مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
العبث بالعقول
إنّ ما يموج به الشرق اليوم من غليان، هو نتاج تفكير مبتور، مزدوج المعايير، سابق التوجُّه، يتحكّم فيه الموروث النقلي الشعبوي والديني أكثر من ارتباطه الموضوعي، بالعقل الواعي والتحليل المنطقي، الذي ينظر إلى الإشكاليّات الحالية ككلٍّ.
إنّ الخطر الحقيقي الذي يواجه مجتمعاتنا الشرقية في هذا الزمن هو انطماس الملامح الشخصيّة للفرد، والتبعيّة العمياء لآخرين يحتكرون لأنفسهم حقّ الفهم والتقرير وقيادة الآخرين، الذي تركوا عقولهم وقلوبهم في أيدي هؤلاء ليعبثوا بها ويعيدوا صياغة العقل البشري كي لا يستوعب إلاّ تراث وثقافة وفكر أحادي البُعد، كما أصبحت جهالة الفرد بمثابة الضمان لسطوة تلك الفئة التي تتربّح من إثارة الضغينة في القلب البشري، وأصبحوا بمثابة عقل مُفكِّر لجمهور مُغيّب ينحصر دوره في الصراخ والهدم والتكفير!!!
إنّنا في هذه الحقبة نعاني بشدّة من تحويل الديانة التي تهدف إلى الارتقاء بالإنسانيّة، إلى أقنعة سياسيّة، أي جعل الدين واجهة شرعيّة لخلفيات ومطامع سياسيّة وسلطويّة تخدم مَنْ ينسجون من العقيدة والدين ثوب فضفاض يصلح لأغراض مُتعدِّدة (حسب الطلب)، وقد يكون ذلك لتوغُّل الوازع الديني في كيان الإنسان الشرقي ممّا يجعل من النُصرة للدين قضية وجود، حتى وإن كان الثائر من أجل الحقّ لم يعرف طريق الله، إلاّ أنه يستشعر أن عليه أن يحامي عن إلهه!! ضدّ أي خطر ينتقص من سموه وتعاليه، وكأنّ في ذلك تعويض عن إقامة علاقة شخصيّة واعية مع الله، وبالتالي يصبح الانتصار لله على أشلاء الآخرين هو المُسكِّن الذي يلجأ إليه الإنسان عندما يثور الضمير ويصرخ من كثافة الظلمة التي يختزنها القلب.
ولعل أول طرق الإصلاح الديني ومن ثمّ السياسي، في بلدنا، هو تنمية القدرة الشخصيّة على التفكير واتخاذ القرار بهدوءٍ وتروٍ، بعيدًا عن انفعالات الخطباء، واستثارة العاطفة الدينيّة المُرهفة بحسب التكوين، فيصبح الموقف الذي يتّخذه الفرد موقف شخصي يتحمّل مسؤوليّته وتبعاته، ويتحوّل الإنسان إلى قوّة دفع للمجتمع نحو الصدق والرقي والتقدُّم، بدلاً من كونه أداة صمّاء في أيدي آخرين، يُفجّرونها في المجتمع وقتما شاءوا ليرهبوا بها عدو الله، وليقضوا على كل بادرة أمل خضراء تحاول شق الصخور لترى نور الحياة في مصرنا الحبيبة.