصخرى، حفر لنفسه مغارة ذات سرداب طويل، ينتهى بمغارة أخرى سرية يلتجئ إليها، ليتحاشى مقابلة الزائرين، لأنه كان محبًا للوحدة والسكون إلى أقصى حد (عثر الدير أخيرًا على مغارة القديس ذات السرداب). ولكن سرعان ما تكاثر تلاميذه وتجمعوا فى مجموعات وبنوا مساكن متفرقة تدعى "منشوبيات"، وهى كلمة قبطية تفيد معنى السكن التجمعى أو الفردى. وقد بدأوا فرادى ثم ازداد عددهم جدا حتى صاروا عدة ألوف. ولم يكن يجمعهم معا إلا حضور الكنيسة الأسبوعى. أ- هيكل أنبا مقار أثرٌ خالدٌ، بدأت نواته الأولى سنة 360م، جذب إليها الأجيال المتلاحقة، أُعيد بناؤها فى أيام البابا بنيامين (البطريرك 38) فى زمن دخول العرب، ودشنها هذا البابا بدعوة من شيوخ البرية سنة 655م، ولا يزال هيكلها الكبير المعروف بهيكل أنبا مقار بقبته الضخمة، بقطر 8 مترات، على طوبة واحدة، ويدعى أيضًا باسم "هيكل أنبا بنيامين" منذ دشنه حتى اليوم. ولكن قبته تساقطت مرات عدة، ورُمّمت، والناظر إليها بتدقيق، يستطيع أن يعد مرات السقوط والترميم لاختلاف لون "المونة". والكنيسة الآن لا تحمل من أجزائها الأثرية الأولى، سوى هيكل أنبا بنيامين وهيكل يوحنا المعمدان (أو مارمرقس) فقط. ويقال إنه تم اكتشاف جسد يوحنا المعمدان النبى يحيى" بها. لا يوجد مصري واحد معروف ومشهور فى تاريخ المسيحية كلها أكثر من القديس أنطونيوس . ورغم وجود كثير من البطاركة ومعلمو الأسكندرية المشهورين ، فإن اسم هذا الراهب البسيط الذى اختلى فى الصحراء ، هو الذى جذب أكبر انتباه خلال الـ1600 عامًا الماضية . إن سيرة حياته كانت ولا تزال واحدة من أكثر الكتب المقروءة انتشارًا فى كل التاريخ المسيحى ، وقد ألهمت سيرته ليس الرهبان فقط من كل أنحاء العالم، بل ألهمت أيضًا مؤلفين مشهورين ورسامين مشهورين مثل ماتياس جرينوالد M. Gruenwald، هيرونيموس بوسكس Hier. Boschs، جوستاف فلاوبرت، لارز جايللينستن Lars Gyllonsten. إن صورة القديس أنطونيوس كما وصلتنا فى كتاب ” حياة الأنبا أنطونيوس ” بقلم القديس أثناسيوس ، بطريرك الأسكندرية الشهير فى القرن الرابع ، قد صارت على مدى التاريخ النموذج القياسى للدعوة الرهبانية ، وهى بالنسبة لكثيرين ، افضل شرح لـ: ماذا يعنى أن يكون الإنسان مسيحيًا ؟ وفى مشروع بحث تموله الحكومة النرويجية يحاول 20 عالمًا من السويد والنرويج حاليًا أن يكتشفوا وأن يصفوا ماذا كان يعنى فعلاً وحقًا بالنسبة للناس والمجتمع فى القرنين الثالث والرابع أن المسيحية صارت هى ديانة الإمبراطورية . وما هى التأثيرات التى حدثت ، وكيف تغيرت طرق التفكير . إن عنوان هذا البحث هو : ” المسيحى . صياغة هوية جديدة فى التاريخ القديم المتأخر Late Antiquity ” . وبدون نقاش كثير فقد صارت ” حياة أنطونيوس بسرعة فى بؤرة التركيز into Focus . ما هى الشخصية المسيحية وكيف كانت تفهم، وكيف كانت تختلف عن الشخصية الوثنية . وربما تبدو هذه أكثر وضوحًا فى هذه “الحياة ” (السيرة) من أى نص آخر من نصوص ذلك العصر . ولكى نمسك بروحانية القديس أنطونيوس ، من الضرورى أن نبدأ بالحديث عن ” حياة أنطونيوس “، وهى السيرة التى كتبها القديس أثناسيوس . فروحانية هذا الكتاب ” الحياة ” قد كان لها أكبر الأثر وصارت مرادفة لشخص أنطونيوس نفسه. وطوال المائة سنة الأخيرة فإن باحثون كثيرون قد حللوا هذا النص من جميع زواياه . هل الذى كتبه هو القديس أثناسيوس ؟ وهل اعتمد على أية مصادر؟ وهل يُعتمد عليه (يوثق به) تاريخيًا historically reliable ؟ وهل نحن نلتقى فى هذا الكتاب بأنطونيوس نفسه، أم أن ما نقرأه هو الصورة المثالية التى رسمها البطريرك أثناسيوس ؟ وبالمقارنات مع النصوص الأخرى التى كتبها أثناسيوس وكذلك الإشارات إلى المراجع التاريخية، فقد اقتنع كل الباحثين تقريبًا أن نسبة هذا الكتاب للقديس أثناسيوس ، هى صحيحة. والنص الآخر الذى يُعتمد عليه فى هذا المجال هو ” رسائل القديس أنطونيوس ” . والتى سأعود للحديث عنها بعد ذلك . والآن نحتاج أن نفحص بعمق ” سيرة حياته ” نفسها ، ونحاول أن نفهم منها كيف ترسم لنا روحانية القديس أنطونيوس ، وكيف تريد هذه السيرة لنا أن نفهم حياته الموضوعة أمامنا كنموذج ” لحياة مسيحية حقيقية ” ، كما ورد فى مقدمة الكتاب . ولكى نكتشف أين يوجد تشديد الكاتب نفسه ، يلزمنا أن نلاحظ كيف يبدأ النص وكيف ينتهى هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إن أمكن أن نجد أية تعبيرات أو أفكار متكررة . ولكى يمكننا أن نحقق هذه الناحية الثانية الخاصة بالتعبيرات المتكررة ينبغى فى جميع الأحوال أن نفحص بعناية تامة كيفية تركيب النص، وكيف تبدأ أجزاءه الصغيرة وكيف تنتهى . وفى كل الكتابات يتم التأكيد على بعض الأفكار بوضع تعبيرات معينة فى بداية الجملة أو فى نهايتها ، أو فى بداية كل فصل أو فى نهايته أو فى بداية الكتاب أو فى نهايته . فالقارئ يتأثر دائمًا اكبر تأثرًا بالبدايات والنهايات . كان أنطونيوس رجلاً زاهدًا فى الحركة وزاهدًا فى الشهرة ، فهو لم يكن يريد أن يصير معروفًا على الإطلاق. ومنذ البداية ـ قيل عنه إنه اشتاق أن يمكث بالبيت بكل بساطة ، واشتاق أن لا يتعلم ، وقد قيل فى الفصل الأخير ـ إن معجزة قد حدثت حتى أن ذاك الذى تحاشى كل علانية وعاش منفردًا فى جبل قد صار مشهورًا فى العالم كله. وهذا الأمر يتكرر فى مواضع عديدة . فحينما دخل أنطونيوس تدريجيًا إلى الصحراء ـ تؤكد السيرة دائمًا أنه كان يعيش وحده ، وأن كل ما حدث له إنما أثناء اعتزاله فى مكانه الخاص. وفى الفصول الـ15 الأولى من الكتاب نجد أن أنطونيوس ليس عنده شئ يقوله (للآخرين)، وأنه لم يكن له تلاميذ ، ولا أصدقاء. وإنه حينما استقر فى البرية الداخلية وجد سلامًا فى عزلته. وعلى مستوى أعمق سوف نجد أن هذا التأكيد على العزلة والخلوة يرتبط بفكرة هامة أخرى : وهى فكرة المحافظة على الطبيعة الأصلية. أما كون أنطونيوس لا يذهب إلى المدرسة ـ فكما أوضحت فى كتابى ـ فإن هذا لا علاقة له بمعرفة القراءة أو عدم معرفتها، إنما هذا يدل على أن روحانيته لم تُكتسب من الخارج ، أى ليست من صنع الإنسان ، بل هى موهوبة له من الله خالقه. ومرة تلو مرة يستعمل المؤلف كلمات وتعبيرات تشير إلى الحماية والحفظ فى مقابل الاضطراب والتغير. وتوصف أهمية ما هو طبيعى بصورة حية جدًا فى فصل 14 حينما يخرج أنطونيوس من صومعته التى قيل عنها إنه عاش فيها 20 سنة فى عزلة كاملة . ويُقال هنا إنه لم يتغير بالمرة، فهو لم يصر نحيلاً من الصوم ولا صار بدينًا من قلة التمرن . كان فى توافق كامل بحسب حالته الطبيعية والأصلية . وبالنسبة للمؤلف ، فإن جسده هو علامة تدل على الثبات الداخلى الكامل. وفى أحد الفصول الأخيرة يتكرر نفس الحديث فيُقال هذه المرة إن أنطونيوس البالغ من العمر 105 سنة والذى كان على وشك الوفاة، قد احتفظ بصحة جسمية كاملة، فعيناه لم تكلاً ولم يفقد ولا سنّة واحدة من أسنانه ويداه ورجلاه كانت كلها فى صحة كاملة. لقد كان فى حالة أفضل من أولئك الذين يحاولون أن يحسّنوا ما قد أعطاه الله بأنواع من الأطعمة والحمامات المترفة . وكما قلت ، فقد كان جسد أنطونيوس علامة تشير إلى شئ روحانى. فحفظ الجسم وصحته إنما هى العلامة الخارجية فقط لفكرة تتخلل كل سيرة الحياة: فمعرفة الله مرتبطة بمعرفة النفس معرفة حقيقية. فمعرفة الله لا تأتى من الخارج بالتعلّم ، بل من الداخل ، بأن يكون الإنسان أمينًا لخلقته الأصلية. وفى المجادلات مع الفلاسفة التى يحاول المؤلف فيها أن يشرح الصفات المسيحية لفلسفة أنطونيوس ، أى يشرح طريقة معيشته، نجد أن أنطونيوس يخبر الفلاسفة ، أن اليونانيون يتعبون باطلاً بأسفارهم فى كل مكان لأجل الحصول على المعرفة فى حين أن المعرفة الحقيقية إنما توجد فى داخل الإنسان . والقراءة المدققة لعظة أنطونيوس الموجهة للرهبان تظهر نفس التشديد ولكن من منظور آخر . نجد هنا أن أنطونيوس يحاول أن يخبر تلاميذه كيف يعرفون إن كانت الرؤى أو الأفكار آتية من الله أم من الشياطين . فالقديس أنطونيوس يقول إن الشياطين يسببون القلق على الدوام ، إنهم يحاولون أن يقسّموا ويمزقوا ؛ بينما الملائكة يسببون السلام والهدوء ويقودون إلى الوحدة بدلاً من التفرق. ولكن هل هذا يعنى أن روحانية القديس أنطونيوس ـ بحسب كتاب سيرته ـ هى روحانية ترفض وجود أية علاقات مع الآخرين ، أو مع المحتاجين ؟ كلا . فالسيرة تنقسم إلى قسمين متميزين تمامًا . القسم الأول يصف خلوة أنطونيوس وتكوينه الروحى فى حياة الوحدة ويسجل عظته الطويلة التى يلخص فيها تعليمه. وينتهى القسم الأول بالقول إن أنطونيوس صار مثل الشهداء بسكناه فى البرية الداخلية . أما القسم الثانى فيخبرنا عن اهتمامه بالعالم. وفى هذا القسم يلتقى أنطونيوس أولاً بمجموعة من الناس يطلبون المساعدة ، ويلتقى بعد ذلك بمجموعة من الفلاسفة ، وأخيرًا بمجموعة من ممثلى الدولة . ليس هناك شك أن المؤلف يريدنا أن نرى فى أنطونيوس، راهبًا يشفى المرضى، ويصنع السلام بين المتخاصمين ويتشفع لأجل الفقراء، ويدحض الهرطقات ويقاوم ذوى السلطان. والنظرة الفاحصة إلى هذه الفصول من الكتاب تكشف أنها قد كُتبت بطريقة واعية تمامًا. وفى كل هذه الفصول نجد أنها تحتفظ بمسافة معينة. فحينما يأتى المرضى إلى أنطونيوس، فهو يخبرهم أن يعودوا إلى بيوتهم لينالوا الشفاء هناك. إنه لا يلمسهم ، حيث إنه ليس هو الذى يشفى بل “الرب“. فهو يظل فى عزلته ويشفى من بعيد. وفى لقائه مع الهراطقة يضع نفسه خلف رؤساء الكنيسة ويتحاشى أية مقابلات عن قرب. والأمر ذو الدلالة العظيمة. فإن علاقاته مع السلطة العليا ـ مع الإمبراطور ـ رغم أنه إمبراطور مسيحى ، ومع الحاكم المُعين منه ، إنما تتم فقط بواسطة الرسائل . وفى كل معاملاته مع العالم فإن أنطونيوس لا يترك خلوته الداخلية ، لا يتخلى عن سلامه وهدوئه . ولكى نلخص روحانية القديس أنطونيوس كما وصفتها سيرة حياته ، فيمكننا أن نقول إن أنطونيوس كان مبتعدًا بطريقة ما عن حدود المكان والزمان فهو ـ كما لو كان ـ موضوع خارج القيود التى يختبرها البشر . فهو ـ كما تؤكد السيرة فى النهاية ـ حاضر فى كل مكان حيث إنه مختفى عن كل إنسان. هو غير مرتبط بأى شئ ، وغير متأثر بأى شئ ولا معتمد على أى شئ حصل عليه من العالم ـ أى من الناس ومن حضارتهم. فهو ـ كما يقول المؤلف متعلم من الله فقط ـ وتنبع قوته من السلام الداخلى ومن الانسجام الداخلى المتأصل فى طبيعته الروحية الأصلية . والأمر الضرورى ـ بالنسبة لسيرة حياة أنطونيوس ـ أن يظل الإنسان على الحالة التى خُلق عليها . إن روحانية أنطونيوس هى روحانية تجد أصولها فى الاقتناع الأكيد بأن الإنسان مخلوق على صورة الله، وأن الفضيلة لا تُكتسب ، بل تحتاج فقط أن نحافظ عليها . والآن ، بعد أن حصلنا على هذه النظرة لروحانية “سيرة أنطونيوس” ، يمكن أن ننتقل إلى رسائل القديس أنطونيوس لنسأل إن كانت تحمل إلينا نفس الروحانية. ولكى نركز الحديث على روحانية هذه الرسائل ، فإنى لن أتحدث عن محتواها ولن أناقش كل المشاكل اللاهوتية التى تنتج من تحليل محتواها ، ولكنى أشير فقط إلى نقطتين هامتين فى تكوين روحانية هذه الرسائل . النقطة الأولى هى ، وحدة المعرفة . فالتشديد على المعرفة هو أحد الملامح البارزة للرسائل . فكاتب الرسائل يؤكد مرة تلو أخرى على أهمية المعرفة والفهم . وكل الرسائل تقريبًا تختم باقتباسين من سفر الأمثال 9:9 ومن رسالة كورنثوس الأولى 15:10 والاقتباسان يتحدثان عن أهمية الحكمة . فبدون أن يعرف الإنسان نفسه ـ أو كما يعبر القديس أنطونيوس ـ بدون أن يعرف الإنسان جوهره الروحى ، فإنه لا يستطيع أن يعرف الله ، لا يستطيع الإنسان أن يدرك أعمال الله الخلاصية. فالإنسان، بإدراكه لنفسه تمامًا يستطيع فقط أن يعرف زمانه وبالتالى أن يعرف كيف يعبد الله عبادة لائقة. ورغم أن الإشارات إلى المعرفة متنوعة جدًا وموضوعات المعرفة تختلف عن بعضها، إلاّ أن الرسائل تشدد دائمًا على أن كل أنواع المعرفة مرتبطة ببعضها؛ فمعرفة الله ومعرفة النفس ومعرفة الزمان، ومعرفة الخلاص، كل هذه تعتمد كل منها على الأخرى. ولكى ندرك أهمية المعرفة فى روحانية أنطونيوس ينبغى أن نعرف ، ما الذى يعنيه أنطونيوس عندما يتحدث عن المعرفة ، وذلك لكى نعرف مفهوماته الأساسية . إن القراءة المدققة للرسائل تكشف أن أنطونيوس يمثل نفس النظرة الأساسية عن المعرفة مثل مدرسة الأسكندرية بميراثها الأفلاطونى ، فهذه النظرة ترى أنه : “أن تعرف” هو أن تصير جزءً من شئ . فالمعرفة ليست أن تملك معلومة عن شئ ، بل أن تشاكله وتتوافق معه. وأكثر من ذلك فإنك تستطيع فقط أن تعرف ذلك الذى يملك ميلاً طبيعيًا نحوك أنت الذى تعرفه. الإنسان يستطيع أن يعرف الله حيث إن الإنسان له صلة بالله، ليس فقط بأن تكون عنده معلومات عن الله ؛ بل أن يكون له نصيب حقًا فى طبيعة الله، ولذلك فالمعرفة لا تحصل بجمع المعلومات والتعاليم، بل أن نأتى لنعرف ، نأتى لنقترب منه ولكى نحيا معه. المعرفة تفترض وجود المحبة. لذلك من السهل أن نفهم أنه رغم أن أنطونيوس يتكلم عن أنواع مختلفة من المعرفة ، إلاّ أن المعرفة واحدة. وإضافة إلى ذلك ، فمن الواضح أن المعرفة التى يكتب عنها أنطونيوس هى المعرفة الروحية، وهى معرفة تأخذ أصولها من الجوهر الروحى للإنسان . والتقدم فى المعرفة هو الاقتراب أكثر إلى الله ، أن يصير الإنسان أكثر فأكثر إدراكًا لذاك الذى يتجاور كلماتنا. المعرفة تختلف عن العقيدة . فكلمات الإنجيل ، وتعاليم الكنيسة هى نقطة انطلاق، أما المعرفة الحقيقية فتكمن فى الالتصاق بالله التصاقًا حميمًا بالحب. وحدة كل أنواع المعرفة لا توجد فى العقائد بل فى قلب الله. النقطة الثانية فى روحانية رسائل أنطونيوس هو وحدة الكيان ، وكما سبق أن ذكرنا، فإن أنطونيوس يرى أن الشرط المسبق لكل معرفة حقيقية هو فى الجوهر الروحى للإنسان، وهو جوهر متصل بالله اتصالاً وثيقًا . وفى محاولاته أن يشرح هذا ، فإن أنطونيوس يعكس تحليل أوريجينوس عالم مدرسة الأسكندرية العظيم. وبحسب الرسائل ، فإن جوهر الإنسان الداخلى هو جزءه الروحانى ، أى عقله . كل البشر يشتركون فى نفس الجوهر الروحى ، وينتمون إلى بعضهم البعض فى أرواحهم ، وفى الواقع فإن كل ما هو روحى يشترك فى نفس الكيان، بل حتى إبليس والشياطين أيضًا يشتركون فيه . ولكن عند السقوط تحطمت هذه الوحدة الروحية . والله لكى يخلص الإنسان ، فإنه خلق العالم وأعطى للإنسان جسدًا وهو ما لم يحصل عليه الشياطين ، ولذلك هم يحسدون الإنسان. وبواسطة الجسد يستطيع الإنسان أن ينمو فى الفضيلة وفى المعرفة ، ولكن فى الوقت نفسه فإن الجسد يجذب الإنسان إلى أسفل ويضع حدًا لحياته. الجسد يخلص عن طريق التجسد، وهكذا تُستعاد الوحدة ويستطيع الإنسان أن يرجع إلى الله وإلى جوهره الروحى الأصلى، ولكن بجسد القيامة. وبدون الاستطراد أكثر فى هذه الأفكار اللاهوتية يمكننا أن نرى بسهولة أنها هى روحانية أنطونيوس. فوحدة الوجود تجعل محبتنا بعضنا لبعض جزءً من محبة الله. وأن يعرف الإنسان نفسه هو أيضًا أن يعرف جاره. أو كما يقول أنطونيوس فى الرسالة 6 : ” لذلك ينبغى أن نحب أحدنا الآخر بحرارة ، لأن من يحب أخاه يحب الله والذى يحب الله يحب نفسه ” . وهكذا ، فإننا فى روحانية أنطونيوس نجد تشديدًا قويًا على العلاقة بالآخرين، والحاجة إلى أن نعتنى كل منا بالآخر. ويصير واضحًا فى كل الرسائل كم هو هام خلاص الاخوة لأجل خلاص أنطونيوس نفسه. وهنا يصير فهم تعليم يسوع المسيح، عنصرًا هامًا . والمقطع الذى يتحدث فيه الرسول بولس فى رسالته إلى فيلبى عن إخلاء الابن لنفسه صائرًا فى هيئة عبد ، عادة يُربط بكلمات يسوع فى الإنجيل التى يقول فيها ، إنه لا يعود يسمى التلاميذ عبيدًا بل أحباء . فيسوع بصيرورته عبدًا استطاع أن يجعلنا أحباء له ، وهكذا عن طريق صيرورتنا عبيدًا كل منا للآخر ، يمكننا أن نربح بعضنا بعضًا كأصدقاء . وهكذا فالفرح والبكاء لأجل خلاص الآخرين هو جزء جوهرى من الحياة الروحية . خاتمة وحينما ننظر إلى سيرة حياة أنطونيوس وإلى الرسائل ، يمكننا أن نرى أننا نجد نفس الروحانية رغم التعبير عنها بطريقتين مختلفتين تماما . ففى سيرة حياته، تُرسم روحانية أنطونيوس بواسطة شخص آخر كأنما يرسم أيقونة . وفى عظة أنطونيوس فقط نجد تشابهًا كبيرًا مع ما ذُكر فى الرسائل . ولكن هنا فى العظة يحل الصراع مع الشياطين محل التأملات الشخصية الموجودة فى الرسائل ، وفى السيرة نجد أن قصص اختلاء أنطونيوس تجعل نفس التشديد على وحدة الكيان والجوهر مفعمة بالحيوية مثل الرسائل، ولكن بعكس الرسائل فإن الجسد فى ” السيرة ” ليس أساسًا الذى تهاجمه الشياطين بسهولة ، بل بالحرى تجعل منه ” السيرة ” صورة للنفس . الرسائل تقدم أنطونيوس كأحد الرهبان الذى يصرخ من أجل خاصته ولأجل خلاصهم. أما فى ” السيرة ” فلم يعد ظاهرة فى الصورة ، بل نجده فى وضع متميز كنموذج يُقتدى به . فى “الرسائل” نراه مثل أب اعتراف يمكنك أن تتحدث إليه ، أما فى “السيرة” فهو أيقونة تقف أمامها لكى تتأمل . ولكن بصفة جوهرية ، فمن الواضح أن كلا الكتابين تقدم نفس الروحانية الأساسية، ونفس التشديد على الحاجة إلى الثبات الداخلى والهدوء، والحاجة إلى المعرفة الحقيقية للنفس ، وإلى المحبة للغير . ويمكننا أن نعتبر “السيرة ” بمثابة مقدمة رائعة عن كيف نقاوم بها الفساد ، وكيف نحفظ الكمال والسلام ، أما “الرسائل” فتلمس القلب ، وتفتح طريقًا صاعدًا نحو سر الالتصاق الحميم مع الله. ونعود أخيرًا إلى مشروع البحث عن ” الشخصية المسيحية (Christian Identity) كما صيغت فى المسيحية الأولى”، فإنى أظن أن هذا المشروع وثيق الصلة بموضوعنا . وبقدر ما أستطيع أن أرى، فإن أوربا بل العالم كله حصلت على ذلك الفهم للكائن البشرى ، الذى يضع الشخص ـ كل شخص ـ قبل أى شئ آخر. فبدون مفهوم سلامة وقيمة كل شخص لا نستطيع أن نتكلم عن حقوق الإنسان بصورة حقيقية. بدون مفهوم السلامة الشخصية والمسئولية الشخصية التى تظهر مفعمة بالحيوية فى سيرة القديس أنطونيوس، لن يكون عندنا أية أسلحة حقيقية لمحاربة الفساد. فلأجل مستقبل التقليد المسيحى بل ولأجل مستقبل مجتمعاتنا ، ينبغى أن نعطى انتباهًا أكبر واهتمامًا أشد بروحانية القديس أنطونيوس . |
|