التسامح الأخويّ
آ15. إن أخطأ إليك أخوك. أي إن أهانك أو أذاك، إذ يفهم بالأخ كلُّ مسيحيّ، وذلك يبان من قوله: فقلْ للبيعة. وكذا الحكم على كلِّ إثم خفيّ سواء، كان مضرًّا بك أو بغيرك، فلا تفكِّر بالانتقام منه حالاً ولا تشهِّر*** إثمه سريعًا، بل امضِ عاتبه أوَّلاً، بينَكَ وبينَه وحدَكما، أي سرًّا وعلى سبيل الصداقة. فإنْ سمعَ منك فقد ربحتَ أخاك. وهذا النوع يسمّى النصح الأخويّ، والأحقّ أنَّه وصيَّة لا مشورة، ويعمُّ الجميع رؤساء ومرؤوسين، خلافًا لمن زعموا أنَّه يخصُّ الرؤساء فقط. ويلزم أن يكون بمحبَّة وفطنة. وهو ضروريّ جدًّا حتّى اعتاد أحد الآباء القدّيسين أن يقول: إنَّ أكثر هلاك الناس من إهمال النصح الأخويّ ومخالفة الوصيَّة الناهية عن الزنا. وله شروط وحوادث لا يلزم فيها، خاصَّة عند خيبوبة الأمل من الإصلاح، وتفصيلُ ذلك يُطلب في كتب اللاهوت الأدبيّ.
آ16. وإن لم يسمعْ منكَ فخُذْ معك واحدًا أو اثنين. إمّا على التعاقب، كما قال مار إيرونيموس*، أي تارة واحدًا وتارة الآخر، وإمّا جملة وهو الحقّ. وليكن هذان ممَّن يرغبون في إكرام الله وخلاص القريب وفيهم الأهليَّة للشهادة، إن لم يسمع منك. لأنَّه على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كلُّ كلمة. وعلى هذا النحو يكون النصح أكثر اعتبارًا، وإذا بقي الأثيم مصرًّا، فيكون الشهود معَدِّين للشهادة عليه.
آ17. وإنْ لم يسمعْ من هؤلاء أيضًا فقُلْ للبيعة. ولا يُفهم هنا باسم البيعة جماعة المؤمنين، كما زعم القدّيسان إيرونيموس* وأنسلموس*، لأنَّ إشهار الذنب للشعب مضرَّته أكثر من فائدته. وكيف يسمع الخاطئ للشعب أو كيف يطيعه؟ فالصحيح إذًا أنَّه يُفهم باسم البيعة أي الكنيسة، رئيس الكنيسة التي المذنب عضوٌ لها. فالرئيس بمثابة الكنيسة، كما أنَّ الحكّام بمثابة الجمهور. كذا فسَّر فم الذهب* وتاوافيلكتوس* وأوتيميوس*، بل كلفينيوس* نفسه أيضًا. وكذا درج الاستعمال. واعلم أنَّ الكلام هنا ليس في نصح من كان عثرة ظاهرة للآخرين كالأراتيكيّ، أو كان مفضوح السمعة، فلا فائدة بالحرص على سمعته، لأنَّ هؤلاء يلزم توبيخهم جهرة ودون إبطاء. ولا في النصح الأبويّ والشرعيّ، نظرًا إلى العقوبة وإصلاح الضرر الملحق بالجمهور، وإن ارتأى ذلك بانورميتانوس* ويوحنّا أندريا* وغيرهم. بل الكلام في النصح الأخويّ والخصوصيّ الموجَّه إلى إصلاح سيرة القريب، والملزم الجميع ما لاح أمل بالاصطلاح، كذا علَّم مار توما* وغيره من الجدليّين، وهذا من ناموس الطبيعة وتطلبه محبَّة القريب. على أنَّه في بعض الرهبنات، يُؤمر بإشهار خطيئة الأخ للرئيس حالاً دون هذا النظام، فذلك لأنَّ الرئيس في تلك الرهبنات يُعتبر كشخص الناصح نفسه وكأب لكليهما، ويصلح المذنب بما أنَّه أب، لا بما أنَّه قاضٍ. وهذا يكون أكثر قبولاً لدى المذنب عن صيته، لمعرفته بأنَّ هذه الرهبانيَّة مدرسة الكمال والاتِّضاع، وتحفظ هذه القوانين التي يُلزم نفسه بحفظها طوعًا. وإنْ لم يسمعْ للبيعة فليكُنْ عندَك كوثنيٍّ وعشّار. أي يُقطع من جماعة المؤمنين ويُنفى ولا يُعتبر فيما بعد بمنزلة أخ، بل بمنزلة عضو ماؤوف معدٍ وقد قطع، حتّى لا يجوز أن تحيِّيه بالسلام، كما قال يوحنّا في رسالته الثانية (آ2). ولفظة "سمع" في هذه الآيات هي بمعنى طاع ورضخ، كما هو بيِّن. وهذا الحكم بالحرم المبرز يكون صحيحًا في السماء أيضًا، كما أردف قوله بقوله.
آ18. الحقَّ أقول لكم مهما تربطوه في الأرض. يوجِّه كلامه إلى الرسل وكأنَّه يقول: مهما تربطوه أنتم وخلفاؤكم رؤساء الكنيسة، سواء كان في محكمة الذمَّة لغفران الخطايا، أو في المحكمة الخارجيَّة كالحرم المذكور أعلاه، يكُنْ مربوطًا في السماء. فمن تربطوه أو تطردوه من الكنيسة أطرده من الخدر السماويّ أيضًا إلى الظلمة البرّانيَّة. ولذا، بكلِّ صواب، قد أثبت اللاهوتيّون من هذه الآيات وجود السلطة في الكنيسة على إطلاق الحرم ومسك الخطايا في منبر الذمَّة، وبالتالي سرّ التوبة والاعتراف أيضًا، لأن كيف يكون عادمًا السلطة من نلتزم بالشكاية له، ومن إذا لم يسمع له المذنب، فيلزم أن نعتبره كوثنيّ وعشّار ولا نحيِّيه بالسلام ولا نؤاكله خبزًا، كما يقول الرسول؟ ومهما تحلُّوه في الأرض يكُنْ محلولاً في السماء، إن كان حرمًا أو إثمًا كما تقدَّم. وخاصَّة لأنَّ الحلَّ والربط هنا لا يلاحظان الناصح والمنتصح فقط، بل هو عامّ أيضًا بموجب تفسير الآباء القدّيسين. هذا فضلاً عن باقي النتائج التي ينتجها اللاهوتيّون الاعتقاديّون من هذه الآيات الكريمة. ومن رام الاطّلاع عليها فليطالع تآليفهم في كلامهم على الكنيسة ورأسها. ومن هذه النتائج أنَّ الكنيسة منظورة، لأنَّه كيف يشكي وكيف يسمع المذنب للغير المنظور. نسأل كيف تنتج رئاسة بطرس على باقي الرسل أيضًا من سلطان الحلِّ والربط الذي مُنح لبطرس كما في ف 6، مع أنَّ هذا السلطان قد مُنح هنا لجميع الرسل أيضًا. أجيب أنَّ رئاسة بطرس على الكنيسة كلِّها وعلى الرسل أيضًا لا تنتج من قوله: مهما تربطه إلخ فقط، بل من قوله أيضًا: أنت هو الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي ولك أعطي مفاتيح ملكوت السماء. وكلُّ ذلك لم يُقَل للرسل هنا. ولذا كان السلطان الذي أُعطيَه بطرس أسمى من السلطان الذي أُعطُوه. حتّى أعطى بطرس السلطان على ربط باقي الرسل أيضًا، بما أنَّه راعي الكنيسة كلِّها ورأسها، وأمّا الرسل فلم يُعطَوا سلطة على بعضهم ولا على بطرس قطعًا.
آ19. أقول لكم أيضًا إذا اتَّفق اثنان منكم على الأرض في كلِّ أمر يطلبانه يكون لهما من لدن أبي الذي في السماء. الصحيح أنَّ هذا الكلام موجَّه إلى كلِّ من المؤمنين، الذين كان الرسل حينئذٍ يقومون مقامهم، لحضورهم وحدهم لدى المسيح. والأصح كما فسَّر إيلاريوس* وإيرونيموس* وفم الذهب* وغيرهم، أنَّ كلامه هذا معلَّق بالاتِّفاق الذي ذكرته آ15، حيث فرض لأجله وصيَّة النصح الأخويّ، كأنَّه يقول: إنَّما رَسمتُ أنَّه إذا أخطأ إليك أخوك لا تنتقم منه، بل عاتبه بمحبَّة حبًّا بالاتِّفاق الذي يرضي الله جدًّا، حتّى إذا اتَّفق اثنان منكم على طلب أمر مهما كان عظيمًا، فيمنحه الله لهما، بحيث يكون ذلك الأمر مرضيًّا لله، ومفيدًا لنا حقيقة، ومطلوبًا بنيَّة صالحة، وكما علَّمنا أن نطلب، فنناله من الله إمّا بذاته وإمّا بما يساويه أو يفوقه.
آ20. وحيثما يجتمعُ اثنان أو ثلاثة باسمي. أي بسلطان منّي ولأجلي وبسبب إيماني ومجدي، كذا فسَّر فم الذهب* وأوتيميوس*، أكُنْ أنا بينهم، فاعلاً بهم من داخل، ومساعدًا لهم ومدبِّرًا إيّاهم، ليحصلوا دون ضلال ما اجتعموا لأجله. فمن يمكنه إذًا أن يرتاب بأنَّ شهادة مجمع كامل وشرعيّ تكون معصومة من الضلال، إذ يجتمع لا اثنان فقط، بل آباء كثيرون خاصَّة في المجامع التيبليَّة أي العامَّة التي تشخص*** الكنيسة كلَّها، ومتى وُجدت فيها الشروط المطلوبة لها لتكون كذلك، فتكون شهادتها معصومة من الضلال في ما يختصُّ بالإيمان والآداب، وهذا من الإيمان، وتثبِّته هذه الآية بالبرهان ممّا سفل إلى ما علا وغيرها من الآيات. وهذا يختصُّ بالمجامع العامَّة ويمتدُّ إلى المجامع الخاصَّة متى عُقدت بحسب المرسوم وثبَّتها الحبر الأعظم.
آ21. حينئذٍ تقدَّم إليه الصفا وقال له: يا سيِّد كم مرَّة أغفر لأخي إذا أخطأ إليَّ هل إلى سبع مرّات؟ قد سأل بطرس هذا السؤال لسماعه قول المسيح آنفًا: إذا أخطأ إليك أخوك امضِ عاتبه. أو بالأحرى لسماعه من المسيح ما رواه لوقا (17: 4) وهو: وإن أخطأ إليك في اليوم سبع مرّات ورجع إليك قائلاً: أنا تائب فاغفر له. فبطرس لم يفهم هل المراد سبع مرّات بالحصر، أو المراد أن يغفر الإنسان لأخيه كلَّما أخطأ إليه دون حصر على سبع مرّات، فيسأل المسيح تفسير المراد بسبع مرّات. أو قال ذلك متعجِّبًا كأنَّه يقول: هل أغفر له سبع مرّات في النهار؟ فالتساهل بالمغفرة يُفضي إلى تواتر الخطيئة.
آ22. فقال له يسوع: لا أقولُ لك إلى سبعِ مرّات بل إلى سبعين مرَّة سبعَ مرّات. ومجموع ذلك أربعمئة وتسعون مرَّة، ويراد بذلك مرّات غير محدودة. فهو من باب استعمال العدد المحدود عوضًا عن الغير المحدود. والمعنى: اغفر له كلَّما أخطأ إليك إذا ندم عن فعله وتاب إليك مصطلحًا كما روى لوقا. على أنَّ هذا الغفران للذنب لا يمنع من طلب العقوبة العادلة، خاصَّة للاحتراس من تواتر شرِّ المذنب.