مُقدّمة
سنتعامل، في هذا المقال، مع أكثر الشخصيات غموضًا في الجماعة الرسولية، ألا وهو «يهوذا الإسخريوطي». أتصوّر أنَّ اسمهُ يَخْلُق في أذهانِنا ردّة فعل مزعجة بمجرد ذكره، إذ يجعلنا نتراجع مع نوع من الخوف. لذلك فَمِن الصعب جدًا أن نكون في صحبته، لكن يجب علينا أنْ نَبْذلَ القليل من الجهد للدخول في شخصيتِه والسّعيّ خاصةً إلى كسرِ الأحكامِ المسبقة. نظرًا لكونِهِ تلميذًا ليسوع، يمكنه بالتأكيد أنْ يعلمَنا شيئًا أو يكشف لنا عن جانب خفي من هذه التلمذة المسيحية.
تتحدث الأناجيل الأربعة في رواياتها عن يهوذا كشخصية مهمة لا كشخصية ثانوية، بل في بعض اللحظات كبطل للرواية: يُذكر اسم «يهوذا» من قِبل الإنجيليُّ متى 5 مراتٍ، يذكُره الإنجيليّ مرقس 3 مراتٍ ولوقا الإنجيليّ 4 مراتٍ. أمَّا الإنجيليّ يوحنَّا، فأعطاه أهميةً خاصةً، إذ يَذكُر اسمه 8 مرات (يو6: 71؛ 12: 4؛ 13: 2، 26، 29؛ 18: 2، 3-5)، خاصةً في سياقَين مهمّين: في إطار إعلان «يسوع خبز الحياة» (يو6: 60-71) وفي إطار «دَهن يسوع بالطيب في بيت عنيا» (يو12: 1-8). كما وتروي لنا الأناجيل الإزائية (متى، مرقس ولوقا)، أنَّ يهوذا بحسب التقليد كانَ مَوجودًا في أحداث “العشاء الأخير والاعتقال”، التي تحتوي على حوارٍ واضِحٍ دارَ بين يسوع ويهوذا في أثناء العشاء السريّ، بعكس الإنجيل الرابع (يوحنَّا)، الذي لا يحتوي على هذا الحوار، لأنّ يسوعَ وحدَه هو المتكلّم (متى26: 25؛ لو22: 48؛ يو13:30-26).
من هو؟
يهوذا الإسخريوطي، أحد رُسُلِ المسيح، يُشير اسمهُ «يهوذا» إلى الابن الرابع للبطريرك يعقوب، لكون “يهوذا” على وجه التحديد هو مؤسس أهم قبيلة (سبط) في إسرائيل. أمّا لقبه «الإسخريوطي»، فيحتوي على الكثير من التفسيرات. يقولُ البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلتِهِ العامة مع المؤمنين يوم الأربعاء (18 تشرين الأول 2006)، بأنّ يهوذا سميَّ “بالاسخريوطي” نسبة إلى قريتِهِ الأصليّة “كريوت أو قريوت – رجل من كريوت”، الكائنة قرب مدينة حبرون وتُذكر مرتين في الكتاب المقدّس (يش15: 25؛ عا2: 2).
اسم “الإسخريوطي” مُشتق من الجذر العبري (ساكار – Sacàr)، جاء بمعنى الرشوة أو الإغراء، أي رشوة شخصٍ بالمال (عزرا 4-5)، إذ نلاحظ ذلك في أثناء «دَهن يسوع بالطيب في بيت عنيا» (يو12)، إذ يروي لنا الإنجيليّ يوحنا حقيقة حُبّ يهوذا للمال: «لِماذا لم يُبَعْ هذا الطِّيبُ بِثَلاثِمِائَةِ دينار، فتُعْطى لِلفُقَراء؟ ولَم يَقُلْ هذا لاهتِمامِه بِالفُقَراء، بل لأَنَّه كانَ سارِقاً وكانَ صُندوقُ الدَّراهِمِ عِندَه، فَيختَلِسُ ما يُلْقى فيه» (يو12: 5-6). إنَّ سؤال يهوذا في النص هو سؤالٌ قويّ وعدواني، نابع من مصلحته؛ اهتمامَه بالفقراء ليس سوى ذريعة (عذر)، لأنّه كان مُعتادًا على أنْ يأخُذَ لنفسِهِ ما كان مُقدّرًا للفقراء. بالطبع، هناك رابِط بين يهوذا والمال، بحسب التقليد، فخيانة هذا التلميذ لمعلّمِهِ كانت من أجل القطع النقديّة الشهيرة (الثلاثين قطعة نقدية فضيّة).
أمّا من الناحية الإجتماعية، يحتوي اسمُهُ على الكلمة اللاتينية (سيكا – sica) بمعنى «الخنجر في يدي مسلّح»، وهذا دليلٌ على انتمائِهِ إلى جماعة (سيكاري – Sicari) «القتلة المستأجرين». التفسير الأخر لكلمة «الإسخريوطيّ» جاء من الجذر الآرامي، بمعنى الشخص الذي على وشك تسليم شخصٍ ما، أو ما يسمى “بالشخص المُسلِّم” «فيَهوذا بنَ سِمْعانَ الإِسخَريوطيّ هُوَ الَّذي سيُسلِّمُ [يسوع] معَ أَنَّه أَحَدُ الاثنَي عَشَر» (يو6: 71).
حدثُ الخيانة
خيانة يسوع من قبل يهوذا الإسخريوطي، يحدث في وقتين: التصميم (التخطيط) للحدث والتنفيذ له. فالتخطيط يَحدُث عندما يتّفق يهوذا مع خصوم يسوع على ثلاثين من الفضة (متى26: 14-16)، إذ من الصعب أنْ نستطيع تقدير ثمنِها، لكنّنا نعلم بأنّها كافية لشراء عبد. أما التنفيذ، يحدثُ في بستان الزيتون بقبلةٍ من يهوذا، متّفق عليها بينهُ وبين عظماء الكهنة وشيوخ الشعب (متى26: 46-50). فهكذا يتم تقديم شخصية يهوذا باعتباره خائنًا وأنَّهُ يتّبع المسيح من المظهر، فشخصيّته تمثّل انفصالاً واضحًا بين الوجود والظهور، بين التبعيّة والخيانة، بين المَعَ والضّد. لذلك نراهُ يبتعدُ خارجًا عن جماعة الرسل خلال العشاء السريّ ليعود للظهور ثانية في بستان الزيتون.
يروي لنا يوحنّا الإنجيلي أنّ يهوذا في غسل أرجل التلاميذ دخل الشيطانُ قلبَه: «وفي أَثْناءِ العَشاء، وقَد أَلْقى إِبَليسُ في قَلْبِ يَهوذا بْنِ سِمعانَ الإِسخَريوطيِّ أَن يُسلِمَه […] فما إِن أَخَذَ اللُّقمَةَ حتَّى دَخَلَ فيه الشَّيطان» (يو13: 2- 27). لكن بالحقيقة، لا نعرف متى دخل الشيطانُ قلبَ يهوذا، أقبل تناوله للعشاء السريّ أم بعده؟ النصُّ يذكر بأنْ يهوذا يسلُك في طريقٍ طويلٍ مُظلمٍ قبل الوصول إلى القرار الحاسم بالخيانة. صحيحٌ أنَّ محاولةَ يسوع السّاحقة لإثنائِهِ عن الهدف واستعادتِه في ضوء الحقيقة تتداخل مع رحلة يهوذا الشخصية، لذلك يمكننا تسمية النص أعلاهُ «بخط مسار يهوذا نحو تحقيق الخيانة أو ببداية الإغراء التي ينفذها الشيطان في قلب الرسول». هكذا يصبح يهوذا موضع خلاف بين يسوع، الذي يريد إنقاذه تمامًا والاحتفاظ بهِ كتلميذٍ من بين تلامذتِهِ، والمجرّب (الشيطان) الذي يريد من يهوذا أنْ يقطع كل العلاقات الحميمة التي تربطهُ بهذه المجموعة وأن يتجنّب ولاءه للمعلم يسوع.
يهوذا ورمز القبلة (الأنا)
بطلا الرواية، بحسب يوحنا الإنجيلي، ليسا يسوع ويهوذا، بل يسوع والشيطان (يو13)، لأنّ شخصية يهوذا تصبح مدعوةً لاتخاذ قرار: إمّا أنْ يبقى مع الربّ، أو مع خصمِهِ الشيطان؛ إمّا معَ النور أم مَع الظلام. بالتالي تبدأ حرب الاستيلاء والتحرير على يهوذا، فالشيطان يريدُ الاستيلاء عليه ويسوع يريدُ أنْ يحرّره.
يبدأ يسوع في الاستجابة على استفزازات الشيطان، لكي ينقذ يهوذا من يده، فأول عمل يقوم به يسوع، هو “غسل أرجل التلاميذ“، يحاولُ من خلاله استعادة يهوذا وتحريره من الشيطان لكيلا يقع في الخطيئة: «فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضاً أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض. فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم» (يو13: 14-15). يُبيّن يسوع ليهوذا، أنّهُ لا يواجه رجُلاً مُستبدًّا، مُتكبّرًا، بل يواجه سيد الحياة؛ ليس برجُلٍ مُتسلِّطٍ، بل برجلٍ مُتواضِع، يغسل أرجلَ تلاميذه كالخَدَم. بالرغمِ من قوته وألوهيته يفعل ما يفعلُهُ الخدم: «خَلَعَ ثِيابَه، وأَخَذَ مِنديلاً فَائتَزَرَ بِه، ثُمَّ صَبَّ ماءً في مَطهَرَةٍ وأَخَذَ يَغسِلُ أَقدامَ التَّلاميذ، ويَمسَحُها بِالمِنديلِ الَّذي ائتَزَرَ بِه» (يو13: 4-5). نلاحظ في هذا المشهد، يُساءُ فهمه من قبل هامة الرسل ورأس التلاميذ بطرس، لذلك يقوم بشرحِ ما قامَ به بصوتٍ عالٍ، ليس فقط لبطرس بل لجميع الرسل، خاصةً ليهوذا. يستفزّ بعملِهِ هذا يهوذا بصورة غير مُباشرة ليفتح عينيه على الواقع ويكتشف أين هو من هذا العمل، كما لو كان يقولُ لهُ: «اسمح لنفسكَ يا يهوذا، افتح قلبك ولا تكُن مُتردِّدًا، اسمع لضميرك ولا تَسمع للأنا!». يطلب يسوع من يهوذا أنْ يؤمن بالمصالحة مع الله، ليس أن ييأس من مغفرتِهِ، فالله لديه القدرة على إعادة قلبِ الخاطئ إلى قلبٍ نقيّ.
لا يغفلُ يسوع لحظة واحدة عن يهوذا، إنْ فعلَ ذلك، فالشيطان قادرٌ على أنْ يأخذَه منهُ بسهولة؛ هو مستعدٌّ ليستحوذ عليه بلحظةٍ واحدة. لا نعلم بالحقيقة ماذا حدث ليهوذا، هل بالفعل يعتقدُ أنّهُ أكبر من الشخصِ الذي اختارَهُ وأرسلَهُ كرسولٍ، كمبشِّرٍ للأُمَم؟ (يو13: 18-19). يُريد يسوع أنْ يفتح عيني يهوذا أمام نجاسة أفكاره: «ما كانَ الخادِمُ أَعظِمَ مِن سَيِّدهِ ولا كانَ الرَّسولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِه» (يو13: 16).
أعلَنَ يسوع بصورةٍ واضِحةٍ من سيخونه لتلاميذه: «فَغَمَس اللُّقمَةَ ورَفَعَها وناوَلَها يَهوذا بْنَ سِمْعانَ الإِسخَريوطيّ» (يو13: 26). «أعلنَ»، كلمةٌ يُمكن أنْ تُتَرجَم بكلمة “شَهدَ شهادة”، كما لو كان يسوع بالمحكمة يَشهدُ ضِد يهوذا الإسخريوطي الذي خانَهُ على أمل أنْ يَعترِف بفعلتِهِ هذه. هنا يهوذا هو المدَّعي عليه، فاتّهامُ يسوع لهُ ليس كانتقامٍ كما يمكن أن يحدثَ بمحكمةٍ بشريّةٍ، لكن لكي ينبّههُ بخطيئته وبذلك يستعيده من يد الشيطان.
عَلِمَ يسوع من هذه اللحظة أنّهُ قد فقدَ يهوذا الإسخريوطي فشعر بأنّ نفسه مضطربة، أو بالأحرى الترجمة الصحيحة للكلمة اليونانيّة (etaràchthe tò pnèumati) المشتقّة من كلمة (taràssein)، «مضطرب الروحِ»: «فاضطَرَبَت نَفْسُه فأَعلَنَ قال: “الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِنَ واحِداً مِنكُم سَيُسلِمُني”» (يو13: 21). لا أحدَ يعرف في تلك اللحظة شعور يسوع سوى يوحنّا الحبيب الذي اتّكئ على صدره، فسمع بالتأكيد نَبَضات قلبه المضطربة، لأنّهُ من الصعبِ جدًّا التفكيرُ بأنّ يخونكَ أقرب الناس إليك! اضطراب يسوع هذا جعله يلجأ فيما بعد إلى مكانٍ هادئ ليُصلي بنفسٍ حزينة، طالبًا العون من الآب لتحمّل الآلام، فلجأ إلى «بستانِ الزيتون».
يملك الشيطان الآن ورقَةً رابحة لإرباك يسوع وإزعاجه ألا وهي يهوذا الإسخريوطيّ. يأمُرُ يسوع يهوذا بأنْ يخونه ليخلّصهُ من هذا الذنب: «إفعَلْ ما أَنتَ فاعِلٌ وعَجّل» (يو13: 27). كما لو كان يقول: «من هذه اللحظة التي لَم أستطعْ أبعاد عنك ثقل اختيارك بالخيانة، أوصيكَ إذًا أنْ تفعل ذلك وأنا بدوري أتحمّل نتيجة فعلتك هذه». لنتأمل جيدًا في هذا النص، نلاحظ بأنّ يهوذا كالسارقِ الذي فاجأهُ مالِكُ البيتِ يسرق فقالَ لهُ: «ماذا تريدُ أنْ تسرق منّي؟ أهذا ما تريدُ؟ ها هو! أعطيكَ إياهُ هديّة». يا يهوذا أنا أسامحك ولن أقاضيكَ على ما فعلته بيّ، فأذهب ولا تقترف هذا الذنب من جديد، اسمع لضميرك دائمًا ولما يقوله لكَ فهو الذي يرشدك إلى عمل الخير وترك الشر وعد لتعيش حياتك. يعتقد الكلُّ هنا بأنَّ يسوع، في هذه اللحظة، تخلى نهائيًّا عن يهوذا، تركه في يدِّ الشيطان، على العكس، أرادَ يسوع أنْ يبيّن للشيطان أنّهُ قادِرٌ على الاستحواذِ على يهوذا لأنّهُ الآن لوحدِهِ، لا يملكُ أي صاحِب. بالحقيقة، لن يترك يسوع يهوذا ولو للحظة ولن يستسلم أبدًا.
دعا يسوع يهوذا الإسخريوطي في ليلة الحب مثلما فعل مع بطرس، أندراوس، يعقوب والرسل الآخرين. فَلَم يَخترْ يهوذا الإسخريوطي لغرض الخيانة – في بعضِ قراءات الآباء والمفسرين، حتى تلك المعتمدة، نرى بأنَّ يهوذا قد دُعيَ من قبل يسوع ليكون خائِنًا، ليقوم بتسليمِهِ إلى رؤساءِ الكهنة وشيوخِ الشعب، فأصبح ضحيّة لهذا الفكر. كما ويُبالِغ يوحنا الإنجيليّ في بعض الأحيان أيضًا، في عرض شخصيّة يهوذا الإسخريوطي كخائن – اختيرَ ليكون رسولاً حقيقيًّا، مُبشِّرًا للأمم، ولكنَّ “الأنا” تغلّبَ عليهِ، فوقع بخطيئة الخيانة. حبُّه للمعلم لم يكُن حُبًّا أصيلاً، بل كانَ حُبًّا أنانيًّا، حُبًّا من أجلِ المال، السلطة والشهرة، هذه هي خطيئة يهوذا.
متى بدأت رحلة الظلام التي سلكها يهوذا؟
كيف لهُ أنْ يُسلِّم المعلم؟ بالحقيقة، لا أحد يعرف متى بدأ يهوذا يُفكّر بالخيانة لأنّ ذلكَ لا يزال لغزًا! إنّهُ سرُّ الحياة! التفكير في شخصيّة يهوذا تعني التأمُّل في “الأنا” الخاص بهِ وفي مأساة الحرية. يهوذا تلقى نفس الدعوة مثل الآخرين إلى القداسة، رافق المعلم خلال الثلاث سنوات. رَغِبَ يسوع بقدر المُستطاع إنقاذَهُ، لكنَّه لم يستجب لمحاولاتِه، بل تعثّر ووقع أكثر فأكثر في خطيئة «الأنا».
أختارَ يهوذا علامة الحبِّ “القبلة” لتسليم المعلم، فمُنذُ تلك اللحظة أصبحت القبلة رمزًا للانفصال والكره والخيانة، رمزًا للأنا. صعوبة يهوذا لم تكمُنْ في خطورةِ الخطيئة المرتكبة (الخيانة) – لا ننسى بأنّ الخطيئة دائمًا ذنبٌ يُعاقب الله عليها – بل لأنّهُ بعد فترة من حدَثِ الخيانة، هامةُ الرسل “بطرس” سيفعل أسوء من ذلك، سينكُر هويّته، معرِفتَهُ ليسوع وللجماعة الرسولية. يهوذا، فضّلَ الخطيئة على الرجوع بسبب “الأنا”، عدم التواضع، فقدان الأمل في مغفرة الرّب والمصالحة معهُ؛ لو أنّهُ طلبَ المغفرة بعد خيانته للربّ يسوع، لاستجاب لتوبته، واستقبله الرسل ورحّبوا به مثلما فعلوا مع مضطهد المسيحين بولس، لا بل مثلما حدَثَ مع الأب الرحيم الذي استقبل ابنه رغم فعلته النكراء تلك (لو15).
دعوةٌ لنا
يمكننا نحنُ أيضًا أن نسلكَ في الطريق المظلم الذي سلكَهُ يهوذا وبطرس عندما نرتكب الخطايا، فلم يَعُد بإمكانِنا رؤية الحبِّ الأزلي، اللامتناهي ونعتقد بأنّهُ لا حاجةَ إلى التوبة. أثناء هذه المسيرة نكتشف بأنَّ هنالكَ ضوء يُنيرُ طريقنا، إذ يرشدُنا إلى طريقٍ أخرى، إلى طريقِ التوبة. بالتأكيد من الصَعب رؤية هذا الضوء، إن كان الأنا يطغى عليه ونظرنا مُتّجهٌ نحو الأسفل. يهوذا فضّلَ اختيار “الأنا”، المسارُ الذي يوبّخنا باستمرار، الذي يجعلنا يائسين من وجود خلاص الربّ، يجعلنا ننطوي على أنفسنا ولا نريد اللجوء إلى الأنت، الأخر الذي يساعنا. يقولُ البابا بندكتوس السادس عشر في مقابلتِهِ العامة مع المؤمنين يوم الأربعاء (18 تشرين الأول 2006)، متكلّمًا عن يهوذا ومتيّا: «بُطرُس بعد سقطتِهِ نَدِم، فوجدَ الغفران والنّعمة؛ يهوذا أيضًا نَدِم، إلا أنّ ندَمَهُ أدّى إلى اليأس وتحوّل هكذا إلى تدمير الذات. لنتذكّر جيدًا ما يقوله القديس بندكتوس في نهاية الفصل الخامس من “قانونه”: “لا تيأس أبدًا من الرحمة الإلهيّة”. لنحتفِظْ في فكرنا بشيئين: الأول، يسوع يحترم حريتنا؛ الثاني، يسوع ينتظر جهوزيتنا للندامة والاهتداء. فيسوع غني بالرحمة والغفران».
السؤال الذي أسالهُ دائمًا
أين كان نظرُ يهوذا متّجهًا؟
أينَ كان عقله من توجيه المعلم لهُ؟ ألم يتذكّر قدرته على فعل الخير وعلى الحبِّ؟ أين انتهى اهتمامهُ بالفقراء؟ بالتأكيد، كان نظره مُتّجِهًا نحو الأنا، فالخطأ الذي ارتكبه، كان ذريعًا ولكنّهُ لم يؤمن بالتوبة والتغير. فإنّ اعترفَ بخطيئتهِ وطلب الغفران، بعيدًا عن تكبره، مثلما فعل بطرس، لكانَ الآن رسولاً ومُبشّرًا للأُمَم بالخلاص الأبدي.
مدَّ يسوع ذراعيه منتظرًا بفارغ الصبر عودة الابن الضال، الخروف الضائع، لكي يستقبله بفرح ويقيم له حفلاً كبيرًا، ولكن ذاك استخدمَ بطريقة سيئة حريتَهُ، فابتعد أكثر عن يسوع.