رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
للقمص أثناسيوس فهمي جورج
الشهادة في المبنى الكنسي والمذبح في المبنى الكنسي أصبح دعوة للاستشهاد، والتناوُل هو الدُّعامة الروحية لمواجهة تجرُبة الاستشهاد، ومن عصر الاستشهاد المجيد تأتي صلاة تكريس رائِعة، في خدمة ليتورچية سِر المعمودية الخاصة بكنيستنا القبطية أُم الشُهداء، فقبل التغطيس مباشرةً: ”باسم الآب والابن والروح القدس... عبيدك الذين قدَّموا أبنائهم على مذبحك المُقدس الناطِق السمائي رائِحة بخور تدخل إلى عَظَمَتِكَ“. فالوالِدان يُقدِّما أبناءهم ذبيحة للرب، وتُقدَّم كل نفس ذبيحة للمسيح منذ اليوم الأول لولادِتها وعضويتها في الكنيسة، من خلال رَحِم الكنيسة التي هي المعمودية.. فهل نحن نعيش السِّر؟ وهل نعي طقوس كنيستنا ونُدرِك أعماقها المُذهِلة؟ وهل نحن بحق ذبائِح ومذابِح مُقدسة للسيِّد؟ رائِحة بخور تدخل إلى عَظَمَتِهِ.. ويُقدِّم التاريخ الكنسي القبطي المُمارسة العملية لهذه الصلاة، عندما يُحدِّثنا عن الأُم دُولاجي التي قدَّمت أولادها الأربعة ذبائِح حيَّة لله، والشهيدة رِفقة التي استشهدت مع أولادها الخمسة، وكذلك الشهيدة يوليطة التي قدَّمت ابنها كيرياكوس شهيدًا للمسيح، وزكريا الطفل الشهيد الذي من أخميم، الذي أُحرِقَ هو وأبوه وبسببهما آمن كثيرون. ولأنَّ الكنيسة كنيسة شهادة شُيِدَت على دِماء الشُهداء، أي الجماعة الحيَّة، لذلك احتفظ لنا القديس إيرينموس چيروم باسم جميل لمبنى الكنيسة وهو ”مجمع الشُهداء أو Conciliabula Martyrum“، الذي كان يُزيِّن بالزهور وأغصان الشجر في المناسبات الخاصة بتذكارات الشُهداء.. واحتفظ لنا المُؤرِخون المسيحيون في القرن الرابِع بحقيقة هامة وهي إكرام الشُهداء، وكانت الكنيسة الجامِعة في كل مكان تشعُر بجِراح الاضطهاد، ولكنها كانت ترفع رأسها في اعتزاز، فقد خرجت من حمَّام الدم مُعترِفة بالإيمان الرسولي، ولذلك عندما جاء السلام بمشور ميلان سنة 317 م، الذي سمح للمسيحيين بممارسة عبادتِهِم، سارعوا بالبحث عن أماكن استشهاد الرُّسُل والآباء الذين ماتوا تحت التعذيب، وأقاموا عليها كنائِس كانت تُسمَّى Martyrium، وهكذا سجَّل لنا المُؤرِخ الكنسي أڤاميا في مدينة خلقدونية، أنه قد دُفِنَت شهيدة في نفس الكنيسة التي عُقِد فيها مجمع خلقدونية 451 م، بل سجَّل لنا يوسابيوس المُؤرِخ أنَّ كنيسة القيامة التي بناها الإمبراطور قسطنطين الكبير كانت تُسمَّى ”شهادِة المُخلِّص Martyrium Salvatoris“ لأنَّ رأس الكنيسة وعريسها الذي اقتناها له بالدم الكريم، أكمل عمله الخلاصي بالاستشهاد والشهادة. وهكذا اجتهد الإمبراطور قسطنطين بإقامِة عدد من الكنائِس في القسطنطينية جمع فيها ما أمكن الحصول عليه من أجساد الشُهداء. وعن هذه الحقيقة التاريخية يقول القديس أُغسطينوس أسقف هيبو: ”نحن لا نُشيِّد معابِد للشُّهداء كأنهم آلهة، وإنما نحن نُشيِّد أماكِن للتذكار لأنهم وإن كانوا قد ماتوا بالجسد، إلاَّ أنَّ أرواحهم حيَّة في المجد.. كما أننا لا نبني المذابِح في هذه الأماكِن لكي نُقدِّم عليها ذبائِح للشُّهداء لأننا لا نُقدِّم ذبائِح إلاَّ لإلهُّم وإلهنا وربنا ورب الجميع“. ومدح القديس أُغسطينوس أحد كهنته المعروف باسم أراديوس Eradius لأنه بنى كنيسة تذكارًا لشُهداء شمال أفريقيا على نفقته الخاصة. وإذا عُدنا إلى الوثائِق القديمة المُعاصِرة للاضطهاد، لوجدنا أنَّ سبب بُناء هذه الكنائِس إنما يعود إلى اضطهاد دقلديانوس، حيث كانت أغلب اجتماعات الكنائِس تُعقَد في المقابِر وحيث كانت كلمة ”المقابِر“ مُرادِف لاسم الكنيسة. وهذا الارتباط (بين الكنيسة والمقابِر) ارتباط تاريخي فقبل منشور ميلان كان المسيحيون يهربون إلى المقابِر ليُتمِّموا الصلوات والليتورچيات بها هربًا وخوفًا وتقديسًا للأسرار التي قد يعتدي عليها الأُمميون – راجِع القانون 34 من قوانين مجمع Eliberis وهو مجمع مكاني صغير عُقِد أثناء شدة الاضطهاد في عهد دقلديانوس – وهذا هو السبب في وجود تشريعات رومانية قديمة صدرت أثناء اضطهاد دقلديانوس، تمنع عقد اجتماعات في المقابِر وهو ما جاء في المُدونة القانونية الرومانية تحت بند (اجتماعات المقابِر): ”بخصوص اجتماع المسيحيين في المقابِر يمنع بُناء معابِد فوق القبور أو أن تُزيَّن هذه القبور بزينة خاصة، أو أن يحضر أسقف أو من يرأس اجتماع أو أن تُقام صلوات أو طقوس من أي نوع“.. وبسبب هذه العادة القديمة ظهرت الكنائِس في المقابِر في عصر السلام، ومن المعروف أيضًا أنَّ القديس أُغسطينوس كان يعِظ في الكنيسة التي بُنِيَت فوق المكان الذي استشهد فيه القديس كبريانوس، والذي كان يُعرف باسم (قبر أو مزار كبريانوس) وهو الاسم الذي وُرِد في مجموعة عظات القديس أُغسطينوس (راجِع عظة 94، 237 في شرح المزمور 38 والتي أُلقِيَت في Cypriani Mensam مزار كبريانوس). ومن المعروف أيضًا أنَّ هذا المزار ضم أيضًا نفس المذبح الذي كان القديس كبريانوس الشهيد يُصلي عليه، والذي نُقِل إلى مكان استشهاده، ووُضِع في المزار حسب شهادِة القديس أُغسطينوس – (عِظة 113 من مجموعة العِظات المُتفرقة، المُجلد الخامِس عامود 1250 من كتابات أُغسطينوس) – حيث يقول: ”أنَّ أهل قرطاچنة اجتمعوا اليوم هنا في مزار الله حيث قبر الشهيد كبريانوس القرطاچي، في يوم الاحتفال بتذكار استشهاده“. ويذكُر أيضًا القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية: ”أنَّ شعب مدينة كاملة يخرُج كله مُسرِعًا إلى المقابِر حيث كنائِس (قبور) الشُهداء“. ويقول بفصاحتِهِ المعروفة ”أننا لا نُفارِق هذه القبور حتى تُستجاب الصلوات، هنا عند هذه القبور يخلع الملوك تيجانهم لكي يصلُّوا إلى الله طالبين النصر.. وهكذا نال الشُهداء والرُّسُل في موتِهِم كرامة الملوك“، ويقول أيضًا في نفس العِظة أنه في مدينة روما نفسها ”يُسرِع الملوك والأُمراء وكل العُظماء وقُوَّاد الجيش للصلاة في قبر صياد السمك (بطرس) وصانِع الخِيام (بولس)، أمَّا في القسطنطينية فإنَّ العُظماء من الملوك الذين يلبِسون التيجان، كانوا يتمنون أن يُدفنوا بجوار الشُهداء الذين كانوا في حياتهم أحيانًا من الخدم أو العبيد أو صيادي السمك“. وهكذا حوَّل الاضطهاد، القبر إلى كنيسة، وصار مكان الموت والعذاب بُقعة مُقدسة، بل صار اسم القبر مُرادِف للكنيسة والمذبح كما نرى عند سُقراط المُؤرِخ، والقديس البابا أثناسيوس الرسولي، ويبدو أنَّ هذه العادة القديمة بدأت في شمال أفريقيا، لأنَّ أوِّل إشارة لها وردت في كتابات ترتليان (حوالي 195) الذي أشار إلى أن قُنصُل شمال أفريقيا الروماني هو الذي منع المسيحيين من الاجتماع والصلاة في المقابِر، حيث كانت الكنائِس قد بدأت تنتشِر في المكان الذي يُدفن فيه الشُهداء، وفي شرح چيروم لسِفر حزقيال النبي يقول أنه وهو شاب صغير كان يدرس في روما، ويذهب للصلاة يوم الأحد في قبر الرسولين بطرس وبولس. ويربُط القديس أُغسطينوس بين المذبح والذبيحة، وبين جسد المسيح كذبيحة وبين الشُهداء، مُعتبِرًا أنَّ أقدر من يُمثِّل جسد المسيح كذبيحة هم الشُهداء!! لذلك كان المذبح يُسمَّى باسم واحد من الشُهداء، مثل كنيسة أُغسطينوس التي كانت تحتوي على مذبح باسم كبريانوس الأفريقي الشهيد... فالعلاقة والصِلة الروحية بين المسيح له المجد والشُهداء والمذبح هو السيِّد نفسه الذبيحة الباقية إلى الأبد، والذي جمع في نفسه الشُهداء والمُعترفين والقديسين جميعًا، وصار بالنسبة لهم الرأس (أف 1: 22)، الذي تنمو منه كل الأعضاء والتي هي بدورها أعضاء شهيدة تحمِل علامات المسيح وجوهر حياته الغالِبة للموت، هؤلاء جميعًا بسبب المعمودية والافخارستيا يتحوَّلون إلى ذبائِح حيَّة ناطِقة بالشهادة الحَسَنَة أو الموت، لذلك تُقام المذابِح بأسمائِهِم لتشبُّهِهِم بالمسيح المُخلِّص، ويُصبِح القداس إعلان شهادة أو استشهاد نقول فيه ونُردِّد: ”بموتِكَ يارب نُبشِر وبقيامتكَ المُقدسة...“. قبل استدعاء الروح القدس، تضع الكنيسة خِتم الاستشهاد أي الإيمان الصحيح على كل واحد فيها لكي يأتي الروح القدس ويُنير بقوَّتِهِ الإلهية معالِم هذا الخِتم بالذبيحة السماوية أي ذبيحة الشُّكر فيرى كل مُؤمِن كيف صار الحال الذي هو فيه، وكيف أنه مدعو للشهادة والتبشير بموت المسيح والاعتراف بقيامتِهِ وصعوده إلى السموات.. عندئذٍ نتحِد نحن كذبائِح بالذبيحة السماوية من خلال المعمودية والميرون والافخارستيا.. وهذا العالم السرائِري الكنسي (الاستشهاد) ليس لأحد عُذر التهرُّب منه (كما جاء بالدسقولية) لأنه ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية.. وكل المدعوين للمذبح مدعوين ليكونوا ذبائِح، لأنهم ليسوا من هذا العالم بل هم مُواطِنون سمائيون (مواطنيتهم في السماء)، وهم أعضاء إسرائيل الجديد المفدي، مُتحدين بالذبيحة الإلهية خلال المعمودية والافخارستيا.. |
|