أهمية الصداقة ـ القديسة أنثوسا
“الصديق الأمين دواء الحياة”(سي 6: 16)“الصديق الامين معقل حصين”(سي 6: 14) ما هو الأمر الذي لا يفعله الصديق الأصيل؟ أيّة سعادة لا يخلقها لنا؟ أيّة منفعة وأي أمان؟ قد تسمّي ألف كنز ولكن أيّاً منها لا يقارَن بصديق حقيقي. لنذكر أولاً كم من السعادة تجلب الصداقة. الصديق وضّاء بالفرح، وهو يفيض عندما يرى صديقه. لإنّه متحد به بوحدة هي للنفس سعادة لا تُوصَف. إنّ مجرد تفكيره به يجعله مرتفعاً ومحمولاً بفكره. أتحدث عن الأصدقاء الأصيلين المتفقين. الذين قد يختارون الموت من أجل أصدقائهم، من أجل الذين يحبونهم بحرارة. لا تتخيّل أنك قادر على على ردّ ما أقول عن طريق وصف أولئك الذين يحبون بخفة ويجالسونك المائدة (سي 6: 10) وليس لك بهم إلا معرفة ضئيلة. مَن عنده صديق كالذي أصف يفهم كلامي. إنّه يصلّي لصديقه كما لنفسه. أعرف رجلاً، إذا طلب الصلاة من اشخاص قديسين، يطلبها لصديقه أولاً ثم لنفسه.
إن الصديق الحقيقيّ هو ذلك الذي تصبح الأوقات والأماكن محبوبة بسببه. إذ، كما أن الأشياء المشعّة ترمي بلمعانها على الأماكن المجاورة، كذلك الأصدقاء يضفون نعمتهم على الأماكن التي يكونون فيها. ونحن في أكثر الأوقات، عندما نقف في هذه الأماكن بدون أصدقائنا، ننوح ونتنهد لتذكرنا الأيام التي كنّا فيها معاً. ليس ممكناً التعبير من خلال الكلمات عن السعادة التي يسببها وجود الأصدقاء، إنما الذين اختبروها يعرفونها. يستطيع المرء أن يطلب خدمة من صديق، ويحصل عليها بدون أي ريبة. عندما يطلب الأصدقاء منا أي شيء نكون ممتنين لهم ونحزن عندما يبطئون بالطلب. نحن لا نملك شيئاً ليس لهم. وغالباً، مع أننا نمقت كل الأشياء الأرضية، الا إننا بسببهم لا نرغب بالرحيل عن هذه الحياة، وهم مرغوبون عندنا أكثر من النور.
نعم، بالواقع، الصديق مرغوب أكثر من الضوء نفسه. أتحدث عن الصديق الأصيل. لا تعترض، قد نفضّل أن تُطفأ الشمس من أن نُحرَم الأصدقاء. قد نفضّل أن نعيش في الظلام من أن نعيش بدون أصدقاء. وكيف اقول هذا؟ لأن كثيرين من الذين يرون الشمس هم في الظلام. أما الأغنياء بالأصدقاء فلا يكونون في محنة أبداً. أتحدث عن الأصدقاء الروحيين الذين لا يضعون شيئاً فوق الصداقة. هكذا كان بولس، الذي أراد طوعياً أن يضحي بنفسه، من دون أن يُسأل واراد طوعياً ان يسقط في الجحيم من أجل إخوته (رو 9: 3). بهذه عاطفة تتأجج المحبة. خذْ هذا مثلاً عن الصداقة. الأصدقاء يتخطون الآباء والبنين، أي الأصدقاء بحسب المسيح.
الصداقة هي أمر عظيم وعظمتها لا نتعلمها بالدرس أو بكلمات الشرح، إنما فقط بالخبرة نفسها. ذاك لأن غياب المحبة جلب الهرطقات وجعل الأمم عبّاد وثن. إن الذي يحب لا يتمنّى أن يحكم أو أن يتسلّط، بل بالأحرى يكون أكثر امتناناً إذا تلقّى طلبات. إنّه يفضّل أن يقدّم الخدمات بدل أخذها لأنّه يحب والأخذ لا يشبع شهوته. إنه لا يبتهج في اختبار اللطف كما في أن يكون لطيفاً لأنه يفضّل أن يحفظ صديقه على ارتباط معه بدل أن يكون مديوناً له، أو بالأحرى إنه يتمنى أن يكون مديوناً لصديقه وأن يكون صديقه الدائن. إنه يتمنى أن يمنح الخدمات لا كَمَن يقدم خدمات بل كَمَن يفي ديناً.
عندما تُفقَد الصداقة، نحن نربك بخدماتنا الذين نخدمهم ونضخم الأمور الصغيرة. إنما عندما توجد الصداقة فنحن نكتم الخدمات ونتمنى أن نُظهِر الأمور الكبيرة كصغيرة حتى نظهر صديقنا كمديون لنا بل على العكس كدائن ونحن كمديونين. أنا أعرف أنّ كثيرين لا يفهمون ذلك، إنّما السبب هو أنني أتحدث عن أمر سماوي. إنّه كما لو أني أتحدث عن بعض النباتات التي تنمو في الهند والتي لم يختبرها أحد. لا تستطيع اللغة أن تظهر هذه النبتة حتى ولو استعملنا عشرات الآلاف من الكلمات. حتى الآن، كل ما أقوله يبقى بلا جدوى لأن أحداً لا يقدر ان يصفها. هذه النبتة قد غُرسَت في الملكوت، وأغصانها محملة لا بالجواهر بل بالحياة التي لا تنتهي، الحياة الأكثر متعة من الجواهر.
ولكن عن أي نوع من المتعة أنت ترغب بالكلام؟ أهي المتعة الشائنة أم المتعة الفاضلة؟ إن حلاوة الصداقة تتخطى كل المتع الأخرى. أنت قد تذكر حلاوة العسل، غير أن العسل قد يؤدي إلى التخمة، بينما الصديق لا يتخم طالما هو “صديق”. تزداد الشهوة عند إرضائها، بينما هذه المتعة لا يمكن لها أن تتركنا مشبَعين. إن الصديق أكثر حلاوة من الحياة الحاضرة. لهذا، يتمنى كثيرون الموت بعد رحيل أصدقائهم. مع الصديق، يصبح النفي مُحتملا بينما من دونه لا يختار أحد العيش حتّى في موطنه. حتّى الفقر يمكن احتماله مع الصديق والغنى والصحة لا يُطاقان من دونه.
أن يكون عندك صديق هو أن يكون عندك نفس أخرى. إنه الانسجام والتناغم اللذين لا يساويهما شيء. في هذا يساوي الواحد كثرة. إذ لو اتّحد إلإثنان أو عشرة، فإن كلاً منهم لا يعود واحداً بل يصبح لكل منهم قدرة العشرة وقيمتهم. وسوف تجد الواحد في العشرة والعشرة في الواحد. إذا كان لهم عدو، فهو لا يهاجم الواحد بل العشرة، وبالتالي لا يُهزَم ولا يتراجع من الواحد بل من العشرة. إذا وقع واحد منهم في عوز، فهو ليس مهجوراً لأنه يزدهر بجزئه الأكبر، أي بالتسعة، ويكون جزؤه الأضعف في أمان أي أن الجزء الأصغر يزهو. لكل منهم عشرون يد وعشرون عين والعدد نفسه من الأرجل, لأنه لا ينظر بعينيه الشخصيتين فقط بل بأعين الكل. إنه لا يسير برجليه الشخصيتين فقط بل بأرجل الكل ولا يعمل بيديه فقط بل بأيدي الكل. إن له عشرة أنفس، لأنه لا يهتم لنفسه بل التسعة الآخرون يهتمون له. ولو كانوا مئة فالأمر نفسه سوف يحدث والقدرة سوف تزداد.
أنظر إلى فضيلة المحبة التي من الله! كيف أنها تجعل شخصاً واحداً غير مقهور ومساوياً لكثيرين. كيف يمكن للشخص الواحد أن يكون في أماكن مختلفة. أن يكون الشخص في روما وفي بلاد فارس في آن واحد، ما تعجز الطبيعة عن عمله تعمله المحبة. إذ إن جزءً من المرء سوف يكون هناك وجزء آخر هنا. بل بالأحرى سوف يكون كله هناك وكله هنا. وإذا كان له ألف صديق، والفان، تصوّر إلى أي ذروة ترتفع قوته. أترى كم أن المحبة هي أمر نافع؟ إنه لأمر رائع: أن تجعل المرء ألف ضعف. إذاً السؤال هو: لمَ لا نحوز هذه القوة ونضع أنفسنا في أمان؟ إنها أفضل من كل قوة ومن كل فضيلة. إنها أكثر من الصحة وأفضل من ضوء النهار نفسه. إنها الفرح. إلى متى نحتجز محبتنا في شخص أو اثنين؟
تعلّم من اعتبار العكس. لنفرض أن شخصاً ما لا اصدقاء له، هذا غاية الجهل “يقول الأحمق لا صديق لي”(سي 20: 17). ما هو نوع الحياة التي يحياها هذا الشخص؟ حتى ولو كان عنده غنى مضاعفاً ألف مرة، ولو كام يعيش في الوفرة والرفاهية ويمتلك أضعافاً من الأشياء الجيدة، فهو محروم بالمطلق وعارٍ. ولكن مع الأصدقاء الأمر مختلف. حتى ولو كانوا فقراء فمعهم أكثر من الأغنياء. ما لا يجازف امرء بقوله لنفسه، فإن صديقه يقوله له. وما لا يستطيع تأمينه لنفسه، فيستطيع تأمين أكثر منه من خلال الآخرين. وهكذا يكون الصديق لنا سبباً لكل سعادة وفرح. لأنه من المستحيل أن يُصاب مرء ما بأذى وهو محاطٌ بكثرة من الحراس. حتى حراس الإمبراطور الشخصيون ليسوا حريصين كما الأصدقاء. فأولئك يحرسون بالخوف من النظام أما هؤلاء فبالمحبة. المحبة أكثر إلزاماً من الخوف. بالواقع، قد يخشى الملك حراسه أما الصديق فيثق بأصدقائه أكثر من نفسه وبسببهم لا يخشى المتآمرين عليه. إذاً لندبّر هذه السلعة لأنفسنا: الفقير حتى يتعزّى عن فقره، والغني حتى تصبح ثرواته في أمان، الحاكم حتى يحكم بسلام والمحكوم حتى يكون له حكامٌ صالحون.
إن الصداقة فرصة لعمل الخير ومصدر للرحمة. حتى بين الوحوش، فإن أكثرها وحشية وصعوبة مراس هي تلك التي لا تتآلف معاً. نحن نسكن المدن وعندنا أسواق حتى نبني علاقات مع بعضنا البعض. هذا أمر به الرسول بولس عندما حرّم قائلا ” غَيْرَ تَارِكِينَ اجْتِمَاعَنَا كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ”(عب 10: 25). إذ لا شيء أسوأ من العزلة وغياب المجتمع والعلاقة مع الآخرين. قد يتساءل البعض إذاً: ماذا عن الرهبان، وعن المتوحدين على رؤوس الجبال؟ إنهم ليسوا بدون أصدقاء. لقد نزحوا عن جلبة الأسواق ولكن عندهم الكثيرين ممَن هم على اتفاق معهم ومرتبطون ببعضهم البعض في المسيح. وهم قد انسحبوا إلى هناك لكي يتمموا هذا الأمر. ولأن الحماسة في الأعمال تقود الكثيرين إلى النزاعات فهم قد تركوا العالم ليحصّلوا المحبة الإلهية بقوة أكبر. قد يقول المشكك: ماذا؟ إذا كان الرجل وحيداً، كيف يكون له أصدقاء؟ أنا بالواقع أتمنى لو كان ممكناً أن نعيش كلنا معاً ولكن في الوقت نفسه أن تبقى الصداقة ثابتة. إذ ليس المكان ما يصنع الصديق ، إلى هذا، فالرهبان عندهم الكثيرون ممن يحترمونهم، ولا أحد يحترم إلاّ الذي يحب. فالرهبان يصلون لكل العالم وهذا أكبر دليل على الصداقة.
وللسبب نفسه نحن نقبّل بعضنا بعضاً في القداس. حتى نكون واحداً مع أننا كثيرون. ونحن نصلي من أجل غير المؤمنين والموعوظين والمرضى وثمار الأرض والمسافرين في البر والبحر. لاحظ قوة المحبة في الصلوات وفي الأسرار المقدسة وفي التعليم. إنها سبب كل الأمور الحسنة. إذا التزمنا بهذه الوصايا مع الانتباه اللازم فسوف نقدر على تدبير الأمور الحاضرة جيداً ونحصل على الملكوت.