يطلب أعمال التوبة لا الإعجاب
احتشدت الجماهير حول منبره وأعجب الكثيرون به، أما هو فكان واعيًا في كرازته، يعرف كيف لا تخدعه الذات، فيلهيه إعجاب الكثيرين بشخصه أو بلاغته أو فصاحة لسانه عن حقيقة رسالته فكان إذا ما انطلق الحاضرون بالتصفيق ينتهرهم، طالبًا أعمال التوبة لا تصفيقاتهم:
* أنا لست في حاجة إلى مديح أو تصفيق أو صخب أو ضجيج! إني أطلب شيئًا واحدًا، ليتكم تصغون إليه في هدوء وتعقل: افعلوا ما أقوله!
هذا هو مديحكم لي، هذا هو ثناؤكم علي...
نحن لسنا هنا في مسارح للتمثيل، ولا ترون أمامكم ممثلين تصفقون لهم. هنا مدرسة روحية، نظهر فيها طاعتنا بأعمالنا.
* تصفقون لي بحماسٍ شديدٍ، وتهللون... لكنني أتوسل إليكم أن تكونوا رجالًا، فإن كنا لا نزال أطفالًا، كيف نعلم (الوثنيين) الرجولة؟! كيف ننزع عنهم جهالة الطفولة؟!
لنكن رجالًا، ونبلغ حد القامة التي وضعها لنا السيد المسيح فنحصل على الخيرات العتيدة(48).
* ما حاجتي إلى هذا التصفيق، علامة الفرح والإعجاب؟!
المديح الذي أرجوه منكم أن تظهروا أقوالي معلنة في أعمالكم، فأصير إنسانًا سعيدًا(49).
لم تقف غيرة القديس عند هذا الحد، بل كان يوبخ شعبه لأنهم مسئولون عن الكارز بإظهار علامات الإعجاب وكلمات المديح والثناء عوض التوبة الصادقة... فقد انتقدهم بأنهم لا يطلبون كارزًا جادًا يدخل معهم طريق التوبة المرّ والجهاد الصعب لكنهم يطلبون "مغنيًا أو موسيقارًا(50)"، يمدحون فيه بلاغته وعذوبة صوته. وبهذا يفقد الكارز أبوته الحقة، إذ يرضخ لطلبات أولاده الضارة، فيصير كأب يستجيب لدموع ابنه المريض، فلا يقدم له العلاج المرّ الشافي.
* هذا ما يفعله من يطلب مقالًا جميلًا منمقًا عوض أن يكون المقال نافعًا! فيطلب (الكارز) إعجاب الناس عوض تهذيبهم، يرائي ولا يبكت، يستحسن التصفيق عن إصلاح السلوك(51)".
إن مثل هذه الكرازة لا تأتي بثمرٍ حقيقيٍ، ثمر التوبة الحقة، وإن أثمر فذلك يكون بفضل نعمة الله وصلوات الكنيسة.