المبنى الكنسي له مفهوم ودلالة روحية ليس مجرد عمل هندسي نفتخر إذا ما رأيناه جميلاً في
منظره وديكوره ومعماره فقط بل عمق هدف الله في أن يصبح بهذا الشكل الفريد.
تطور المبنى الكنسي هو عبارة عن تسلسل عجيب لأيقونة رائعة تكلم عنها الله في الكتاب
المقدس حيث تحدث عنها رجال الله في وصفها مسوقين بالروح القدس حيث أشترك في إخراجها
أكثر من 40 فنان من رجال العهد القديم والجديد … عاشوا في أماكن متفرقة وظروف اجتماعية
مختلفة … كان منهم الملك والفيلسوف وقائد الجيش والمتعلم بكل حكمة المصريين في وقته
وراعي الغنم والبقر وصياد السمك … البعض كتب وهو في قصور الملوك، والأخر كُتب في البرية
أو منفياً في جزيرة أو من داخل قضبان في السجن ورغم هذا التباين الواضح بينهم استطاع كل
واحد أن يرسم خطاً في الأيقونة أو يضع نقطة بلون معين بريشته البارعة … حتى تم هذا الإخراج
الرائع.
المبنى الكنسي له فاعليته في حياتنا، في عبادتنا الكنسية الجماعية والخاصة، في معاملاتنا
مع إخوتنا في الكنيسة ولقائنا مع القديسين الذين في السماء. نستطيع أن نفهم ذلك جيداً من خلال
دراستنا لفكرة بيت الله وتطوره عبر التاريخ إذ مر بالمراحل التالية : أولاً الفردوس الأول :
إننا نرى ذلك البيت العظيم أعني الجنة التي كان يعيش فيها أبونا آدم وأمنا حواء مع الله قبل
السقوط في الخطية والذي بناه الله للإنسان لكي يعيش فيه ويتلاقى معه بدون الحاجة إلى هيكل أو
مذبح أو ذبيحة أو بخور. وهذه القصة دونها لنا الكتاب المقدس في الإصحاحات الثلاثة الأولى من
سفر التكوين. "وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً. ووضع هناك آدم الذي جبله" {تك 2 : 8.
ثانياً المذبح :
بعدما أكل آدم وحواء من الشجرة التي منعهما الله من أكل ثمرها فسقطا في عصيان الله
وعدم طاعة كلامه كانت الحاجة ماسة لوجود المذبح والذبائح للتكفير عن الخطية لأن الانسان علم
منذ سقوطه أنه لابد من وجود ذبيحة ويبدو ذلك جلياً في الآيتين الآتيتين : "فإنفتحت أعينهما وعلما
إنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" {تك 3 : 7 "وصنع الرب الإله لآدم
وإمرأته أقمصة من جلد وألبسهما" {تك 3 : 21 فإنه عندما أخطأ الإنسان أحس أنه عريان
فصنع لنفسه ملابس من ورق الشجر ولكن من الواضح والمعروف أن ورق الشجر يذبل مع مرور
الوقت فلم يكن هذا الاسلوب مناسبأ لكي يُصنع به مآزر فجاء الله وصنع لهما ملابس من جلد
الحيوانات أي بعد أن ذبح الحيوان أخذ الجلد وصنع به الملابس فأدرك الانسان منذ ذلك الحين أنه
عندما يخطئ لابد أن يذبح ذبيحة حيوانية ويقدمها لله لكي يستر بها عريه و يكفر عن خطيئته. كان
هذا دلالة على وجود المذبح والذبيحة.
أول مرة ذُكرت فيه كلمة مذبح في الكتاب المقدس في قصة نوح والطوفان في الاصحاحات
من 6 إلى 8 من سفر التكوين حيث أنه بعدما إنتشر الشر على الأرض قال الله لنوح أن يصنع
الفلك الذي هو رمز من رموز الكنيسة في العهد الجديد لكي يدخل فيه هو وبنيه وكل الحيوانات
إثنين من كل نوع ذكر وأنثى فيما عدا البهائم الطاهرة والطيور الطاهرة سبعة سبعة ذكراً وأنثى (تك
7 : 2-3) ولعل السبب في ذلك لأنه سيقدم بعض منها لله ذبيحة وفهلاً بعدما مر الوقت وأباد الله
بالطوفان الشر خرج نوح من الفلك وبنى مذبح للرب وقدم عليه من البهائم والطيور الطاهرة
"وبنى نوح مذبحاً للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات
على المذبح" {تك 8 : 20
إن غاية بناء المذبح هو أن يعرف الانسان أنه بدون ذبيحة لا توجد مغفرة وهذا يجذب
عقولنا وفكرنا لذبيحة المسيح على الصليب التي نصنعها في كل قداس على المذبح المقدس فنتناول
من جسده ودمه لكي يتحد بنا ويعيش معنا وفينا.
ثالثاً بيت إيل :
أول مرة يسمى المسكن الذي يسكن فيه الله مع الانسان بإسم. حيث يروي لنا سفر التكوين
في الاصحاحات 27 و 28 قصة يعقوب الهارب من أخيه عيسو لأنه أخذ البركة من أسحق أبيه بدل
منه وفي الطريق نام وأسند رأسه على حجر ليرى حلماً وإذا بسلم منصوب على الأرض ورأسه
يمس السماء وملائكة صاعدون ونازلون عليه، والرب واقف أعلى السلم يكلم يعقوب ويقول له :
"ها أنا معك وأحفظك حيثما تذهب وأردك إلى هذه الأرض" {تك 28 : 15 وحينما إستيقظ يعقوب
من نومه تأكد أن الرب في هذا المكان فقال : " حقاً إن الرب في هذا المكان … ما أرهب هذا
المكان. ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء" {تك 28 : 16-17 وأخذ الحجر الذي وضعه تحت
رأسه وأقامه عموداً وصب عليه زيتاً، ودُعي إسم المكان "بيت إيل" أي بيت الله. وبقي يعقوب عند
خاله لابان 20 سنة، تزوج خلالها بليئة وراحيل، وقرر يعقوب العودة بعد هذه السنوات الطويلة.
وفي طريق عودته مر ببيت إيل وهناك بنى مذبح للرب، وقدم له الشكر لأنه كان معه، ولم يتركه
وأعاده بسلام.
أصبح المبنى الكنسي أشمل من كونه مذبح فقط فإن الغاية من وجود الله في بيته يجعلنا
نشعر كما شعر يعقوب بوجود الله معنا دائماً وكما إستراحت رأس يعقوب عند أسفل السلم هكذا
تستريح نفوسنا عند أعتاب بيت الرب وأيضاً كما رأى يعقوب الملائكة نازلة وصاعدة على السلم
هكذا نشعر بأننا قد إنفتحنا على السمائيين وصار الأرضيين كالسمائيين رابعاً خيمة الاجتماع :
بعد سنوات عندما صعد موسى على الجبل ليأخذ الوصايا العشر من الله أمره الرب أيضاًُ أن
يبني له مسكنأً ليسكن في وسط شعبه وكان إسم المسكن الجديد هو خيمة الاجتماع فوضع الله
تصميم هذه الخيمة لموسى في سفر الخروج حيث صنع الرب الإله مثالاً أراه وأعلنه له على الجبل،
وأمره أن يصنع مثله تماماً.
الجدير بالذكر أن رحلة شعب الله في البرية إستغرقت 40 سنة وكانوا يسيرون، وإذا إستقروا
في مكان كانوا ينصبون خيامهم، لذلك أمر الرب أن يكون مسكنه هو أيضاً خيمة -كما يقول القداس
الالهي- تٌنصب وسط خيامهم، علامة على وجود الله وسط شعبه … ولما صنع موسى الخيمة حسب
أمر الرب حل وسكن الرب في وسط شعبه. " ثم غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب
المسكن " {خر 40 : 34
كان كلما تحركت السحابة الحالة على خيمة الاجتماع كلما تحرك الشعب بخيامه ورائها فإن
خيمة الاجتماع كانت تقود الشعب في إتجاه أورشليم وهذا يذكرنا بأننا نتحرك نحو السماء ويقودنا
إلى أن المبنى الكنسي يقود النفوس من يوم إلى يوم للرحيل إلى السماء.
لأول مرة تصدر وصية إلهية تلزم الجماعة بإقامة بيت لله على شكل خيمة، تتقدم خيامهم،
وتُنصب أينما حلوا وهذا يدل على أن الله يريد أن يسكن في مسكن يشبه مسكننا أيفي بيت لا وجود
للجمال في منظره الخارجي ولكن الجمال هو في الداخل حيث أن الخيمة برموزها وطقوسها تكشف
لنا الكثير من أسرار بيت الله ويتلخص ذلك في الآتي :
1- حجاب قدس الأقداس : يدخل قدس الأقداس رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة ويعتبر فيشفع
ويصلي من أجل الناس وهذا يذكرنا بشخص المسيح الذي هو رئيس الكهنة الأعظم الذي يقول عنه
بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين " ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة
إلى الأقداس فوجد فداءاً أبدياًً" {عب 9 : 12 أي أن المسيح رئيس الكهنة العظيم دخل مرة واحدة
إلى الصليب فصنع فداءاً أبطل به إلى الأبد كل ذبائح العهد القديم.
المنارة الذهبية
مائدة خبز الوجوه
المرحضة
المذبح
تابوت العهد
2- المرحضة : يتم فيه غسل الجسد وتطهيره إشارة إلى المعمودية في كنيسة العهد الجديد.
3- المنارة الذهبية ذات السرج السبعة : تضي دائماً ليلاً ونهاراً فتذكرنا أن الكنيسة دائماً مضيئة
باستمرار لوجود المسيح فيها.
4- مائدة خبز الوجوه : كانت تستخدم كطعام إشارة إلى إطعام المسيح لنا في كل قداس الطعام
الروحي (الجسد والدم) لكي يصير فينا.
5- تابوت العهد وما يحويه من الداخل : يشير من بعيد إلى إرادة الله في الاتحاد بالناس.
6- الطقوس : أما الطقوس التي كانت تُقام في الخيمة فهي تشبه إلى حد كبير الطقوس في كنيسة
العهد الجديد حيث أن التقديس بالدم يشير إلى التقديس بدم المسيح والتطهير بالماء يشير إلى مياه
المعمودية والتكريس بدهن المسحة يشير إلى أن الكنيسة تُكرس للرب من خلال دهن الميرون
وطقوس الذبائح المتعددة والدقيقة تشير إلى ذبيحة المسيح على الصليب والتمتع بتناول جسد الرب
ودمه لكي نكون فيه وهو فينا. خامساً الهيكل :
يروي لنا الكتاب المقدس في الإصحاح 7 من سفر صموئيل الثاني أنه بعد سنوات بنى داود
الملك مدينة أورشليم .. وبنى بها قصره العظيم وخجل داود من الله وقال له : كيف أسكن أنا في
قصر فخم مثل هذا أما الله فمسكنه في خيمة وإشتهى أن يبني بيتاً لله. لكن الله قال له عن طريق
ناثان النبي إن إبنك الذي سيملك بعدك هو الذي سيبني لي بيتي … وفعلاً يحكي لنا سفر ملوك الأول
بعد أن مات داود، ملك سليمان إبنه من بعده وبنى الهيكل ودشنه وحل عليه مجد الرب علامة سكنى
الله فيه. وبعدما بنى الملك سليمان الهيكل صلى إلى الرب وقال:" لتكزن عيناك مفتوحتين على هذا
البيت ليلاً ونهاراً على الموضع الذي قلت إن إسمي يكون فيه " {1مل 8 : 29
إذ استقر الشعب في أورشليم بُني الهيكل حيث جاء من تصميم الله إمتداداً للخيمة، يحمل ذات
أقسامها، ويحوي ذات محتوياتها، ويقوم بنفس رسالتها ولكن الخيمة كانت تتحرك في البرية متجهة
إلى أورشليم أما الهيكل فثابت في مدينة أورشليم أي أن إستقرار الهيكل في عهد سليمان الحكيم
الذي كان عهده عهد سلام يرمز إلى إستقرار الكنيسة على يد يسوع المسيح ملك السلام في
أورشليم السماوية.
الهيكل كلمة عبرية معناها البيت العظيم وتطلق على القصر الملكي ويليق بالمبنى الكنسي أن
يكون هيكلاً فيه يسكن الملك العظيم رب المجد يسوع يملك على شعبه إلى الأبد. لذلك كان الرب
يسوع يحب أن يذهب إلى الهيكل ليصلي، ويعلم وقال عنه أنه "بيت أبي" ولا يليق ببيت الله إلا
الصلاة لذلك قد أخرج منه باعة الحمام، وكل الذين يبيعون ويشترون ولا يحترمون بيت الله (مت 21 : 13)
سادساً كنيسة العهد الجديد :
وعد الرب يسوع تلاميذه أنه سيرسل لهم الروح القدس بعد 10 أيام من صعوده، بينما كان
التلاميذ مجتمعين معاً في العلية –بيت مارمرقس الرسول- حل عليهم الروح القدس كما يخبرنا سفر
أعمال الرسل الاصحاح الثاني من آية 1 إلى آية 4. يومها لم يحل الرب في وسط شعبه فقط، لكنه
سكن فيهم … وفي الكنيسة نتحد بالمسيح إلهنا عندما نأكل جسده، ونشرب دمه المقدس.
إن فكرة حلول الله وسط شعبه وصلت إلى الملء بتجسد المسيح حيث إتحد الله بالناس فإننا هنا لا
نرى المبنى الكنسي كحجارة أو طوب أو أخشاب أو أيقونات إنما نرى الكنيسة جسد المسيح وكل
عضو فيها هو عضو من أعضاء جسد المسيح حيث أننا نتناول من جسده ودمه فنصير مجتمعون
معه كأغصان في كرمة.