رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نلتقى مع الصياد الجبار البأس ...عيسو .. *باع بكوريته ليعقوب..*." *تعد قصة يعقوب وعيسو من أعجب القصص وأغربها أمام الذهن البشرى... *أليست هى القصة التى يقف الإنسان فيها حائراً أمام الإختيار الإلهى: "لأنه وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيراً أو شراً لكى يثبت قصد الله حسب الإختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو قيل لها أن الكبير يستعبد للصغير كما هو مكتوب "أحببت يعقوب وأبغضت عيسو".. * بل أليست هى القصة التى أثارت الصراع الدفين بين عقل إسحق أبيه وقلبه؟ *وقد بلغ هذا الصراع ذروته، يوم طلب إسحق من عيسو أن يتصيد له صيداً ويجهزه ليدرك أن أخاه سبقه إلى أخذ هذه البركة، وإذ تبين إسحق ما فعل الصغير: "فإرتعد إسحق إرتعاداً عظيماً جدا. *ً وقال من هو إذن الذى إصطاد صيداً وأتى به إلىَّ فأكلت من الكل قبل أن تجىء وباركته...نعم ويكون مباركاً".. لقد ثاب إسحق إلى رشده وأدرك أنه بارك، من خصصت له بركة السماء دون ذاك الذى أوشك أن يأخذ البركة. *وهو مرفوض، بمجرد العاطفة المتحيزة الأبوية.. إن عيسو هو الإبن الثانى فى مثل المسيح القائل "ماذا تظنون كان لإنسان ابنان فجاء إلى الأول وقال يا ابني اذهب اعمل اليوم في كرمي، فأجاب وقال ما أريد ولكنه ندم أخيراً ومضى، وجاء إلى الثانى وقال كذلك.. * فأجاب وقال: ها أنا يا سيد، ولم يمض".. كان عيسو حسب الظاهر أفضل من يعقوب بما لا يقاس ولكنه في الحقيقة أتعس وأشر.. *كان الظاهر فيه هو الذي جعله أقرب إلى قلب أبيه وأحب، ولكن وازن القلوب أدرك طبيعته الشريرة ، ومن ثم رفضه، وقدم عليه الصغير المختار. *وهل لنا بعد هذا كله أن نتأمل الرجل الذى يصلح أن يكون نموذجاً عظيماً على العكس من الآخر الذي أحبه الله، وطهره من الشوائب المتعددة التى لحقت بقصته وحياته،. ومن ثم يمكن أن نرى عيسو من الجوانب التالية... *ها هو أراه من بعيد يبدو أنه ذاهبا للصيد ثانيا فلنحاول اللحاق به... ** عيسو ذو المظهر الرائع** ما أجمله؟من المؤكد أننا سوف نحبه، عندما نتطلع إليه لمظهره كما أحبه أبوه إسحق لما يبدو عليه من جلال الصورة، وجمال المنظر.... * ومن المؤكد أنه كان شيئاً يختلف تماماً فى الصورة عن أخيه الأصغر، فهو أشعر بفروة حمراء، متين العضلات، قوى البنيان. * لو أنه ظهر فى أيامنا لكان من أولئك الذين يمكن أن يدخلوا مع العالم فى مباريات كمال الأجسام، أو الملاكمة، أو المصارعة، أو ما إلى ذلك من صور يعتز بها من كان البنيان الجسدى عندهم، هو أهم ما يملكون أو يفضلون في هذه الحياة... * ومن المؤكد أن قوته البدنية كانت كافية لأن يصرع بها أخاه، عندما فكر أن ينتقم منه، لتعديه عليه فى البركة وسلبها منه، كما فعل بالخداع والختال والمكر عندما أخذ البكورية أيضاً.. * أنه سريع الحركة، أو بطلاً فى العدو وهو يجرى وراء الحيوانات فى الأحراش والغابات يحمل قوسه وسهمه.... * ها هو يصرع الفريسة ويحملها على منكبيه، ليهىء منها طعاماً لنفسه وأبيه الذى كان يؤخذ بعظمته وما يصطاد من حيوانات شهية دسمة، دون أن يطيش سهمه، وترجع قوسه خائبة إلى الوراء،. * هو جذاب المنظر، مهيب الطلعة، يقف نداً للحثيين وغير الحثيين الذين يخشون بطشه فيما لو حاول أحدهم التصدى على بيته الكبير وأسرته العظيمة.. *ومن المؤكد أن بنات حث اللواتى تزوج منهم أكثر من واحدة، كن يعجبن به، وتشتهى كل أنثى فيهن أن تكون زوجته أو حبيبته على حد سواء.. *ومن المؤكد أنه أكثر من أخيه مروءة وشهامة،.. ولو أن أخاه عاد جائعاً من الحقل، ووجد عنده صيداً، وسأله طعاماً، لأعطى لأخيه من أشهى ما عنده دون أن يطلب ثمناً أو ينتظر مقابلاً،.. * وهل لنا أن نراه فى كل هذا، الإنسان البشوش الضاحك، إنسان المجتمعات الذى يتعلق بالآخرين، ويتعلق الآخرون به، والذى يربط نفسه بصداقات متعددة، حتى أن أربعمائة على استعداد أن يلبوا إشارته عند أقل طلب، بل على استعداد أن يقاتلوا فى سبيله ومن أجله، فى أى معركة يدفعهم إليها. * وهل نتعجب بعد هذا من حب إسحق له وولعه به وكلفه بشخصه، وميله العميق من أن يعطيه البركة رغم أن الوعد بها للأخ الأصغر؟؟ *وهل نتعجب لمن يملك مثل هذه الصفات من الرجولة والشهامة والكرم والحركة والقوة والشجاعة، كيف لا يأخذ مكانه الطبيعي دون أن يسلب من أخ مهما يكن شأنه، فهو أضأل وأصغر فيها جميعاً من كل الوجوه.. *على أى حال أن عيسو هو أروع النماذج والصور "لإنسان العالم"، والذي قد يعتبر في كثير من النواحي البدنية والأخلاقية والاجتماعية ،من يصح أن نطلق عليه "إنسان الله". *إذا كان عيسو على هذا المظهر الرائع الخلاب، فكيف يمكن أن يقال أن الله أبغضه وأحب يعقوب؟ *وهنا نحن نقف أمام الحقيقة العظيمة، التى أدركها فيما بعد صموئيل النبى، وهو يتحدث عن الملك المختار لإسرائيل من بين أبناء يسى البيتلحمى، إذ قال له الرب: "لا تنظر إلى منظره وطول قامته، لأني قد رفضته لأنه ليس كما ينظر الإنسان. لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب".. * وفى الحقيقة أن عيسو كان خرب الحياة والقلب أمام الله، وإذا صح أن نصفه فلا يمكن أن وصفاً أدق أو أبرع من وصف المسيح للكتبة والفريسيين فى أيامه، إذ كانوا يشبهون القبور المبيضة التى تظهر من الخارج جميلة، وهى من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة... *عيسو والعلاقة بالله* كان عيسو يمثل الإنسان العالمى، الخرب العلاقة بالله، وصف كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "مستبيحاً" والكلمة في أصلها اللغوى تعنى الرجل الذى لا "قدس" فى حياته،.. أو فى لغة أخرى: هو الرجل الذى يعيش فى الدار الخارجية، ولا قدس أو قدس أقداس فى حياته، الرجل الذى غاب عن الله، وغاب الله عن حياته، فلم يمنحه النعمة التى تلمس قلبه، وتفتحه على العالم. *وكانت الضربة القاتلة لعيسو أنه إبن الموعد بدون ميراث، وإبن المذبح بدون ذبيحة، والإبن الذى كان يمكن أن يكون شديد التعلق بالله. * ولكنه كان وثنياً من هامة الرأس إلى أخمص القدم.. إذ رضى لنفسه أن يكون خرب العلاقة بالله، لا يستيقظ على موعد صلاة، أو يترنم في الغابة أو البيداء لإله، أو يعيش مستمعاً لكلمات أبيه إسحق عن الله. كان عيسو الإنسان الذر يصح أن يقال عنه: بلا إله... *عيسو بائع البكورية* مثل هذا الإنسان لا معنى للبكورية عنده، إذ هو أعمى عن جميع القيم الروحية فى الحياة،. * كان الإنسان البكر هو سيد العائلة وممثلها أمام الله، وهو كاهنها الذى يتقدم بالذبائح نيابة عنها أمام المذبح الإلهى وهو الذى يصلى معها ولها ويباركها بما يأخذ من بركات الله، وهو الذي يرث في المستقبل بعد أبيه نصيب إثنين مما يملك،.. *ولكن جميع القيم الروحية كانت بلا معنى أو مذاق أمام عيسو وهو مغلق العين والقلب بالنسبة لها جميعاً، وأقل ما في الحاضر أفضل من كل ما ينتظر في المستقبل، وعصفور في اليد أفضل من عشرة على الشجرة،.. * ومن ثم كانت البكورية لا معنى لها ما دامت ترتبط بمستقبل قريب أو بعيد،وعندما عرض عليه أن يبيع البكورية بطبق من عدس، كان الطبق أفضل بما لا يقاس وهو يعى عن كل بركات البكورية فى المستقبل، وباع عيسو بكوريته بأكلة عدس.... * ومع أن الإعياء قد يكون واحداً من الأسباب التى شجعت عيسو على هذه الصفقة القاسية الخاسرة، إلا أنه بالتأكيد ليس السبب الأول... *لقد باع عيسو البكورية فى سره، ، لقد كانت حقيرة فى عينيه قبل أن يعرض عليه أخوه ثمنها البخس الغريب... وما يزال عيسو إلى اليوم مثلاً لكل بائع لبكوريته بمثل هذا الثمن التافه الحقير... * كم من شاب أضاع حياته الأبدية، وفقد بكوريته بمتعة وقتية قبيحة لا تلبث أن تنتهى لذتها ونكهتها بإنتهاء مذاق العدس الأحمر فى فم عيسو القديم،.. *لم يقف عيسو فى الإنحدار عند حد، وبائع البكورية سيفقد معها كل شىء، وقد إنفتح طريق الإنحدار أمام عيسو بلا توقف أو نهاية، فهو لا يرى بأساً من مخالطة الوثنيين أو إدخالهم حياته وبيته وعائلته. *ورأى إسحق ذات يوم، وإذا يهوديت إبنة بيرى الحثى وبسمة بنت إيلون الحثى تقحمان عليه البيت وتضحيان كنتين إذ جاء بهما عيسو زوجتين تدخلان بما فيهما من الشر والوثنية إلى عقر داره، وعانى إسحق ورفقة ما عانيا، من هذه الوثنية الشريرة داخل البيت.. * ولم يقف عيسو عند هذا الحد، بل كان زانياً بكل ما تحمل الكلمة من معناها الحرفى، كان عيسو فى الحقيقة حيواناً في صورة إنسان، ومهما يكن جسمه الأشعر وفروته الحمراء، فهو على أى حال حيوان كالدب القطبى الجميل الفروة، مهما تسليت بمنظره أو حدقت الرؤية فى شكله فهو أولاً وأخيراً حيوان، وحيوان متوحش، حتى ولو كان جميل المنظر، غزير الفروة، رائع البنيان.. *عيسو فاقد البركة* علم إسحق ولاشك بالصفقة بين ولديه، وتبادل مركز البكورية بالقسم بينهما، وكان ولا شك أسبق علماً بالنبوة الخاصة بكليهما، عندما قال الرب لرفقة "فى بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير" *وكان من الطبيعى والحالة هكذا أن يعرف إسحق، من هو صاحب البركة والمستحق لها، غير أن إسحق كما أشرنا فى الصراع بين عقله وعاطفته، استجاب للنداء العاطفى دون نداء العقل والحكمة والصوت السماوى.. * ولا نستطيع أن نفسر معنى القول: "فإرتعد إسحق إرتعاداً عظيماً جداً وقال فمن هو الذى إصطاد صيداً وأتى به إلىَّ فأكلت من الكل قبل أن تجىء وباركته. نعم ويكون مباركاً" دون أن ندرك أنه فى تلك اللحظة التى صعق فيها بما حدث، ثاب إلى رشده، وأدرك أنه مهما تكن عواطفه فإن مشيئة الله أصدق وأحق وأعظم،. * ولهذا صاح فى مواجهة بكره: "نعم ويكون مباركاً".. وهنا صرخ عيسو صرخته المرة الأليمة، وأدرك فداحة ما ضاع منه، ولم تكن صرخته تعبيراً عن التوبة الحقيقية لما أضاع بحماقته وإستباحته، أو رجوعاً عن الحياة الملوثة التى يتمرغ فيها، أو إقتراباً إلى الله العلى الذى جهله ونسيه أياماً بلا عدد... * بل هى نوع من الإحساس بالخسارة التى يحس بها المجرم إذا سجن، أو ما أشبه، دون أن تتحول إلى تغيير الحياة والنهج والأسلوب، ويكفى أن نسمع أنه كان يصرخ لأبيه أن يعطيه بركة ولو صغيرة إلى جانب ما إستأثر به أخوه من بركات جليلة مجيدة عظيمة... *ولعله من الملاحظ أن بعض التفاسير تفسر الرسالة إلى العبرانيين: "فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع ".. *إختلفت في المقصود بالتعبير: "طلبها بدموع" فرد البعض إلى البركة وليس إلى التوبة آخذين القرينة مما جاء فى سفر التكوين، إذ لم تكن صرخة عيسو هناك تعبيراً عن توبة، بل كانت حزناً على خسارة وضياع أصاباه بقسوة. والبعد المتوالى عن الله فى أرض الوثنية والشر... *عيسو والمصير التعس* وأى مصير تعس أكثر من أن يوصف بأنه الإنسان الذي يبغضه الله: "وأبغضت عيسو".. وهل يمكن أن تحل كارثة إنسان أكثر من أن يكون مكروهاً من الله،ما أوسع الفرق بين مشاعر الله ومشاعر الناس خطاة كانوا أو قديسين، هذا الرجل الذى أحبه الحثيون والذى سار وراءه أربعمائة رجل، يرون فيه فخر الرجال ومجدهم وعظمتهم،.. * هذا الرجل الذي فتنت به الحثيات، وتطلعن إليه كما يتطلع العالم إلى الأبطال والجبابرة والعظماء،. هذا الرجل الذى أحبه أبوه من كل قلبه، وكان يرى فيه صورة متلالئة مضيئة للرجولة والبهاء والعظمة، هذا الرجل بعينه كان مكروهاً وممقوتاً ومبغضاً من الله .... *هل عرفتم السر فى ذلك؟ كان ذلك لأن عيسو كان موجوداً أمام العالم، ولكنه ميت أمام الله،.. وكان ممدوحاً من البشر، ولكنه مرفوضاً عند الله،.. * فلنحذر جميعاً من أن يبيع واحد منا نفسه بأى ثمن، بكوريته وإمتيازه، وبركته وحياته ومجده أمام الله ،العلى... *فحذارى أن نرى العدس الأحمر فى طبق ، أو شرود هناك أو هنا من صور التجارب المختلفة فى الأرض فنتعزى بالباطل، وندفع أقسى ثمن إذ نطيح بنقاوتنا وبكوريتنا وبركتنا.... *لم يكن عيسو ضياعاً لنفسه وحده، بل كان أكثر من ذلك أصل مرارة، يصنع الضياع والإنزعاج والمرارة فى حياة الآخرين،. *ومن الناس من يكون نبعاً صالحاً يرتوى، ويروى غيره من الناس بالماء العذب . *ومن الناس من يكون على العكس نبع مرارة لا ينتهى لنفسه وجيله وعصره وأجيال أخرى تتعاقب وتأتى فى أثره وكان عيسو كذلك،.. *ولا تحسبن عيسو –وهو يقود أربعمائة رجل وهو بمثابة الزعيم- إنه كان سعيداً، كلا وألف كلا، فإن الذى ينحرف عن خط الحياة الإلهى، والذى يحتقر البكورية والبركة، والذى يتمشى على رأس الناس في العالم، يمكن أن يأخذ كل شئ ولكنه لابد أن يأخذ كأس العلقم والأفسنتين والمرارة جزاءاً للبعد عن الله، لأنه لا سلام قال إلهى للأشرار،.. * وعيسو الذى أدخل يهوديت وبسمة إلى بيت أبيه وأمه، فكانتا كلتاهما مرارة لإسحق ورفقة لابد أنه أدخل المرارة لا إلى بيته فحسب الذى لم يعد يعرف هدوءاً أو أمناً أو سلاماً، بل مد المرارة إلى كل من عاشره أو اتصل به أو تعاقب بعده، وهل يمكن لإنسان أبغضه الله، وحلت لعنة القدير عليه بعد أن فقد بركته إلا أن يكون كذلك؟. *عندما رفع عيسو صوته أمام أبيه وبكى وأخذ إسحق يبحث له عن بقايا من بركة هنا أو هناك "قال له هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك، وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش ولأخيك تستعبد. ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك".. * وهكذا عاش أدوم فى الصراع لأجيال طويلة مع شعب الله، حتى سمع القول الإلهى الرهيب المخيف: "من أجل ظلمك لأخيك يعقوب يغشاك الخزى وتتعرض إلى الأبد يوم وقفت مقابلة يوم سبت الأعاجم قدرته ودخلت الغرباء أبوابه وألقوا قرعة على أورشليم كنت أنت أيضاً كواحد منهم.. كما فعلت يفعل بك. عملك يرتد على رأسك".. *هل تتوقفون معى للبكاء على الرجل الذي باع هذه البركة بمثل هذا الثمن الغريب؟.. *وهل تسيرون معى فى درب الحياة لكى نقف عند كل واحد من أبنائه المنكوبين بهذه الضربة القلبية القاسية؟ .. كم من شاب أضاع عفته، وفقد بكوريته بمتعة وقتية قبيحة لا تلبث أن تنتهى لذتها ونكهتها بإنتهاء مذاق العدس الأحمر فى فمه؟؟؟؟؟ |
|