رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
اعتزاله العالم: تألم أنطونيوس جداً على وفاة والده، ووقف يتأمله وهو جثة هامدة باردة ويقول: أليست هذه الجثة كاملة ولم يتغير منها شيء البتة سوى توقف هذا النفس الضعيف!؟.. وخاطب أنطونيوس أباه الميت قائلاً: «أين هي عزيمتك، وأمرك، وسطوتك العظيمة، وهمتك العالية بجمع المال الكثير!؟ إنني أرى أن ذلك قد بطل، وقد تركت كل شيء ورحلت.. فيا لهذه الخسارة الفادحة، والحسرة الجسيمة! فإن كنت أنت يا أبتاه قد تركت هذا العالم مجبراً، أما أنا فسأعتزله طائعاً، كيلا يخرجوني منه مثلك يا أبي كارهاً»[6]. بدأ أنطونيوس الشاب التقي يكثر من التأمل بحقارة هذا العالم وبأمجاد السماء. وحدث مرة بينما كان يصلي في الكنيسة، والكاهن يتلو الإنجيل المقدس، جذب انتباهه قول الرب للشاب الغني: «إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني» (مت19: 21). واعتبر أنطونيوس كلام الرب يسوع موجهاً إليه. وأن الرب بهذا الكلام يدعوه ليترك كل شيء ويتبعه كما فعل الرسل الأطهار (مت19: 27ـ 29) فللحال خرج أنطونيوس من الكنيسة، وعاد إلى بيته مصمماً على أن ينفذ الوصية بحذافيرها، فوزع على الفقراء ما ورثه من والديه من مال وعقار، ومن جملة ذلك ثلاثمائة فدان من الأراضي الممتازة، واحتفظ لأخته بيسير من المال فقط. وقد ازداد إيماناً واندفاعاً عندما سمع الرب يقول أيضاً في الإنجيل المقدس: «فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل، وماذا نشرب، وماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم، لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها، لكن أطلبوا أولاً ملكوت اللّـه وبره، وهذه كلها تزاد لكم، فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه، يكفي اليوم شره» (مت6: 31ـ 34). لما سمع الشاب أنطونيوس هذا الكلام وزع البقية الباقية من الإرث على المحتاجين، وأودع أخته بيتاً لبعض العذارى التقيات، واعتزل العالم، وانفرد متنسكاً في مكان قريب لبلدته، إذ لم يكن نظام الرهبنة قد ظهر بعد[7] وبدأ يسترشد ببعض المتوحدين، فقد كان في القرية المجاورة واحد منهم طاعن في السن وقد اعتزل الناس منذ نعومة أظفاره ـ والعزلة عبادة ـ فكان يتعبّد مكثراً من الصوم والصلاة، فقصده أنطونيوس وسمع منه عن حياة الزهد، والنسك، والتوحد، واقتدى بسيرته الفاضلة، كما قصد أنطونيوس غيره من المتوحدين الذين سبقوه في طريقة النسك هذه، وأخذ عنهم ذلك وأفاد من خبرتهم لبلوغ الكمال المسيحي، وشابه بذلك النحلة التي تنتقل من زهرة إلى أخرى ترتشف الرحيق لتعطي الشهد الفاخر. وخرج أنطونيوس بعدئذ هائماً على وجهه في البرية حتى وصل إلى شاطئ النهر فسكن إلى جانب جميزة، وصادف أن شاهد مرة نسوة يستحممن في النهر أمامه، فلامهن قائلاً: أما تخجلن مني وأنا رجل متوحد أعبد اللّـه في هذا المكان!؟ فأجابته إحداهن: على المتعبدين المتوحدين أن يعبدوا اللّـه في البرية الداخلية لا على ضفاف الأنهار، فاعتبر أنطونيوس هذا الكلام رسالة له من اللـه، فترك المكان حالاً وسكن في البرية الداخلية حيث أقام له صومعة قرب وادي العربة. |
|