رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البابا شنوده الثالث
القديس أنطونيوس أعطى أم أخذ؟ لا شك أن القديس أنطونيوس قد أعطى الرب كل شيء: إنه حسب الوصية: "مضى وباع كل ما له وأعطاه للفقراء".. أعطى الرب ثلثمائة فدان من أجود أطيان بنى سو يف. وأعطى الرب أيضا ما كان ينتظر من مركز وجاه كوريث لوالده. وأيضا زهد فكرة الزواج وما كان يمكن أن ينجبه من أولاد. وكذلك زهد كل ما في الدنيا من علم ومعرفة ومتع وصلة بالناس.. ومع كل ذلك يلح علينا السؤال: هل هذا القديس قد أعطى أم أخذ؟ أم أعطى فأخذ..؟ وننتقل من هذا السؤال إلى سؤال آخر يتبعه: هل الرهبنة عطاء أم أخذ؟ أم هي عطاء يتحول إلى أخذ؟ أو عطاء يكافأ بأخذ؟ الأخذ فيها أكثر من العطاء؟ * هذا القديس أعطى الله قطعة أرض (300 فدان). ولكن الله أعطى الأرض كلها، والسماء أيضًا.. فأصبح له في كل بلد من البلاد أديرة، وكنائس، وأماكن مقدسة. وأصبحت له كل البرية أيضًا، وكل الأديرة التي على أسماء قديسين آخرين، لأنه أبو الرهبنة في العالم كله. فهل أعطى أم أخذ؟ إنني حينما أرى الأراضي والأملاك الموقوفة على دير الأنبا أنطونيوس في مصر وحدها. أرى أنها أكثر مما تركه القديس الأنبا أنطونيوس في قمن العروس..! بالإضافة إلى أرض الأحياء.. وانظروا إن كلمة ربنا يسوع المسيح لم تسقط أبدا، حينما قال: "مَنْ ترك أبًا أو أمًا.. أو أخوة أو أخوات، أو زوجة، أو مقتنيات من أجلي، يأخذ مائة ضعف في هذا العالم، وملكوت السموات" (مر 10: 29). لعل البعض حينما أعطى القديس أنطونيوس أرضه للرب، قالوا عنه: مسكين، ضيع نفسه وأرضه وثروته ومستقبله..! بينما يرد الرب عليهم قائلا: من أضاع نفسه من أجلى يجدها" (مت 16: 25). ويقول الكتاب للأنبا أنطونيوس: "مناك ربح عشرة أمناء" (لو 19: 16). * ماذا ترك القديس أيضا غير الأرض؟ هل ترك أولادًا؟! لنفرض أن الشاب أنطونيوس، بدلا من الرهبنة تزوج وأنجب، كم من أبناء كان سينجب؟ خمسة؟ عشرة؟ عشرين؟.. هودا له الآن آلاف من أبنائه الرهبان في كل جيل، يصل عددهم إلى ملايين منذ بدأ الحياة الرهبانية في أواخر القرن الثالث حتى الآن.. يضاف إلى ذلك ملايين من أبنائه الروحيين مثلكم، من غير الرهبان.. حقًا أن السيد المسيح حينما قال أن يعوض: "مائة ضعفًا" كان منكرا لذاته في كرمه، لأنه أعطى بآلاف الأضعاف.. بل قد جعل الله هذا القديس يتخطى حدود المكان والزمان: هذا الذي ترك بلده، وتوحد في الجبل لأجل الله، تاركا العالم لأجله، أصبح العالم كله يتحدث عنه. اسمه وصل إلى أقطار المسكونة كلها. لا توجد قارة من قارات العالم الست، لا تعرف الأنبا أنطونيوس! اسمه تخطى حدود قريته، بل حدود مصر، بل حدود أفريقيا، حتى في أيامه.. وأصبح له أولاد وأديرة وكنائس في كل موضع. وأصبحت له أماكن مقدسة لا تعد. حقا، هل أعطى أم أخذ؟! * وماذا أعطى القديس الأنبا أنطونيوس أيضا للرب؟ هل أعطاه عمرا؟ هو ذا الله جعل حياة الأنبا أنطونيوس تتخطى الزمان! كثيرون تنتهي حياتهم في الأرض بوفاتهم، وينساهم جيلهم بعد حين، وتناسهم الأجيال. هو ذا قد مرَّ أكثر من 16 قرنًا على نياحة الأنبا أنطونيوس، وما زال حيا بيننا حتى الآن، حيا في مبادئه، وفي تعاليمه، وفي أولاده، وفي النهج الذي أختطه، وفي ذاكراه... إنه من الأسماء الخالدة التي لا تنسى. إنه روح كبيرة، أكبر من الموت. لم يستطع الموت أن ينهى رسالتها. فلم تقتصر حياته على جيله، بل تختطه عبر الأجيال، ولا تزال بيننا. إنه صاحب حياة بدأت ولم تنته.. عند رهبنة كل راهب، يصلون عليه صلاة الأموات(أعنى المنتقلين). على اعتبار أنه مات عن العالم. ولكن قديسنا هذا بموته عن العالم، دخل في الحياة التي لا تنتهي، وما زال بها حيا بيننا. أتراه أعطى الله حياة كرسها له، أم أخذ حياة لا تنتهي؟! * هل لأجل الله أيضًا ترك جاهًا وسلطانًا وعظمة وشهرة؟ إذ كان أبوه بالجسد ذا جاه وعظمة يورثها لأبنه.. هناك وأتخيل لو بقى القديس أنطونيوس في مكان أبيه، آي مستقبل كان ينتظره؟ أتراه كان سيصير عمدة البلدة قمن العروس؟ أو أعظم رجل في المركز أو في محافظة بنى سو يف، مدى حياته، ثم ينساه الناس، كما نسوا أسم أبيه على الرغم مما كان له من عظمة وجاه وغنى..! هوذا الأنبا أنطونيوس في جيله، يرسل إليه الإمبراطور قسطنطين يطلب بركته، ويأتيه الفلاسفة والنبلاء من كل مكان يطلبون حكمته. وينال شهرة لم ينلها أحد. وتسميه الكنيسة: "العظيم الأنبا أنطونيوس". أتراه حقًا في هذه النقطة، أعطى أم أخذ؟! * ماذا ترك أيضًا لأجل الله؟ أتراه ترك الكهنوت؟ فلم نسمع أنه نال من درجات الكهنوت أو رئاسة الكهنوت.. ولكن هوذا أولاده صاروا بطاركة وأساقفة. بل أن البابا البطريرك في أيامه (القديس أثناسيوس الرسولي) كان أحد أولاده الروحيين. وجميع بطاركة العالم يسجدون في مواضعه المقدسة ويطلبون بركاته.. وكل رتب الكهنوت، مهما علت، تطلب في القداس الإلهي صلوات الأنبا أنطونيوس، وتتشفع به الكل يعتبرون أنفسهم أولاده.. صدقوني، لو أكتشف قطعة قماش صغيرة، ثبت أنها من ثوب للأنبا أنطونيوس لتنافس عليها كل بطاركة العالم وكهنته ورهبانه. ترك الأنبا أنطونيوس الكهنوت ورئاسته. فصار كل رجال الكهنوت من أولاده. أتراه في ذلك أعطى أم أخذ؟! حقًا أن الله يعطى أكثر مما يأخذ، بما لا يُقاس: يأخذ حبة قمح، ليعطيك سنابل مملوءة قمحًا. يأخذ نواة بلح، ليعطيك نخلة، تحمل آلافًا من ثِمار البلح. وللأسف، البعض يحجمون عن العطاء. تطلب الكنيسة من أم أن تعطى أبنها للرهبنة أو الكهنوت، فتبكى وتمرض كأن كارثة ستحدث! تعجبني جدًا في الأمهات، القديسة حنة أم صموئيل النبي. لم تنجب أبناء. ولما وهبها الرب صموئيل، أعطته للرب وكان وحيدها! فأعطاها الرب أولادا آخرين كثيرين، لعلكم لا تذكرون أسماءهم (1صم 1: 22)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. أما الابن الذي أعطته للرب فهو الوحيد الذي خلد أسمه، وعرفت هي به أنها "أم صموئيل". أعط أذن للرب، وسيرد لك أضعافًا، دون أن تطلب أو تنتظر. الأنبا أنطونيوس أعطى حياته للرب، وليس فقط أملاكه. فماذا حدث؟ أعطاه الرب بدلًا من هذه الحياة الأرضية، حياة روحية خصبة. حياة أبدية مثمرة في ملكوته، أعطاه أيضًا حياة أبنائه.. بل أن الأنبا أنطونيوس ذاته، تَحَوَّل إلى رمز.. أصبح ليس مجرد شخص، وإنما صار رمزًا، رمزًا لحياة الوحدة والصلاة والتأمل والزهد والنسك، رمزا لحياة الرهبنة بكل ما فيها من فضائل وروحانيات. وكما قيل في إحدى القصائد: أنت رمزٌ لحياة طُهِّرَت اشتهَى الخالقُ يَوُمًا أن تَكُون أصبح رمزًا لحياة الهدوء والسكون، رمزًا للحياة التي تتخلى من الكل لكي ترتبط بالواحد، الحياة السامية المقدسة التي لا تنشغل بتفاهات العالم وكل متعه، لأنها تفرغت لله وحده... أعطى راحته وهدوءه، وتعرض لحروب الشياطين وإيذائهم.. بالتخويف، بالضرب، بالتشكيك، في صورة وحوش، في صورة نساء، بأصوات مرعبة، في وحدة بلا أنيس...! ولكن الله أعطاه الاحتمال، والقوة، والانتصار، وعدم الخوف، وأعطاه سلاما داخليا عجيبا، وأعطاه مهابة روحية، بحيث صارت الشياطين هي التي تخافه وترتعب من قوته الروحية، صارت له موهبة إخراج الشياطين. أتراه في كل ذلك أعطى أم أخذ؟! |
|