أَجابَ يسوع: ((لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم. لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم لَدافعَ عَنِّي حَرَسي لِكي لا أُسلَمَ اليَهود. ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا)).
تشير عبارة" لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم" إلى طبيعة مملكة يسوع الحقيقية، أنها ليست من هذا العالم، ولا تتبع معايير هذا العالم. ولا تأتي من الإنسان ولا هي قائمة بفعل قوة أرضية سياسية، ولا تعتمد على جيوش ولا تقاوم قيصر لكنها مملكة روحية مؤسَّسة على الحق، سلاحها كلام الله، وشريعتها إرادة الله وغايتها مجده تعالى وخلاص النفوس وسعادتهم الأبدية. ويؤكد يسوع أمام بيلاطس بأنه لا يجب الخلط ما بين ملكه وأي سلطة سياسية. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إني بالحقيقة ملك، ولكن ليس كما يتوقع شخص مثلك (بيلاطس)، بل أسمى من ذلك بكثير جدًا، مشيرًا بهذه الكلمات وتلك التي تليها أنه لم يفعل شرًا ". وتنبأ أشعيا النبي ليست مملكة يسوع كممالك العالم حيث “صارَ الحَقُّ مَفْقوداً والمُعرِضُ عنِ الشَّرِّ مَسْلوباً" (أشعيا 59: 15). إنها مملكة لا يقوى البشر على تدميرها، مثلما لا يقوون على بُنيانها، ولذلك مملكته تختلف اختلافا شديداً عن المملكة التي تعود أهدافها ووسائلها إلى هذا العالم، فإن مملكة يسوع لا تحتاج إلى القوة والعمل السياسي. ولم يُفصح يسوع إلاَّ عن مصدر مملكته، إنه نالها من الله كما جاء إعلانه في الهيكل في اورشليم: "أَنتُم مِن أَسفَل، وأَنا مِن عَلُ. أَنتُم مِن هذا العالَم وأَنا لَسْتُ مِنَ العالَمِ هذا"(يوحنا 8:23). وتتكرر لفظة "ملك" في هذا النص سبع مرات (رقم الكمال) في محاكمته أمام بيلاطس دلالة على كمال المُلك في مملكة المسيح. أمَّا عبارة "لَو كانَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم" فتشير إلى مُلك ارضي كما يفهمه العالم بحيث يتزعَّم المسيح حركة تحرير قومي ويقيم سلطان شعب إسرائيل. والمسيح بحسب التوراة سيكون ملكًا من نسل داود، ولكن ليس ملكًا أرضيًا بل يملك على قلوب البشر (لوقا 16: 21) والأرواح والضمائر (رؤيا 14: 17). ولكن بمفهوم اليهود المسيح هو ملك سياسي، هذا مرفوض من قبل المسيح وبيلاطس أيضًا. أمَّا عبارة "لَدافعَ عَنِّي حَرَسي" في الأصل اليوناني οἱ ὑπηρέται οἱ ἐμοὶ ἠγωνίζοντο [ἄν (معناها خدامي يجاهدون عني ضد أعدائي) فتشير إلى أتباع المملكة الأرضية الذين يحاربون عنها وعن ملكها، أما المسيح لم يأذن لاحد من أتباعه أن يحامي عنه، بل سلَّم نفسه بلا معارضة إلى من قبضوا عليه لدى اعتقاله في الجسمانية إذ قال لبطرس "أَغمِدِ السَّيف. أَفَلا أَشرَبُ الكَأسَ الَّتي ناوَلَني أَبي إِيَّاها " (يوحنا 18: 10-11). ووصف يسوع أتباعه الذين يؤمنون به بقوله "أَنَّهُم لَيسوا مِنَ العالَم كما أَنِّي لَستُ مِنَ العالَم لا أَسأَلُكَ أَن تُخرِجَهُم مِنَ العالَم بل أَن تَحفَظَهم مِنَ الشِّرِّير" (يوحنا 17: 14-15). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " أظهر هنا ضعف المملكة الأرضية التي بيننا، إذ تعتمد قوتها على الخدام، أما المملكة التي من فوق ففيها الكفاية ولا تحتاج إلى شيء". نرى أن يسوع حتى وهو في المحاكمة يُبشِّر بمملكة الحق وبملكوت الله. المسيح بهذا يُثبت فكرة ملكه ولكن بمفهوم غير ما يفهمه اليهود والعالم. أمَّا عبارة "ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا "في الأصل اليوناني"νῦν δὲ ἡβασιλεία ἡ ἐμὴ οὐκ ἔστιν ἐντεῦθεν (معناها الآن ولكِنَّ مَملَكَتي لَيسَت مِن ههُنا) فتشير إلى أن مُلك يسوع ليس دنيويا، قائما على القوة والعنف، بل هو روحي قائمٌ على قوة الحق. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "أراد يسوع أن يظهر إلى بيلاطس أنه ليس إنسانًا مجردًا بل الله، ابن الله" ويحقق ملكه ليس من خلال العنف بل من خلال شهادته بالحق (يوحنا 18: 37). ملك يسوع ليس حق القوة بل قوة الحق. وبهذا شرح يسوع لبيلاطس أن مملكته سماوية وأنه لا ينافس قيصر ولكن اليهود لم يفهموه، لان كان كل فكرهم أرضى، لذلك لا يقبلون موضوع الملكوت السماوي. أمَّا عبارة "الآن" فتدل على السبب كما قال صاحب الرسالة إلى العبرانيين أنه ليس الكل قد خضع له الآن "أَخضَعتَ كُلَّ شَيءٍ: تَحتَ قَدَمَيه. فإذا أَخضَعَ لَه كُلَّ شَيء، فإِنَّه لم يَدَعْ شَيئًا غَيرَ خاضِعٍ لَه. على أَنَّنا لا نَرى الآنَ كُلَّ شَيءٍ مُخضَعًا لَه" (عبرانيين 2: 8). المسيح يملك الآن على قلوب من يؤمنوا به ويُحبُّونه ويُملَّكوه على قلوبهم. ولكنه في الدينونة سيملك على الكل، إمَّا بالحب على من أحبوه، أو بهزيمة الباقين من أعدائه وجعلهم عند موطئ قدميه. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " ثُمَّ يَكونُ المُنتَهى حِينَ يُسَلِّمُ المُلْكَ اللهِ الآب بَعدَ أَن يَكونَ قد أَبادَ كُلَّ رِئاسةٍ وسُلطانٍ وقُوَّة. فلا بُدَّ لَه أَن يَملِكَ حتَّى يَجعَلَ جَميعَ أَعدائِه تَحتَ قَدَمَيه. وآخِرُ عَدُوٍّ يُبيدُه هو المَوت " (1 قورنتس 15: 24-26). كانت إجابة السيد المسيح لبيلاطس هي أنه هو ليس ملكًا حسب فكر اليهود، أي ملك سياسي كسائر ملوك الأمم، أو ملك يحرِّر شعبه بالثورة ضد روما بل هو ملك السماوي لا يحتاج إلى جيشٍ يدافع عنه ويُثبت سلطانه.