رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
صلاة يسوع الكهنوتية لأجل وَحْدَة كل المؤمنين باسمه
الأحد السابع للفصح: صلاة يسوع الكهنوتية لأجل وَحْدَة كل المؤمنين باسمه (يوحنا 17: 20-26) النص الإنجيلي (يوحنا 17: 20-26) 20 لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم. 21 فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني. 22 وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد: 23 أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحْدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني. 24 يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم. 25 يا أَبتِ البارّ إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ وعَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني. 26 عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم)). مقدمة في صلاته الكهنوتية صلى يسوع من أجل نفسه (يوحنا 17: 1-5) ، ومن أجل تلاميذه (يوحنا 17: 6-19) وأخيرا صلى من أجل كنيسته ( يوحنا 17: 20-26) ؛ وفي إنجيل الأحد السابع للفصح يتكلم يوحنا الإنجيلي عن هذا الجزء الأخير من الصلاة التي رفعها يسوع عشية صلبه من أجل وَحْدَة الكنيسة، الوَحْدَة بين المؤمنين، الوَحْدَة المبنيّة على وحدانيّة المؤمنين مع الربّ يسوع والآب (يوحنا 17: 20-26)؛ وتكشف الصلاة أعمق رغبات النفس، إنّه مُعزٍّ لنا، نحن مؤمنو القرن الحادي والعشرون، أن نُفكّر حقاً أنّ الربّ يسوع قد صلّى من أجلنا أيضاً، صلّى من أجل إيماننا، ومن أجل قداستنا، ومن أجل وحدتنا. ويعلق القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني "إنّ الرّب يسوع المسيح موجود حقًّا في اتّحاد الصلاة؛ يصلّي "فينا" و"معنا" ولأجلنا". هو يوجّه صلاتنا بواسطة الروح المعزّي الذي وعدنا به وأعطاه للكنيسة منذ مجمع أورشليم، عندما أسّس الكنيسة في وحدتها الأصليّة " (لرّسالة العامّة: ليكونوا واحدًا (Ut unum sint)، العدد 22). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 17: 23-26) وتطبيقاته في صلاة يسوع من اجل وحدة كنيسته (يوحنا 17: 20-26). أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 17: 23-26) 20 لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم تشير عبارة "أَدْعو" في اليونانية ἐρωτῶ (معناها اسأل) إلى يسوع الذي يشفع لمن يقبل عمله الفدائي كي يصير الكل واحدًا. أمَّا عبارة "أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم" إلى صلاة يسوع الذي يشفع إلى الجماهير الغفيرة التي تأتي إليه ويؤمنون به من خلال كرازة تلاميذه ورسله كي يتمتعوا بالوَحْدَة الحقيقية والمجد الذي من عند الآب؛ يصلي يسوع إلى مسيحيي العصور المُقبلة، يصلي من أجلنا كلنا. إذ تشمل صلاة يسوع هنا تلاميذه وجماعة المؤمنين به عن طريق التبشير (يوحنا 4: 35-42)؛ وتمتد هذه الصلاة لتشمل البشرية المستعدة لقبول الخلاص عبر كل الأجيال حتى انقضاء الدهر، لأن الله " يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1طيموتاوس 2: 3-4)؛ أمَّا عبارة "يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم" فنشير إلى كل الذين يتجدَّد إيمانهم بواسطة تبشير الإنجيل في كل زمان ومكان إلى نهاية العالم. والإيمان هو العلاقة مع المسيح الذي مرّ عبر تبشير الرسل. ويعلق المطران بيتسابالا "إنّ الإيمان ليس شأنًا خاصًا، بل يجب إيصاله وإعلانه. لان المؤمن الحقيقي لا يعيش لنفسه؛ حيث أنّ الإيمان المسيحي يتعزّز وينمو عندما تتمّ الشهادة له، وبعكس ذلك ينطفئ الإيمان ويموت". أمَّا عبارة "كلامهم" فتشير إلى شهادة التلاميذ وكلامهم وكرازتهم وأقوالهم التي سجلوها في الأناجيل والرسائل وسفر الرؤيا، إنها "كلمة الله" (1 تسالونيقي 2: 13). و"كلمة الله" دُعيت "كلام التلاميذ" لأنها عُهدت إليهم بصفة رئيسية في البداية لكي يُكرز بها" كما يُعلق على ذلك القديس أوغسطينوس. إن نشر كلام الله بواسطة الناس هو الوسيلة الضرورية إلى امتداد ديانة المسيح في العالم والى الإيمان به كما جاء في تعاليم بولس الرسول "الإِيمانُ إِذًا مِنَ السَّماع، والسَّماعُ يَكونُ سَماعَ كَلاَمٍ على المسيح" (رومة 10: 17). لا يعيش المؤمن لنفسه؛ بل يجب إيصاله وإعلانه. هناك إيمان عندما ينقل إنسان الإيمان لغيره كما جاء في تعليم بطرس الرسول "كونوا دائِمًا مُستَعِدِّينَ لأَن تَرُدُّوا على مَن يَطلُبُ مِنكم دَليلَ ما أَنتم علَيه مِنَ الرَّجاء" (1 بطرس 3: 15). 21 فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني تشير عبارة "لْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً" إلى طلبة يسوع في صلاته لوَحْدَة تلاميذه المحيطين به وإلى المؤمنين الذي يقبلون كلامهم (أي إلى الكنيسة). وتكررت عبارة "ليكونوا"سبع مرات في هذه النص وأربع مرات من السبع مرات يطلب أن يكون أتباعه واحدًا؛ هذه الوَحْدَة تأتي من الوَحْدَة الإلهية وتأتي من الآب إلينا من خلال الابن في الروح القدس. يسوع يتضرع لتتَّم الوَحْدَة في كنيسته. فلنطلب من الله أن يساعدنا للدخول بالعمق في مشروعه لكل واحد منا. الوَحْدَة بين المؤمنين هي علامة ورمز للوَحْدَة يكمن بين يسوع والآب. أمَّا عبارة "واحِداً" فتشير إلى الوَحْدَة أي أن يكون المؤمنون جميعا متَّحدين كإخوة، لأنهم مُفتدون بدم واحد ومسافرون إلى سماء واحد. فاتحاد الناس بالله وبعضهم بعض غاية تجسُّد المسيح وموته إرساله الروح القدس. الوَحْدَة هي من اهتمامات يسوع الأولى، حيث كانت رغبته أن يصير الكل واحدًا، جسدًا واحدًا بقلبٍ واحدٍ وفكرٍ واحدٍ ورجاءٍ واحدٍ. فقد شغل موضوع الوَحْدَة قلب السيد المسيح، وقد سبق أن صلىّ لأجلها (يوحنا 17: 13)، وها هو يُطلبها بلجاجة من الآب. وتقوم الوَحْدَة على عمل الله في حياة الخدام (الرسل والتلاميذ والكهنة)، كما تقوم على عمله في كل المؤمنين على مستوى الشعب. أمَّا عبارة "كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا" فتشير إلى طبيعة الوَحْدَة ومبدئها. فهذه الوَحْدَة تتجذر في سر الحياة الإلهية، لأنَّها تقوم على انضمام المؤمنين إلى يسوع مما يؤدِّي إلى اتِّحادهم في المحبة التي تجمع بين ألآب والابن (يوحنا 5: 19-20). إنّ الوَحْدَة بين المؤمنين هي علامة ورمز للوَحْدَة بين يسوع والآب. وإذا حافظنا على الوَحْدَة، فسوف نتشارك في الحياة الإلهية. وهكذا تمتد الوَحْدَة بين الآب ويسوع لتشمل المؤمنين. رغب المسيح في أن تكون كنيسته مُتحدة، ورأى الوسيلة إلى ذلك أن يتَّحد به وبآبيه كل عضو في الكنيسة كما جاء في تعليم بولس الرسول:" فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد. وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، وإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا" (أفسس 4: 4 -6). أمَّا عبارة "فينا" فتشير إلى الإيمان بالثالوث، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم. "إنهم (الثالوث) فينا ونحن فيهم، بكونهم هم واحد في طبيعتهم، ونحن واحد في طبيعتنا. إنهم فينا بكونهم الله في هيكله، ونحن فيهم كخليقة في الخالق". أمَّا عبارة "لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" فتشير إلى وَحْدَة المؤمنين كعلامة للعالم نظرًا لتدخل الله في الأزمنة الأخيرة وكدليل على صحة رسالة يسوع بما أنَّ يسوع هو النبع التاريخي للوَحْدَة. فالوَحْدَة تبيّن أن يسوع من الآب أتى حاملا رسالة وحقيقة ليستا من هذه العالم (يوحنا 3: 3-8). إن اتحاد الكنيسة هي علامة لإقناع العالم أنَّ مصدرها من السماء، وان الدين المسيحي حق، وان يسوع هو المسيح. أمَّا عبارة " العالَمُ " فتشير إلى مدلول إيجابي، أي العالم خليقة الله، ولا تدل هنا على مدلول سلبي إذ " بِحَسَدِ إبليسَ دَخَلَ المَوتُ إلى العالَم " (الحكمة 2: 24) فصار قسم منه عالم ظلمات ورئيسه (المؤقّت) إبليس وهذا العالم الشرير" "لم يعرف الله" ويتجاهل المسيح. ومن خلال طلب الوَحْدَة لتلاميذه وكنيسته يقصد يسوع وَحْدَة البشرية التي يريد أن يُظهر لها سر الله بواسطة وَحْدَة تلاميذه. وبالعكس فإن الانقسام في الكنائس هو أكبر العوائق في رسالة الكنيسة ولا يوجد ما يؤذي البشرية مثل الانقسام نتيجة الحَسَدٌ وَالخِصَام (1 قورنتس 2: 3-4). ويُعلق البابا القديس يوحنا بولس الثاني أن الانقسام في الكنيسة هو أكبر عار لها، وحجر عثرة وعائق أمام الإيمان، إذ "كُلُّ مَملَكةٍ تَنقَسِمُ على نَفْسِها تَخْرَب، وكُلُّ مَدينةٍ أَو بَيتٍ يَنقَسِمُ على نَفْسِه لا يَثبُت" (متى 25:12). 22 وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد تشير عبارة "وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد" إلى كيفية تتميم الوَحْدَة، وذلك بإعلان مجد الله للناس وموهبة الروح القدس ومشاركة التلاميذ للمسيح في بثِّ بشرى الخلاص، ومشاركتهم له في أفراح السماء. ويُعلق المؤرخ الكنسي اوسابيوس القيصريّ " في صلاته الكهنوتيّة الكبرى: طلبَ مخلِّصُنا يسوع المسيح أن نكون معه حيث هو وأن نتأمَّل مجدَه. هو يحبُّنا كما يحبُّه الآب ويرغب في إعطائنا كلّ ما أعطاه الآب إيّاه. هو يريدُ أن يعطينا المجدَ الذي أخذَه من أبيه وأن يجعلَنا كلُّنا واحدًا" (مؤرِّخ اللاهوت الكنسي، الجزء الثالث). ومبدأ الوَحْدَة هو المجد الذي ناله المسيح من الآب بعد الصليب والذي يُشرك فيه يسوع المؤمنين به. فمن خلال آلام الصليب يحملنا يسوع المسيح إلى مجده كما جاء في تعليم صاحب الرسالة إلى العبرانيين "فذاكَ الَّذي مِن أَجْلِه كُلُّ شَيءٍ وبِه كُلُّ شَيء، وقَد أَرادَ أَن يَقودَ إلى المَجْد ِكَثيرًا مِنَ الأَبناء، كانَ يَحسُنُ به أَن يَجعَلَ مُبدِئَ خَلاصِهم مُكَمَّلاً بِالآلام" (عبرانيين 2: 10)، فيصبحون بدورهم تجليا لمجد المسيح. فاشتراكهم بهذا المجد يوحّدهم، لأنهم كلهم به أبناء. أمَّا عبارة "المَجْد" فتشير إلى عطية إلهية: "الرَّبُّ الإِلهُ يَهَبُ النِّعمَةَ والمَجْد" (مزمور 84: 12). وفي هذا الصدد يقول القديس غريغوريوس النيسي "الروح القدس هو هذا المجد، ولا يمكن أن ينكره أي شخص يفحص بدقة كلام السيد المسيح وهو يقول: وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد. في الحقيقة أعطى السيد المسيح هذا المجد لتلاميذه عندما قال لهم: " خُذوا الرُّوحَ القُدُس" (يوحنا 22:20). ويكمن مجد يسوع الحقيقي في اتباع طريق الخدمة المتواضعة التي تبلغ ذروتها على الصليب. إنّ طريق الصليب هو طريق المجد الحقيقي. أمَّا عبارة "لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد" فتشير إلى كلام يسوع مرة أخرى عن وَحْدَة التلاميذ، وهي غاية إعطائه إياهم المجد الذي أعطاه الأب إياه؛ ومثال هذه الوَحْدَة هي وَحْدَة الآب والابن، لا وَحْدَة المصالح والمكاسب، بل وَحْدَة المحبة والتواضع والبذل والوداعة. ويعلق المؤرخ الكنسي اوسابيوس القيصريّ " لا يريدُنا أن نكون مجرّد جماعة، بل أن نشكِّلَ وَحْدَة كاملةً ونكون مجتمعين من خلال ألوهيَّتِه في مجد الملكوت، لا بالذوبان في جوهرٍ واحدٍ، بل بالكمال وهو قمّة الفضائل. هذا ما أعلنَه الرّب يسوع المسيح حين قال: "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً" (مؤرِّخ اللاهوت الكنسي، الجزء الثالث). وتتحقق الوَحْدَة بحب بعضهم لبعض. ويؤكد السيد المسيح أن مصدر الوَحْدَة هو قبوله، كابن الإنسان، المجد من أبيه ليهبه للمؤمنين به. وهكذا يركز السيد المسيح على الوَحْدَة كأمرٍ أساسي وجوهري، وهي ليست بالوَحْدَة الظاهرية كتجمع القيادات الكنسية معًا، لكنها وَحْدَة عمل الروح القدس، الذي يضمُّ الكل بالروح لغاية مقدسة كاملة. وهذه الغاية هي أن يصير الكل واحدًا في الآب والابن كما هما واحد. فمن يقبل السيد المسيح "الطريق" يسير به إلى حضن الآب متحدًا معه، كما يسير به إلى قلوب المؤمنين لاختبار وَحْدَة الإخوة. ولانَّ الروح القدس هو روح الآب وروح الابن، لذا يرى البعض أنه روح الوَحْدَة، هو واهب عطية الوَحْدَة، إذ يجمع الكل معًا ليعمل الكل في الكل (1 قورنتس 12: 4). ويعلق القديس باسيليوس بقوله "إن يسوع صلى لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد لأنه عندما يكون الله الذي هو واحد في كل واحدٍ، فإنه يجعل الكل واحدًا، ويضيع العدد في حلول الواحد". 23 أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحْدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني تشير عبارة "أَنا فيهِم وأَنتَ " إلى كيان واحد ذاتي، فالآب كله للابن والابن كله للآب. وكل ما لأحدهم هو للآخر كما جاء في صلاة يسوع "وجَميعُ ما هو لي فهو لَكَ وما هو لَكَ فهو لي" (يوحنا 17: 10)، ومن هذا المنطلق، نفهم طبيعة الوَحْدَة بين الآب والابن. وَحْدَة في الآب كما هي في الابن، كذلك يكون الابن يسوع فينا، وهكذا تكون وحدتنا كاملة، فتنتقل محبة الآب بوساطة الابن إلى المؤمنين فيتمتعون بالحب الواحد، حب الآب. الجدير بالذكر أنَّ يسوع لم يقل "أنت فيَّ وأنت فيهم" لأن حلول الآب في المسيح يختلف عن حلوله في المؤمنين. ولم يقل المسيح "هم فيك وأنا فيك" لأن ثبوت المسيح في الآب غير ثبوت المؤمنين فيه. والوَحْدَة بين الآب والابن قائمة على أساس التساوي بينهما، فهم واحد في الجوهر. أمّا الإنسان فكل واحد مختلف عن الآخر، ولكن وحدتنا مع الله تعني انسكاب قوته فينا ليُعيد تشكيلنا لنصير على صورته، فتلغي عداواتنا وانقساماتنا وتقدّسنا. أمَّا عبارة " لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحْدَة" فتشير إلى وَحْدَة الإيمان والسيرة المقدسة وليس المساواة في الطقوس وسياسة الكنيسة. هذا دليل أن حال الانقسام في الكنيسة هو حال نقصان، وحال الاتحاد هو حال الكمال، وكلما نقص اتحاد في الكنيسة قصرت عن الكمال الذي طلبه المسيح " وأَمَّا مَن حَفِظَ كَلِمَتَه فإِنَّ مَحَبَّتَه للهِ قد ِاكتَملَت فيه حَقًّا بِذلك نَعرِفُ أَنَّنا فيه" (1 يوحنا 2: 5). ويُعلق المؤرخ الكنسي اوسابيوس القيصريّ " فإنّه يصلّي أيضًا كي نشاركَ مثلَه في الوَحْدَة. لا وَحْدَة الجوهر التي يشتركُ بها مع الآب، بل الوَحْدَة الّتي توصف كالتالي: كما أنّ الآب قد أشرَكَه بمجدِه، فهو بدورِه يُشارك أولئك الذين يحبُّهم بمجدِه بالطريقةِ نفسِها" (مؤرِّخ اللاهوت الكنسي، الجزء الثالث). أمَّا عبارة "يَعرِفَ العالَمُ" فتشير إلى هدف وَحْدَة التلاميذ، وهي شهادة للاب والابن، حيث أنه يعرف العالم ويكتشف من خلال وَحْدَة التلاميذ حبَّ الآب للبشر؛ وهذا الحب هو حب الابن منعكس عليهم؛ لانَّ المعرفة هنا مقترنة بالإيمان والمحبة، كما صرَّح يسوع في موضوع آخر "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي"(يوحنا 13: 35). ومن هذا المنطلق، يتبيَّن لنا أنَّ المعرفة لا تشير إلى مجرد معرفة عقلية وفكرية فحسب، وإنما أيضًا إلى معرفة واقعية، محسوسة شخصية وحيوية؛ إنها اتحاد الروح والقلب والإرادة لمعرفة الله الآب المرُسِل ومحبته. وإن التعرف إلى الله من خلال رسالة الابن هو أعظم معرفة في العالم وذلك " لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 21). وأمَّا عبارة "أَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني" فتشير إلى أن الآب يُحبُّنا في الابن، " ذلِك بِأَنَّه اختارَنا فيه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحبَّة" (أفسس 1: 4). ويُميّز القديس أوغسطينوس بين حبِّ الآب لابنه وحبَّ الآب لنا؛ إن الآب يُحبَّ الابن من جهة لاهوته، إذ ولده مساويًا لنفسه. يحبه أيضًا كونه جسدًا، لأن الابن الوحيد صار إنسانًا، وبكونه الكلمة، فإن جسد الكلمة هو عزيز عليه. أمَّا بالنسبة لنا فبكوننا أعضاء في ذاك الذي يُحبه، ولكي ما نصير هكذا؛ لقد أحبنا لهذا السبب قبل أن يخلقنا؛ وبعبارة أخرى، ويُعلق القديس أمبروسيوس. "حب ألآب لابنه حبٌ سرمديٌ، أمَّا حبُّه لنا فبالنعمة التي تؤهلنا لهذا الحب " وقد أوضح السيد المسيح هنا أنه ليس وحده يُحبُّ تلاميذه، لكن أبوه أيضًا يُحبُّهم، "وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني". 24 يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم تشير عبارة " يا أَبَتِ" في الأصل اليونانيπατήρ إلى اللفظة التي يستعملها الطفل في علاقاته الودِّية مع أبيه. وكان اليهود يرفضون استخدامها في صلواتهم، لِمَا فيها من المودة الحميمة. أمَّا مرقس الإنجيلي فقد احتفظ باللفظة الآرامية אַבָּא "آبا" التي استعملها يسوع (مرقس 14: 36). فيسوع قد صلى مثل الطفل، وصلاته الكهنوتية كلها هي مناجاة الابن لآبيه. فهذا الابتهال أضاف على صلاة يسوع جوّها وأعطاها اتجاهها؛ أمَّا عبارة "إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي" فتشير إلى المرة السابعة حيث وصف يسوع تلاميذه بذلك في هذ الصلاة الكهنوتية. وهذا دليل على محبته أن ينظر إلى تلاميذه كعطية من ألآب. أمَّا عبارة " أُريدُ" فتشير إلى المرّة الوحيدة التي فيها يتكلم يسوع كالابن الذي جعل الآب " كُلَّ شيءٍ في يَدِه"(يوحنا 3: 35) والذي يعتبر بيت الآب بيته (يوحنا 8: 35)؛ ولأن الآب والابن واحد فإرادة الابن هي إعلان عن إرادة الآب. المسيح هنا يقول أريد وهي أعمق بكثير من "أدعو" كما ورد في الآية السابقة (يوحنا 17: 9). قال المسيح "أريد " بدلا من "أدعو" نظراً إلى اتحاده بالآب ومعرفته إرادته وإرادة الآب (متى 12: 28)، ودليل لَما في قلبه من الشوق العظيم إلى نوال ما سأله. أمَّا عبارة " أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون" فتشير إلى يسوع الذي يريد أن يقاسمه المؤمنون في طاعته وآلامه (يوحنا 13: 36) كما يقاسمونه في ارتفاعه في مجد السماء "مَن أَرادَ أَن يَخدُمَني، فَلْيَتْبَعْني وحَيثُ أَكونُ أَنا يَكونُ خادِمي ومَن خَدَمَني أَكرَمَهُ أَبي" (يوحنا 12: 26). لم يقل يسوع "أريد أن هؤلاء يكونون حيث أكون أنا"، بل أضاف "يكونوا معي". فإن الوجود معه هو أعظم بركة. إن امنيه التلميذ أن يكون مع يسوع، ويسوع يطلب هذه النعمة لجميع أحبائه، فيكونوا معه وهو معهم ويقاسموه. هذا هو مجد الوَحْدَة وإكليلها الفاخر (يوحنا 12: 26). فمن يتبع المسيح في الصليب سيتبعه في المجد كما جاء في سفر الرؤية " الغالِبُ سأَهَبُ لَه أَن يَجلِسَ معي على عَرْشي، كما غَلَبتُ أَنا أَيضًا فجَلَستُ مع أَبى على عَرشِه" (رؤية 3: 21). ويؤكد ذلك يوحنا البشير "فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ" (يوحنا 1: 14). أمَّا عبارة "فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد" فتشير إلى الاشتراك في مجد المسيح والتمتع به. والمجد الذي ناله المسيح بالجسد مجد الكلمة المتجسد (فيلبي 8:2-11) هو نفس مجد لاهوته الذي كان له منذ الأزل، وهو نفس مجد الآب، الذي اكتسبه بطاعته لله الآب (عبرانيين 2: 9) كما جاء في تعليم بولس الرسول "كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض ويَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب" (فيلبي 2: 10-11). فنحن حين ننظر مجده ينعكس مجده علينا فنتمجد، ويكمل فرحنا. ومن هذا المنطلق، نستنتج أن َّمجد الآب والابن هو واحد. فطلب يسوع قبل موته أن يشاهدوا مجده، ووضَّح ذلك بولس الرسول بقوله" نَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد" (2 قورنتس 3: 18). ويكمن مجد الابن في المحبة التي تجمع بين الآب والابن. وهذا هو أساس كل وجود بشري ونهايته. يبدأ المؤمنون بالمسيح أن يعيشوا هذه النعمة بالإيمان على الأرض، وتكتمل في السماء بمعاينة مجد يسوع وجها لوجه. هذه الغاية التي يسير نحوها المسيحيون يوما بعد يوم مستندين إلى صلاته كما جاء في تعليم بولس الرسول "فنَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه" (1 قورنتس 13: 12). وهكذا تمَّ التعبير عن هذا المجد في رؤية يوحنا الرسول " يَجلِسَ معي على عَرْشي، كما غَلَبتُ أَنا أَيضًا فجَلَستُ مع أَبى على عَرشِه (رؤية 3: 21). أمَّا عبارة "أَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم" فتشير إلى المحبة الذي كان الابن يتمتع بها في وجوده منذ البدء لدى الآب أي قبل إنشاء العالم. وهذا الأمر يعود بنا إلى الأزل، أي قبل الخلق لمَّا كان الابن في حضن الآب. ولقد امتد حب الله الآب لابنه ليشمل كل الذين آمنوا به وقبلوه (يوحنا 16:3). 25 يا أَبتِ البارّ إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ وعَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني. تشير عبارة "يا أَبتِ البارّ" (πάτερ δίκαιε) إلى الله الآب العادل (1 يوحنا 9:1) دلالة على برِّ الله وعدله وأنه سيعطي أكاليل البِّر لمن آمنوا به ويُمتعهم بالمجد. لقد وصف يسوع الله الآب إلهَ البرِّ، لأنه يهب تلاميذه أن يكونوا معه وينظروا مجده. وهذه العبارة هي فريدة في العهد الجديد (يوحنا 17: 11). ويدل هذا الابتهال على عدالة الله في دينونته بسبب استقامة حُكمه ونزاهته (مزمور 119: 137)، وتشير هذه العبارة أيضا إلى أمانته ورحمته (مزمور 7: 18) حيث أنَّ برّ الله هو مصدر كل صلاحٍ ومجدٍ لنا؛ فهذه النعمة وعد بها الآب البار، وقدم الابن المصلوب ثمنًا لها مؤهلاً إيَّانا لقبولها؛ أمَّا عبارة "إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ" فتشير إلى العالم الذي لم يعرفْ الله مباشرة معرفة شخصية كما يعرف الآب الابن، لأن الله بار. إن يسوع يخاطب الآب كأنه يخاطب من بتمجيده سيظهر ظلم حكام العالم ضد ابنه معلناً عدالته كما أعلن يسوع "وهو، مَتى جاءَ أَخْزى العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة: أَمَّا على الخَطيئَة فَلأَنَّهم لا يُؤمِنونَ بي. وأَمَّا على البِرّ فلأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب فلَن تَرَوني. وأَمَّا على الدَّينونة فَلأَنَّ سَيِّدَ هذا العالَمِ قد دِين" (يوحنا 16: 8-11). إنَّ العالم يستحق الدينونة. إذ يرد له ما يستحقه، وهو معرفة الله ومعرفة الله هي الحياة الأبدية. رفض العالم يسوع نتيجة خطاياهم فانفصلوا عنه فحُرموا من مجده. أمَّا عبارة "عَرَفتُكَ" فتشير إلى معرفة المسيح لآبيه كاملة بدليل قوله " كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني وأَنا أَعرِفُ أَبي " (يوحنا 10: 16). وهو قادر أن يعلن الآب للناس كما جاء في تعليم يوحنا الرسول "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه " (يوحنا 1: 18). والمعرفة في ضوء الكتاب المقدس هي اتحاد الآب والابن. ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن. المسيح يعرف الآب ويثبت فيه وفي محبته. أمَّا عبارة "عَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" فتشير إلى هؤلاء الذين قبلوا تعاليم يسوع بالإيمان، قبلوا الحق المُعلن في المسيح فاستمتعوا بمجده واتَّحدوا به فكانت لهم حياة أبدية (يوحنا 3:17). لا يعرف الإنسان الله بالعقل بل بالقلب، لان المعرفة هنا تعني الرؤية والتجربة من خلال الروح القدس الذي به نختبر حب الله بشكل ملموس " إِنَّكم في ذلك اليَومِ تَعرِفونَ أَنِّي في أَبي وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم" (يوحنا 14: 16). 26 عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم تشير عبارة "عَرَّفتُهم بِاسمِكَ" إلى رسالة يسوع هنا على الأرض وهي إظهار حب الله للبشر. فالله محبة والمسيح أعلنها على الصليب في أعمق معانيها. ومن أدرك محبة الآب وعرفه رفض محبة العالم الزائف الفاني؛ أمَّا عبارة "بِاسمِكَ " فتشير إلى اسم الله كناية عن صفاته وأخص أسمائه، وهو المحبة. وكل تعليم المسيح وعمله هو تعبير عن إعلان تلك الصفات الحسنى. أمَّا عبارة "سأُعَرِّفُهم بِه " فتشير إلى التعريف باسم الله الآب، وهذ التعريف بدأه الابن بتجسُّده وصليبه وسيمتد للأبدية. فالله لا يُدْرَكْ كماله، لذلك أرسل المسيح الروح القدس ليرشد إلى جميع الحق (يوحنا 13:16) وإعلان محبة الله الفائقة المعرفة. ولم يزل المسيح يعرّف الناس باسم أبيه بواسطة إنجيليه ومُبشّريه وروحه القدوس العامل فيهم وبيهم. وفي الواقع، يتابع جماعة الرسل والكنيسة متابعة إظهار معرفة الآب السماوي للبشر، وهي معرفة دائمة النمو. هذه المعرفة بأسرار الله يقدِّمها الابن، العارف وحده بكمال الأسرار الإلهية، إذ هو واحد مع أبيه كما جاء في إنجيل يوحنا "إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه"(يوحنا 1: 18). فإنّ عمل يسوع لم ينته بعد؛ فهناك الموت والقيامة وفيهما يكتشف التلاميذ اسم الله وعمله، وهناك زمن الكنيسة الذي يبدأ بالصعود ويمتد حتى نهاية العالم. كما يصرّح يسوع "لقد عرَّفتهم اسمك بالإيمان، وسأجعله معروفًا بالعيان" (يوحنا 17: 26)؛ أمَّا عبارة "لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم" فتشير إلى هدف معرفة الله (يوحنا 15: 9)، ألا وهو إدخالهم في الحياة، فالآب لا يظهر ذاته إلاَّ في العطاء، وأمنية يسوع هي اتحاد البشر بحبِّه. وهذا الاتحاد لا يثمر إلا بحضور الابن فيهم. انه مِلْ النِّعمَةُ والحَقّ (يوحنا 1: 14-16) كلما زادت معرفتنا للرب نزداد ثباتا فيه، ونزداد امتلاء من ثمار الروح فنمتلئ حباً له وللناس. ويشتمل هذا الحب على كل بركة. ويصف بولس الرسول أبعاد هذه البركة بقوله "أَسأَلُه أَن يَهَبَ لَكم، على مِقدارِ سَعَةِ مجْدِه، أَن تَشتَدُّوا بِروحِه، لِيَقْوى فيكمُ الإِنسانُ الباطِن، وأَن يُقيمَ المسيحُ في قُلوبِكم بالإِيمان، حتَّى إِذا ما تأَصَّلتُم في المَحبَّة وأسِّستُم علَيها، أَمكَنَكم أَن تُدركوا مع جَميعِ القدَّيسين ما هو العَرْضُ والطُّول والعُلُوُّ والعُمق، وتَعرِفوا مَحبَّةَ المسيحِ الَّتي تَفوقُ كلَّ مَعرِفة، فتَمتَلِئوا بِكُلِّ ما في اللهِ من كَمَال" (أفسس 3: 16-19). أمَّا عبارة "وأَكونَ أَنا فيهِم" فتشير إلى يسوع المسيح الذي هو القيامة والحياة (يوحنا 25:11) فحينما يكون فينا تكون لنا حياة أبدية. وصحيح أن المسيح سيفارق تلاميذه بالجسد، بناسوته، ولكنه سيظل فيهم بالروح، بلاهوته للأبد. والهدف النهائي أن يسكن المسيح فينا ويتحد بنا فهذا هو المجد الذي أراده للبشر والحياة الأبدية لهم في المجد. يدخل المسيح قلوبنا بالإيمان ويمكث فينا بالإيمان وهو "فينا رجاء المجد" وغاية القداسة والسعادة. وبهذا الآية اختتم يسوع صلاته الكهنوتية الوداعية. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 17: 23-26) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 17: 23-26)، يمكن أن نستنتج انه يتمحور حول صلاة يسوع من اجل وَحْدَة كنيسته وأهداف هذه الوَحْدَة ومعاينة مجده الإلهي. 1) وَحْدَة المسيحيين يتسع طلب يسوع في صلاته الكهنوتية من الصلاة لأجل ذاته إلى الصلاة من أجل التلاميذ وأخيرا إلى الصلاة من اجل الكنيسة: "لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم" (يوحنا 17: 20). إذ يصلي يسوع للذين يؤمنون به عن يد الرسل وتلاميذهم بما فيهم نحن الذين نتبعه اليوم طالباً الوَحْدَة ومعاينة مجده. إن أعظم رغبة يطلبها يسوع للكنيسة هي أن تكون واحدة؛ غير أن الوَحْدَة هي عطيّة تنزل من الآب السماوي. كما جاء في تعليم يعقوب الرسول " كُلُّ عَطِيَّةٍ صالِحَةٍ وكُلُّ هِبَةٍ كامِلَةٍ تَنزِلُ مِن عَلُ مِن عِندِ أَبي الأَنوار " (يعقوب 1: 17). ولذلك ويجب أن تُطلب منه. فمن الآب السماوي يطلب الربّ يسوع أن يكون اتباعه متحدين كشهادة لحقيقة محبة الله. بعمل المسيح والآب والروح القدس يصير المؤمنين واحداً (أفسس14:3-20) وكانت هذه الوَحْدَة على سُلم أولويات يسوع كما ورد في موضع آخر من الإنجيل "ولي خِرافٌ أُخْرى لَيسَت مِن هذِه الحَظيرَة فتِلكَ أَيضاً لابُدَّ لي أَن أَقودَها وسَتُصغي إلى صَوتي فيَكونُ هُناكَ رَعِيَّةٌ واحِدة وراعٍ واحِد" (يوحنا 10: 17)، وهو يضحي بحياته من اجل هذه الوَحْدَة كما أعلن قيافا رئيس الكهنة: " أَنَّ يسوعَ سيَموتُ عَنِ الأُمَّة، ولاعنِ الأُمَّةِ فَقَط، بل لِيَجمَعَ أيضاً شَمْلَ أَبناءِ اللهِ المُشَتَّتين" (يوحنا 11: 50). وصار المسيح رأسا للكنيسة كما يؤكده بولس الرسول " ليَجمعَ تَحتَ رأسٍ واحِدٍ هو المسيح كُلَّ شَيء ما في السَّمواتِ وما في الأَرْض" (أفسس 1: 10). ويصف القدّيس بولس الرسول هذه الوَحْدَة في الكنيسة على أنّها جسد المسيح بقوله: " وكما أَنَّ الجَسَدَ واحِدٌ ولَه أَعضاءٌ كَثيرَة وأَنَّ أَعضاءَ الجَسَدِ كُلَّها على كَثرَتِها لَيسَت إِلاَّ جَسَدًا واحِدًا، فكذلكَ المسيح. فإِنَّنا اعتَمَدْنا جَميعًا في رُوحٍ واحِد لِنَكونَ جَسَدًا واحِدًا، أَيَهودًا كُنَّا أَم يونانِيِّين، عَبيدًا أَم أَحرارًا، وشَرِبْنا مِن رُوحٍ واحِد" (1 قورنتس 12، 12-13)، " فأَنتُم جَسَدُ المَسيح وكُلُّ واحِدٍ مِنكُم عُضوٌ مِنه" (1 قورنتس 12، 27). ونستنتج مما سبق أن الوَحْدَة في الكنيسة لا تعني أن يُقيم المؤمنون أماكن عبادتهم على نمط واحد، أو أنَّهم يجتمعون في مكان واحد، ولا تعني وحدة مؤسساتية: الهدف ليس جمع المسيحيين تحت مسمى الكاثوليك أو الأرثوذكس...، بل جعل الجميع يعترفون ببعضهم البعض كمسيحيين. والوَحْدَة المقصودة تتخطّى كلّ هذه الشكليّات، وتسمو على هذه الفروقات، في روح المحبّة المتبادلة ورباط التضامن. المطلوب هو الوَحْدَة في الفكر والهدف والمشاعر بلا انقسامات أو تحزبات، فنحن جسد واحد ونحن من كلنا أعضاء في جسد المسيح كما جاء في تعليم بولس الرسول "مُجتَهِدينَ في المُحافَظَةِ على وَحدَةِ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلام. فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد. وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، وإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا "(أفسس 4: 3-6) وإذا فهمنا أن المسيح وحَّدنا في جسده وجعلنا جسدًا واحدًا، فهذه هي وَحْدَة كيان. والطريق لوحدتنا أن نثبت في المسيح، فثباتنا في المسيح يملانا بالروح القدس الذي يسكب محبة الله فينا. فلا يصلح أن نكون واحداً فقط، بل المهم أن نكون واحداً في المسيح وفي الآب. فهناك من اتحدوا في الشر. ولكن من الذي يتحد بالمسيح لا يحب إخوته فقط بل أعدائه أيضا. وعن طريق وحدتنا مع المسيح نتحد مع الآب. فالجماعة لا تتحد إلاّ بالوجود في الآب والابن. وفي الواقع تعثّر واقع رجاء الوَحْدَة المسيحيّة في أيّامنا، وأصيب بصدمة كُبرى، لأنّ كلّ واحد يُحبّ عقيدته وتقاليده ومفهومه الخاصّ لكلمة الربّ أكثر من محبّته لأخيه. إن كنّا نحبّ حقّاً أحدنا الآخر كما نُحبّ سيّدنا سوع المسيح، فإنّنا لن نغلق الباب في وجه أخ من كنيسة أخرى، ولن نمنعه من الجلوس إلى مائدة أبيه. ومن الأمور المؤسفة أنّ دعاة الطائفيّة يبذلون أقصى ما يبذلون من جهد ليُقيموا أمام العالم واجهة متنافرة منقسمة، تُعطي العالم فكرة سيئة عن المسيح وعن المسيحيّة. لا أصعب في الحياة من أن يعيش الإنسان تحت سقف واحد، مع شخص لا يحبّه ولا يتكلّم معه بل هناك تباعد وانقسام بين أعضاء البيت الواحد والكنيسة الواحدة. فإنّ الوَحْدَة كما رآها الربّ يسوع تُحطّم الحواجز الّتي أقامتها الطائفيّة الكنسية، إنها وَحْدَة شركة وعلامة وشهادة أ) وَحْدَة المسيحيين شركة صلي يسوع لوَحْدَة المسيحيين من اجل تكون وحدتهم شركة في وَحْدَة الآب والابن "فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا" (يوحنا 17: 21). صلى يسوع من أجل وَحْدَة المسيحيين لكي تكون على مثال وَحْدَة الآب والابن. صلى من أجل الوَحْدَة بين المؤمنين المبنيَّة على وحدانية المؤمنين مع يسوع والآب. ويُعلق سمعان اللاهوتيّ "ما هو في طبيعة الابن بالنسبة إلى آبيه السماوي، يعطينا أن نكونه بالنسبة إليه من خلال التبنّي والنعمة "(الأخلاق، 1: 6-8). إنّ الألوهيّة التي نتشارك فيها لا يمكن تقسيمها إلى أجزاء منفصلة، ويتتبّع منها بالضرورة أنَّنا، نحن أيضًا، عندما نشارك فيها بشكل حقيقي، نصبح غير منفصلين عن الرُّوح الواحد ونشكّل جسدًا واحدًا مع الرّب يسوع المسيح. لدى اعتراف المؤمن بالله الواحد: الآب والابن والروح القدس ينفتح للمحبة التي تربط الآب والابن، والتي يشركه فيها الروح "أَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومه 5: 5). ويمكن للمسيحيين أن يعرفوا الوَحْدَة فيما بينهم لو كانوا يَحيون في اتحاد مع الله. فكما يقول لنا في مثل الكرمة والأغصان، كل غصن يحيا مع الكرمة يتحد مع بقية الأغصان الأخرى جميعها " أَنا الكَرْمةُ وأَنتُمُ الأَغصان. فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ ثَمَراً كثيراً (يوحنا 15: 5). وهكذا تصبح الكنيسة شراكة، شراكة المؤمنين أحدهم مع الآخر وشراكة بين المؤمن والله. وفي هذه الشراكة المزدوجة يبلغ الإنسان ملء قامة المسيح، هذا ما أنهى به يسوع صلاته التي سيتابعها من أجل شعبه لكي يتابعوا نموهم في التعرف إلى الله “لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ (يوحنا 17: 26) ويكون الله فيهم. وبعبارة أخرى، من خلال المشاركة في الحياة الإلهية "فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا " (يوحنا 17: 21)، يتمَّ! توسيع الوَحْدَة بين الآب ويسوع وتقاسمها مع المؤمنين بصورة مرئية ومفهومة للعالم من خلال محبتهم لبعضهم البعض ومن خلال الشركة الكاملة والمنظورة في كنيسة المسيح. ب) وَحْدَة المسيحيين علامة صلى يسوع لوَحْدَة المسيحيين حتى تكون علامة للعالم للدلالة أن يسوع أتى من الله فعلا. إنّ وَحْدَة المؤمنين هي العلامة الأولى للبشارة "لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" (يوحنا 17: 21). إنّ الوَحْدَة بين المؤمنين هي علامة ورمز للوَحْدَة بين يسوع والآب. ويركز إنجيل يوحنا كثيرًا على هذه العلاقة بين الآب ويسوع (يوحنا 19: 5؛ 28: 6؛ 25: 10). وإذا كانت وَحْدَة المؤمنين، ليست مجرد مسألة تنظيمية، بل هي ثمرة العمل الإلهي لذلك يجب أن تكون مرئية تاريخياً. لان العالم يحتاج لرؤية وحدتنا كما جاء في تعليم يسوع " إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا 13: 35). إن وَحْدَة المسيحيين الروحية تقنع العالم بصحة إرساليتهم. بما أن يسوع هو مصدر الوَحْدَة، فإنها تشهد أمام العالم بحقيقة رسالته؛ ومن هذا المنطلق، العلامة الوحيدة التي تركها يسوع لإخوته ليست تنظيما كنسيا، ولا جمالا للمراسيم الدينية، ولا تماسكا لعقائدنا، بل الوَحْدَة في الحب المعاش في علاقاتنا الأخوية اليومية. يرى الناس حضور المسيح وسطهم من خلال المحبة المتبادلة " إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا13: 35). فالوَحْدَة في المحبّة نداءً كي يؤمن العالم. ودون الوَحْدَة المرئيّة لا يولد الإيمان، لأنّه تنقص المحبّة، الّتي هي الطريق الوحيد كي تؤمن القلوب بالسيّد المسيح وتُرحّب بكلمته على أنّها كلمة الحياة الأبديّة له. فعيشنا كإخوة هي بشرى عملية، وعمل نبوي، ورجاء من أجل جميع البشر بل هو أول ارتداد وأول عمل رسولي تبشيري نقوم به. والتبشير يتمّ أولاً عندما تشعّ الحياة الأخوية، "أنظروا كم يحبّ بعضهم بعضاً". أين جوابنا وجواب رعايانا المسيحية وكنائسنا على هذه الحاجة؟ ج) وَحْدَة المسيحيين شهادة صلى يسوع لوَحْدَة المسيحيين لتكون شهادة حب الآب. وهذا ما يجعل الشهادة موثوق بها. إن أعظم رغبة يطلبها يسوع لتلاميذه هي أن يكونوا واحداً كشهادة قوية حقيقة لمحبة الآب للبشرية، التي أظهرها تعالى ببذل ابنه الواحد "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنا 3: 16). وتتم هذه الوَحْدَة باشتراك التلاميذ بمجد يسوع الذي وهبه لهم لأنهم كلهم به أبناء ويتمتعون بالحب الواحد، حب الآب: "أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحْدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني" (17: 23). حيث أكبر عثرة تعطل الإيمان هي عدم المحبة بين المؤمنين. إن إعلان محبة الآب للابن توحّد الكل في كمال الوَحْدَة. وبعبارة أخرى يريد يسوع أن يُظهر سر الله بواسطة وَحْدَة التلاميذ. "وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد" (يوحنا 17: 22). فهل نعمل على اتحاد جسد المسيح أي الكنيسة لنكون شركة في وَحْدَة الآب والابن، وعلامة حضور المسيح بيننا وشهادة حب الله للبشرية؟ فكما كانت الجماعة المسيحية الأولى "الَّذينَ آمَنوا قَلبًا واحِدًا ونَفْساً واحِدة" (أعمال 4: 32)، فكذلك علينا أن نكون جسدًا واحدًا مؤلّفًا من أعضاء مختلفة. هذا ما يستحقّه حقًّا المسيح نفسه، الّذي هو رأسنا الحقيقيّ. (أفسس 1: 22). ويحثُّنا بولس الرسول في هذا أيضا قائلاً " سيرةً مِلؤُها التَّواضُعُ والوَداعَةُ والصَّبْر، مُحتَمِلينَ بَعضُكُم بَعضًا في المَحبَّة ومُجتَهِدينَ في المُحافَظَةِ على وَحْدَة الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلام. فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد. وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، وإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا " (أفسس 4: 2-6). ومن هذا المنطلق يحتتنا القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ بطريرك أنطاكية وشهيد " إنّه لخيركم إذًا أن تحافظوا على وَحْدَة لا تشوبها شائبة، بحيث تنعمون باتّحاد دائم بالله. (رسالة إلى أهل أفسس). ومن هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار الوَحْدَة المسيحية خيارًا بل ضرورة واجبة للحفاظ على التنوّع والتعددية في الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية التي أسسها السيد المسيح. 2) معاينة مجد المسيح لا يطلب يسوع في صلاته الكهنوتية الوَحْدَة بين المسيحيين فحسب، إنما معاينة مجده أيضا. والمجد ناشئ عن حياة المسيح فينا واتحاد جسده بجسدنا. المسيح فينا رجاء المجد كما جاء في تعليم صاحب الرسالة إلى العبرانيين "فذاكَ الَّذي مِن أَجْلِه كُلُّ شَيءٍ وبِه كُلُّ شَيء، وقَد أَرادَ أَن يَقودَ إِلى المَجْد ِكَثيرًا مِنَ الأَبناء، كانَ يَحسُنُ به أَن يَجعَلَ مُبدِئَ خَلاصِهم مُكَمَّلاً بِالآلام" (عبرانيين 10:2). وهذا المجد هو مجد حلول الروح القدس فينا الذي يوزِّع على كل واحد مواهبه. والمجد الذي نأخذه الآن هو عربون المجد أن يُعلن فينا (رومة 18:8). المجد الذي أعطاه المسيح لنا هو سبب وَحْدَة الكنيسة. ويُعلق سمعان اللاهوتيّ "إنَّ المجد المُعطى إلى الابن من قبل الآب، يعطينا إيّاه الابن بدوره بواسطة النّعمة الإلهيّة" (الأخلاق، 1: 6-8). فيسوع يصلي كي تنتقل الكنيسة المجاهدة إلى الكنيسة الممجَّدة. ويطلب يسوع هذه المعاينة تكليلا لعمله وصلاته "يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد لأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم" (17: 24). والمجد هنا هو الكشف عن محبة الله، التي تبلغ ذروتها الخدمة المتواضعة والتي تبلغ ذروتها في غسل الأرجل وفي الصليب. وإنّ طريق الصليب هو الطريق إلى المجد الحقيقي. فمجد المسيح بجسده يبدأ بالصليب. وهذا المجد ينتقل إلى الإنسان إذا قبل الصليب مع المسيح (لوقا 22: 28-30). وإنّ الصليب، قبل أن يكون رمزًا للمعاناة والتضحية، هو المكان الذي يعرف فيه الإنسان حب الله الذي لا يُقاس، حيث أنَّ الوَحْدَة لا تُبنى بادعاء العظمة، بل بحب ِّالآخر أكثر من حبِّ الذات. فقط مثل هذا الحب، الذي يعرف كيف يبذل ذاته، ويعرف كيف يُصغّر نفسه على مثال يوحنا المعمدان (يوحنا 3: 30) لإفساح المجال للآخر؛ وبهذا الأمر يُمكنه بناء الوَحْدَة، وبالتالي يصبح صورة لمحبة الله، وللوَحْدَة بين الآب ويسوع. وهنا يسوع يقول لأبيه: "أريد" وهي المرة الوحيدة يتكلم بهذه الصيغة. انه يتكلم كالابن الذي جعل الآب كل شيء في يديه كما يؤكده يوحنا الإنجيلي" إِنَّ الآبَ يُحِبُّ الابن فجَعَلَ كُلَّ شيءٍ في يَدِه" (يوحنا 3: 35). فأمنية التلميذ أن يكون مع يسوع، ويسوع يطلب هذه النعمة لجميع تلاميذه، فيكونوا بقربه ويقاسموه معاينة المجد. والمعاينة هي ليست مشاهدة مجد المسيح فحسب كما جاء في تعليم بولس الرسول "ونَحنُ جَميعًا نَعكِسُ صورةَ مَجْدِ الرَّبِّ بِوُجوهٍ مَكشوفةٍ كما في مِرآة، فنَتَحوَّلُ إلى تِلكَ الصُّورة، ونَزدادُ مَجْدًا على مَجْد، وهذا مِن فَضْلِ الرَّبِّ الَّذي هو روح" (2 قورنتس 3: 18)، أنما تكمن المعاينة أيضا في معرفة المحبة التي تجمع بين الآب والابن. "عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم"(يوحنا 17: 26). ويطلب يسوع في صلاته أن نشاركه في محبة أبيه السماوي له التي هي أجود ما يملكه. هذه هي قمة الإنجيل العظمى. إن حب الله بالذات، هو حب الثالوث الأقدس الذي به يحب الآب والابن، هو حب الله يشاركه يسوع مع المؤمنين؛ وهذه النعمة تبدأ على الأرض في الإيمان وتكتمل في السماء. فمعاينة مجد المسيح هي غاية كل المؤمنين به وأساس كل وجود بشري ونهايته كما جاء في تعليم بولس الرسول " فنَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه. اليَومَ أَعرِفُ مَعرِفةً ناقِصة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فسَأَعرِفُ مِثْلَما أَنا مَعْروف"(1 قورنتس 13: 12). ومن هذا المنطلق، يحتتنا القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ بطريرك أنطاكية وشهيد "يجب أن تمجّدوا الرّب يسوع المسيح في كلّ أوجه حياتكم، هو الذي مجّدكم" (رسالة إلى أهل أفسس). واختتم يسوع صلاته بوعده أن يتابع رسالته على الأرض عن طريق كشف الآب للعالم: "يا أَبتِ البارّ إِنَّ العالَمَ لم يَعرِفْكَ أَمَّا أَنا فقَد عَرَفتُكَ وعَرَفَ هؤلاءِ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني (17: 25). ومن خلال الرسالة بإظهار حب الله للبشر، يتحد المؤمن بالله فيشاهد مجده وعندما يشاهد مجد الله يبلغ قمة وجوده ويتحقق كيانه لأنه " يكون هو حيث المسيح". هذه هي صلاة يسوع المسيح الكهنوتية وهذه هي وصيته لنا. وباختصار صلاة يسوع تكمن في سير الكنيسة المجاهدة على الأرض نحو الكنيسة الممجدة في السماء حيث يشترك جميع المؤمنين في نفس الحب الذي عند الآب لابنه الحبيب "لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم (يوحنا 17:26). وإن معرفتنا بان يسوع قد صلى من أجلنا جميعا، لا بد أن تعطينا الثقة ونحن نعمل من أجل ملكوته. الخلاصة تنقسم صلاة يسوع الكهنوتية (يوحنا 17: 10 26) إلى ثلاث أجزاء: الجزء الأول، يُصلّي يسوع من أجل نفسه يوحنا 17: 1-5)، وفي الجزء الثاني، يصلي من أجل تلاميذه (يوحنا 17: 6-19)، وفي الجزء الثالث يُصلي يسوع من أجل الّذين سوف يؤمنون به (يوحنا 17: 20-26)، أي نحن "لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضًا" (يوحنا 17: 20). صلّى يسوع إذن في صلاته الكهنوتية من أجل أن يكون اتباعه معه واحداً، كما انه واحد مع أبيه السماوي. فالمؤمنون على كثرتهم، يجب أن يكونوا واحدا، لان الله واحد. والوَحْدَة المقصودة بصلاة يسوع هي وَحْدَة قلب وفكر وعقيدة وإيمان. عندما يكون المؤمنون في المسيح، يكون المسيح في المؤمنين. وكل مَن كان مِن المسيح يسعى إلى الوَحْدَة. وأمَّا من كان همه التفريق فهو ليس من أتباع المسيح. من البديهي أنّ أولئك الذين لا يهتمّون بوَحْدَة الكنيسة، إنّما هم يحبّون أنفسهم بدل محبتهم للرّب يسوع المسيح. فإنّ هؤلاء الأشخاص تقودهم الرغبة في المجد الأرضي والسيطرة والربح، لا الرغبة في الطاعة ومساعدة الآخرين وإرضاء الله. وقد وبّخهم بولس الرّسول حين قال: "كُلُّهم يَسعى إلى ما يَعودُ على نَفْسِه، لا إلى ما يَعودُ على يسوعَ المسيح" (فيلبي 2: 21). فَلنَبحثْ عن مصلحة الرّب يسوع المسيح ورغبته، من دون أن نقلقَ بشأن مصالحِنا. الوَحْدَة الحقيقية هي شركة في وَحْدَة الآب والابن وهي علامة ليؤمن العالم شهادة حب الآب. فهل نعمل على اتحاد جسد المسيح أي الكنيسة؟ هل نصلي من اجل الوَحْدَة؟ هل نبني بعضنا بعضا وان نعلي شأن المسيح وفق توصية بولس الرسول: "مُجتَهِدينَ في المُحافَظَةِ على وَحْدَة الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلام. فهُناكَ جَسَدٌ واحِدٌ ورُوحٌ واحِد، كما أَنَّكم دُعيتُم دَعوَةً رَجاؤُها واحِد. وهُناكَ رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، وإِلهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا" (أفسس 3:4-6). ولا يمكن أن يكون كلّ هذا مجرّد ثمرة جهد بشري. لهذا سيتم إرسال المُعزِّي إلينا، الروح الذي سيقيم فينا وسيبقى معنا إلى الأبد (يوحنا 14: 16). والروح القدس الّذي يجعلنا نختبر حب الله وما قاله من صلاته إلى الآب " تعرِفونَ أَنِّي في أَبي وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم " (يوحنا 14: 20). دعاء أيها الربّ يسوع، يـا مَن في ليلة إقبالك على الموت من أجلنا، صلّيـتَ لكي يكـون تلاميذك بأجمعهـم واحـداً كما أنّ الآب فيك وأنتَ فيه. اجعلنا أن نشعـر بعدم أمانتنا ونتألّم لانقسامنا. أعطنا صدقـاً فنعـرف حقيقتنا، وشجاعة فنطرح عنّـا ما يكمن فينا من لامبالاة وريبة، ومن عداء متبادل. وامنحنا يـا ربّ أن نجتمـع كلّنا فيك فتصعـد قلوبنا وأفواهنا بلا انقطاع صلاتـك من أجل وَحْدَة المسيحيّيــن، كما تريدها أنتَ وبالسبـل التي تـريـد. ولنجـد فيك، أيهـا المحبّـة الكاملـة، الطريـق الذي يقـود إلى الوَحْدَة، فـي الطاعـة لمحبتك وحقّك. أمين. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|